كتب المحامي الاستاذ محمد محسن "
…..إلى أي مكــــان سيـــأخذ " ترامــــــــــب " العــــــــــــالم
………….الانتقال من " العولمة " إلى " العالمية " يحتاج إلى قائد تاريخي
……………….ترامب يرفض العولمة الأساس الذي بنيت عليه الهيــــــمنة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اذن يجب أن نقر أولاً أن ترامب لم يأت من القمر ، بل هو ابن حقيقي للواقع الاقتصادي السياسي الثقافي العسكري المأزوم للولايات المتحدة بكل تعقيداته ، المتفاعل مع الواقع الدولي وبخاصة الواقع الأوروبي الذي يعيش نفس الظروف التي تحيط بأمريكا ، والمتقاطع معها على أكثر من صعيد ، وبالتالي من العبث أن نعتقد أن ترامب سينقل الولايات المتحدة إلى " العالمية " بالرغم من تأكيده في غالبية خطبه أنه سيتخلى عن مفهوم العولمة الاقتصادية ، التي تعتبر البنت الشرعية للمصالح الأمريكية في السيطرة على الأسواق العالمية ، بل لا يجوز أن نحلم بذلك مجرد حلم ، لأنه أولاً لا يملك خصائص الرجل التاريخي ، وثانياً لأن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأمريكي والدولي لا يسمح بذلك .
.
هذا الرجل صرح مراراً أنه سيعيد الشركات الأمريكية " متعدية الحدود " إلى داخل الأراضي الأمريكية ، بعكس السياسة الاقتصادية التي انتهجها جميع الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ، وسيوقف العمل بسياسة السوق المفتوح ، وينتهج السياسة الاقتصادية الحمائية والعودة إلى داخل الأسوار الأمريكية ، وذلك لمواجهة غزو السلع الصينية للسوق الأمريكية ، أي أن أمريكا بدلاً من أنها كانت تغزو الأسواق العالمية اقتصادياً هي الآن تغزى ، ألا يشير هذا إلى تغير سيكون له منعكساته على الواقع العالمي برمته ؟.
ولكن تخلي ترامب عن سياسة العولمة التي أعلن عنها لا يعني انتهاجه الطريق المعاكس لها " العالمية "، فالتشكيلة الرأسمالية تتعارض بنيوياً مع حرية الشعوب الاقتصادية والسياسية ، بل هي والاستعمار ، والوصاية ، والتسلط ، حتى والحروب ، أقانيم متلازمة لا فكاك لأحدهما عن الأخرى لأن كل منهما تستدعي الاخرى .
فالعالمية : ثقافة التنوع ، وتنوع الثقافة ، وتفاعل المجتمعات الانسانية ، وتسييد للقانون الدولي الذي يجب أن يحكم العلاقات بين الدول ، وترسيخ الدولة الوطنية ، والتفاعل الحر بين أمم الأرض . فهل يعقل أن يفكر ترامب هذا مجرد تفكير بالتخلي عن أهم شرط من شروط الرأسمالية الاحتكارية ؟,
.
أما العولمة بالمنظور الأمريكي فهي : السيطرة الاقتصادية والسياسية على الشعوب المستهلكة والتابعة ، وثقافة التنميط ، وسيطرة الأقلية المنتجة على مقدرات الوطن كله ، وصولاً إلى ازاحة الدولة الوطنية لصالح الدولة الشركة ، أي يصبح دور الدولة حماية مصالح الشركات التي تمثلها ، وفرض السيطرة على الأسواق العالمية .
وإن قراءة عجلى لشخصية هذا الرئيس " ترامب " من خلال تصريحاته النارية المتناقضة التي تبدو وكأنها تسير خارج السياق ، والتعابير التي يرسمها على وجهه ، وحركة يديه وانفعالاته ، وردوده الغاضبة ، وقراراته الأخيرة المنفعلة والعجلى ، والظروف الغامضة التي أحاطت بوصوله إلى البيت الأبيض ، وانتمائه إلى النخبة الثرية ، كلها لا تشي بأن تغيراً دراماتيكياً ايجابياً سيطرأ على السياسات الأمريكية تجاه العالم حتى وتجاه الداخل الأمريكي ، بل بالعكس تنذر بمفهوم الفوضى السياسية الانتقائية على جميع الأصعدة ، في الداخل الأمريكي وفي خارجه .
