هل يمكن تصور أية فرح أو عرس أو مناسبة دون أن تكون هناك زغاريد في هذه المناسبة. تكون زغرودة النساء فيها تشكل جزء أساسي أو متمم
لأغاني الأفراح والمناسبات السعيدة.. والزغرودة تعد من أساسيات الأغنية الشعبية التراثية. وعادة ما تقوم بهذه العملية ( الزغرودة) قريبات العريس أو صاحب الفرح أو المناسبة.
تعود بنا الذاكرة إلى الوراء ثلاثة آلاف وخمسمائة عام مضت إلى مملكة اوغاريت وذلك من خلال قراءتي لكثير من الرقم الفخارية المترجمة فيها تبين لي بأن الموروث الثقافي لهذه المنطقة ما زال حياً في كثير من جوانبه في مجال رقص الدبكة السورية الشهيرة التي في مراميها البعيدة مناشدة قوى الطبيعة للعطف على الإنسان ومساعدته وطلب الغوث والرحمة أو سقوط الغيث وحفظ المواسم والمراعي..
ونحن يدفعنا الفضول لنسأل أنفسنا ما هي ( الزغرودة ) حتى تفعل هذا الفعل؟!
حول هذا السؤال تتمحور دراسات مهمة أصدرتها وزارة الثقافة السورية مشكورة عندما قامت بتدوينها وتسجيلها وحفظها في سجلات ومطبوعات بهدف دراستها وتوصيلها إلى الأجيال عساهم يستفيدون منها في تطوير التراث الشعبي ونشره في زمن الحفاظ على الهويةو » الزغرودة» لغة تعود إلى الفعل الرباعي « زغرد» ومعناه رفع النساء صوتهن في الأفراح. أي ترديد الصوت في الحلق وهديره به وجمع ( الزغرودة) زغاريد. والزغرودة لدى العامة هي الحنجرة وتدعى ( جوزة الحلق ) وكل ذلك يعود لترديد الصوت في الحلق عبر تواتر وانسجام واضحين. ويطلق على الزغرودة في كثير من المناطق السورية اسم ( الزلغوطة) وهي معروفة بهذا الاسم حصراً. ولعلها نحتت من كلمتي ( زلغ ولفط) أو هي تحريفاً لكلمة « زغرودة» فكثيراً ما تقلب الحروف في اللهجات العامية ..
وتستطيع أي امرأة أن تقوم بالزغرودة وهناك أيضاً مزغردات خاصات يعرفن بهذا الأسم ويتمتعن بسمات خاصة منها جمال الصوت وقوته وارتفاعه ويتقن عملية الزغردة ويثرن الفرح ويضفين عليه سحر الزغرودة وروعتها وعادة ما تقوم بهذه العملية قريبات العريس أو صاحب الفرح.
ومن يبحث في التراث السوري عن تاريخ الزغرودة يكتشف مجموعة كبيرة ومتنوعة ونادرة من الزغاريد التي تحمل في طياتها تاريخ الناس وبيئتهم وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية.. والسؤال الذي يطرح نفسه من ألفّ هذه الزغاريد؟! .. الجواب مؤلفو الأغاني الشعبية التراثية اجمالاً مجهولون عادة لذلك فالبحث عن مؤلفي الزغاريد الشعبية بحث مضنٍ وشاق لا يمكن الوصول إليه .. ويبدو بأن هذه الزغاريد قد ألفت في أزمنة مختلفة بعضها قديم لا يمكن تحديد زمن له وبعضها يمكن أن يعرف الزمن الذي قيلت فيه وذلك من خلال الكلمات أو بعض الشخصيات التاريخية والأمكنة الجغرافية أو بعض الدلالات الدينية.. وأكثر الزغاريد التي تتصف بصفات خاصة هي زغاريد الأعراس لتميزها عن غيرها اذ نجد فيها حماسة أكبر وكلمات أرق وجمالية أعلى.
وتقسم إلى عدة أقسام نذكر منها : زغاريد استقبال المدعوين زغاريد للعروس وقت الدخلة وزغاريد الدبيكة إضافة إلى زغاريد العريس وقت الحلاقة.
ونذكر زغرودة تقال في وصف العروس:
« فايته من دار طالعة من دار
بإيدها محمصة بحجة بتشحد نار
وكمن شفتها قلت العفو يا ستار
كان القمر بالسما شو نزلو عا الدار..»
والزغرودة كانت لها دلالات طبقية واجتماعية أهمها الصراع بين الغني والفقير وفي هذه الزغرودة أوضح وأتم معنى:
يا عروسة ويا بنت الدلال والخير
ويللي طلع بجهازك ألف كم وديل
ويللي طلع بجهازك الف سرية
ومية عبد يشدوا بركاب الخيل
أما زغرودة البنت الفقيرة فكانت تقال :
« زقزقت العصفورا
وفتحت المنتورا
وفرحت الحزينة
وانجبرت المكسورا»
أما التعارض بين البنت التي بشرتها بيضاء أو سمراء فحدث ولا حرج تقول هذه الزغاريد:
يأسمر السمر أهلك عيروني فيك
وكل ما عيروني زاد حبي فيك
أنت الحبق عالطبق وأنا الندى برعيك
وأنت القمر بالسما وأنا النجم بحميك..
أما التغني بالبنت البيضاء فيقال :
« يا عروسة ويا بيضا ويالضّة
ويا سمكة البحر بزرد فضة
ويا ما عطينا مال لبوكي وليرضى..
وأصلحوا بيناتنا ما عاشت البغضة..»
ومن العادات التي كانت تواكبها أفراح من نوع خاص هي أفراح الطهور أو الختان حيث تبدأ المزغردات منذ طهور الطفل وحتى الدبكة وصنع الطعام بالزغردة والمهاهاة في جو حماسي وتتضمن معاني عديدة في الحث على السرعة والنمو والفخر بأهل المطهر وتمني الحياة المديدة والسعيدة للمختون وتشترك في الزغردة الفردية في القرية ام المختون واخته وقريباته في زغرودات وأصوات قوية تصل إلى أبعد البيوت ليسمع القاصي والداني أن فلاناً يقيم حفلة ختان لولده لتشاركهم الفرحة جميع أهالي القرية نذكر من هذه الزغاريد..
يا مطهر الزين خفف ايدك شوية
يا مشتل الريحان لا تقسى على بنيّي
كل شبر بندر ربيتو يا عينيي
رشرش ندى الورد حتى تخلص النيّة ..»
اضافة إلى انه هناك زغاريد كثيرة لا حصر لها وكل زغرودة لها خصوصيتها ومكانها وزمانها فهناك زغاريد تقال عن خروج قريب من السجن والعودة من السفر وهناك زغاريد الحج وزغاريد أخرى خاصة في مناسبات زيارة الرؤساء أو القادة اضافة إلى وجود زغاريد ذات دلالات دينية ونفسية واجتماعية..
وأخيراً بقي أن نقول أن الزغرودة قد عاشت وما زالت في وجدان الشعب وفي تراثه واغانيه وموروثه الشعبي منذ قرون طويلة هذه الزغرودة التي هي جزء لا يتجزأ من هوية ووجدان شعبنا الأصيل المتأصل في القيم قدم التاريخ نحن احوج ما نكون اليها في هذا الوقت في عالم المتغيرات المتسارعة..
غسّان القيّم..