.
طبعاً لم ينزل ترامب من القمر كما قلنا ، ولم يأتي من خارج التشكيلة الاقتصادية ، السياسية ، الاجتماعية ، الثقافية ، العسكرية ، التي تحكم الولايات المتحدة وتتحكم بها ، اذن من أين أتى ؟؟ يشطح ذهن المحلل السياسي في مثل هذه الحالة ـــ كشطحات المتصوفة ـــ فيقول : نعم ترامب وكل الرؤساء الذي جاؤوا قبله والذين يعاصروه ووصلوا سدة الحكم في أوروبا ، هم أبناء واقعهم والظروف المحيطة بهم ، ونتاج العقل الجمعي الغربي الذي أنتجهم ، كما بينا سابقاً ، وبمرور سريع على جميع الرؤساء ، تقودك الحالة إلى استنتاج أن المرحلة الراهنة ، ومنذ عدة عقود لم يفرز الواقع السياسي ، قيادات تتوازى مع القيادات التاريخية التي كانت قد وصلت إلى الحكم في مراحل تاريخية سابقة ، ـــ وهذا لا يعني أننا نخرج السابقين من مواقعهم كأمراء استعماريين ، ونغفر لهم ما فعلوه جميعاً بتاريخ الانسانية ، الذي قسموا العالم فيه إلى معادلة غير متساوية … ……فقراء حتى الموت جوعاً … وأغنياء لا يدركون حجوم ثرواتهم ـــ ولكن نتحدث عن المقدرة في اتخاذ القرار الصعب في الزمن الصعب ، مثال : ـــ " كندي " الذي اتخذ قراره برفع الحصار عن كوبا ، الجزيرة الصغيرة بعد معركة الصواريخ السوفييتية " أ و " ديغول " الذي قرر الانسحاب من الجزائر بعد احتلالها / 130 / عاماً ـــ أما الآن فانهم لا يستطيعون اقناع حتى زوجاتهم بقراراتهم ــ ككلنتون ــ .
.
إلى الدرجة التي يمكن أن نقرر أنهم قد حادوا بعض الحيدان وبنسبة ما عن مفهوم المصلحة " البراغماتية " التي تطبع التشكيلة الرأسمالية بسماتها بل تقوم عليها ، ومالوا باتجاه السياسة المنفعلة ، سياسة الحقد ، والتشفي ، والتخبط ، ويصرفون جل اهتمامهم بمداهنة شعوبهم بهدف الوصول إلى سدة الحكم فقط ، وهذا يسم سلوك جميع الرؤساء الغربيين الآن ، إلى درجة أنهم يثيرون عندك بعض الشفقة ممزوجة بكثير من التشفي ، المنطق يقول أن هذا السلوك العام يجب أن يكون ابن الواقع بكل حيثياته ومكوناته الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، وهذا أمر طبيعي ومنطقي ويتوافق مع معطيات العلم ، لأن الواقع بكل تشابكاته يشكل حصيلة تنتج وعياً جمعياً والوعي الجمعي ينتج ويفرز قياداته التي تشبهه .
لذلك يمكن الاستنتاج وبكل ثقة وقناعة أن الدول الرأسمالية الغربية بما فيها أمريكا بقضها وقضيضها تعاني من أزمة على جميع الأصعدة ، وحالة عدم استقرار ، وإذا ما أخذنا ما درج عليه نظام السوق الرأسمالي تاريخياً نجده يخضع لدورات وانكماشات اقتصادية ، فهل وصل الغرب إلى هذه الحالة أو يكاد ؟ ، نعم انه عصر التخبط الذي سينسحب حتماً على السياسة والسياسيين الأوروبيين والأمريكيين .
فهل كانت مشاعر القطب الواحد ، التي تعكس الاحساس بفرط القوة ، هي التي طبعت السياسة الغربية بتلك الحالة من الارتجال ؟ ، والاستهتار حد الاستخفاف بالآخر ؟، والتعالي على الشعوب ؟، لعدم وجود المنافس الدولي المهدد ، لأنها كانت ولا زالت تعتقد أنها كيفما ضربت ستصيب ، وأن العالم مجرد بيادق تتحرك وفق ما تريده قياد ة العالم ، فهل هذا ما قادها إلى ما هي عليه الآن .؟
.
ومع اعترافنا أن القرن العشرين قرن الوفرة ، والعلم ، كان قرنا أمريكاً كما كان القرن الثامن عشر قرناً فرنسياً ، والتاسع عشر بريطانياً ، لأن أمريكا وظفت واحتكرت كل ما أبدعه العلم في كل المعمورة لمصلحتها في القرن المنصرم ، بعد أن سرقت مئات الآلاف من الطاقات العلمية من كل أنحاء العالم أيضاً ، وسخرت انتاجهم العلمي لصالح الشركات العملاقة التي تهدف الربح وليس شيئاً غير الربح ، أما الجانب الانساني من المردود العلمي فهذا ليس شأناً من شؤون الشركات الأمريكية !!.
إلا أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن الشعوب بعد ان طغى الغرب وبغى ، وحول مجتمعاته الشعبية إلى مجتمعات متعبة ، ويائسة ، وغير مهتمة باي نشاط ثقافي أو فكري بحيث فقدت اهتماماتها بجميع صنوف المعرفة ، تعمل ليل نهار من أجل تحصيل رزقها ، حتى الموسيقى باتت غاضبة وأصبحت عبارة عن صراخ يحاكي الغرائز بدلاً من أن تحاكي مشاعر الناس وأحاسيسهم النبيلة ، وتركت السياسة لأصحاب الشركات المسيطرة ، التي يتوزع ولاءها على حزبين فقط ، لهما نفس الفلسفة ، ولكن لكل حزب شركاته التي أوصلته إلى سدة الحكم ، وبالتالي هو معني بخدمتها ، فلا نقابات ولا أحزاب ولا هيئات مجتمع مدني .
فماذا نستقرئ من الواقع الأمريكي الجديد ؟؟!!.
لما كانت أوروبا كلها تعيش في مأزق مادي وسياسي ، ولا تخرج عن ذلك أمريكا ، لذلك ستضطر أمريكا إلى تقليص وجودها العسكري في أوربا ، وستستغني عن بعض قواعدها العسكرية في منطقة الشرق الأوسط ، في الوقت الذي فقدت ثقتها بمحميات الخليج ، لأن تلك المحميات باتت تتحمل وزر استنبات الارهاب ولو كان بالرعاية الأمريكية ذاتها ، ثم ولعدم قدرتها على النهوض بالأدوار التي كانت تقوم بها سابقاً ، بعد أن خسرت حربها في مواجهة حلف المقاومة ، وهذا ينطبق على " اسرائيل " ، لذلك سترى المنطقة بعض النور من خلال الانقشاعات المتتالية للغيمة الأمريكية الأوروبية السوداء عن المنطقة ، ولكن هذا لا يعني عدم قيامها بالكثير من الأعمال العدائية المرتجلة ، التي تشبه صورة ترامب غير المستقرة ، والذي جاء في الوقت الذي تواجه فيه أمريكا حالة من عدم الاستقرار لم تشهدها من قبل ، ويبدو أنها ستتوجه شرقاً بهدف التضييق على الدول الكبيرة كروسيا ، والصين ، والهند ، التي باتت تهددها ، مع ضعف ملحوظ في قدراتها المادية والعسكرية ، وليس مستغرباً أن يحاول ترامب كسب ود روسيا وذلك بتقديم بعض التنازلات لها في أوكرانيا مثلاً بهدف ابعادها عن الصين وايران ، وهذا ما حاول ترامب الافصاح عنه أكثر من مرة في خطبه .
ولكن وبخلاصة عامة ترامب رجل غير سياسي ، وليس له خبرة سياسية ، وجاء في ظروف أزمة وحالة عدم استقرار ، وفقدان الشعوب الغربية الثقة في قياداتها ، كما أن شخصيته تشير إلى ذلك التقلقل ، وعليه سنرى الكثير من الارتجال واتخاذ قرارات سياسية غير مدروسة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" فهل ستنقذ فلسفة الشرق الغرب من فرديته " كما قال جون ديوي ، و برتراند رسل ، وبيرغسون ؟؟؟!!! ليس حلماً فحركة التاريخ موارة .