وهو يتابع مسرحية هاملت للمرة الأولى على خشبة المسرح . تذكر أنه شاهد طبعات كثيرة منها في صالات السينما، وفي كل طبعة شاهد ممثلين أكفاء، وتصويرا رائعا جعله يعتقد في كل مرة أنه يرى هاملت شخصيا مع كل الشخصيات التي عاشت معه في تلك المأساة الخالدة . أما في المسرح فقد بدا له الأمر مختلفا منذ اللحظة الأولى، وأكثر ما لفت انتباهه هو أنّ التمثيل كان واضحا بقسوة .
لكنه وقد جاء ليتجرع مأساة هاملت حتى الثمالة . استمر بمتابعة مشاهد المسرحية وفصولها مركزا انتباهه على مراحل تطور شخصية هاملت وشاعريته المجبولة بيأس تام إلى أن حضر في بداية الفصل الخامس .. الفلاحان ( حفاري القبور ) حيث بدا في تلك اللحظات وكأنه فلاح ثالث، ولأنه كان موجودا في الصف الأول، وأمام المنصة مباشرة .. مع انتباهه الشديد، وانعكاس الضوء المنبعث من المنصة على وجهه في كثير من الأحيان . جعل هاملت الممثل يتابعه بنظراته وكأنه يمثل له ..
مع ذلك فقد بقي الأمر طبيعيا إلى أن قال الفلاح الأول مخاطبا الفلاح الثاني :
– الآن نطقت بالحق ، ومما يبعث على الأسف أن يباح للأعيان في هذه الحياة الدنيا أن يغرقوا أنفسهم، أو يشنقوا أنفسهم أكثر مما يباح لغيرهم من عامة المسيحيين . لكن لا بأس .. إليّ بالمسحاة . لأن ليس في هذا العالم أعرق نسبا من الزرّاع والحفارين وصانعي القبور . هؤلاء الذين يمارسون مهنة
آدم .
وبما أنّ هاملت وصديقه هوراشيو كان يصغيان إلى الفلاحيْن . قرر هاملت الاقتراب منهما لتبادل الحديث معهما . فإذا بالفلاح الأول يعطيه جمجمة مهرج والده الملك، وقد عرفها لأنه هو من حفر قبره . فأخذها هاملت وخاطبها متذكرا تهريجه عندما كان صغيرا، ثم قال مخاطبا هوراشيو . ـ ( أتظن يا هوراشيو أنّ الإسكندر هكذا كان في قبره ) فيجيبه هوراشيو ( نعم يا سيدي ) فيقول هملت ( عجبا أي مصير نصير إليه يا هوراشيو ؟ لماذا لا نتبع بخيالنا مصير ذلك التراب النبيل لجسد الإسكندر حتى نجد أنه استحال طينا يسد به ثقب برميل ) يقول هوراشيو ( إنّ هذا يكون إسرافا في التصور قليل الجدوى ) فيقول هملت ( كلا لعمري .. إنه من الممكن أن نتتبع ذلك دون غلو أو إسراف حتى نهتدي إلى ما ننشده )
لكنّ هاملت لم يقل ما ننشده بحجة أنّ موكب الملك قادم، ولا بدّ له ولصديقه من التخفي .. فقال الرجل مستنكرا : حتى شكسبير يحتال علينا . لأنه وبدل أن يخبرنا ماذا ننشد ، وماذا يجب أن نفعل .. هرب من الإجابة وهرّب هاملت أيضا .. أما التمثيل فهو باهت .. محروق مثل زيت المحركات المستهلك .. فقال الممثل مخاطبا الرجل :
– ليتك تخبرني ما الذي لم يعجبك في هذه المسرحية ؟
قال الرجل :
– ليست المشكلة في المسرحية . لأنها مسرحية، وأنت ممثل تؤدي فيها دور البطولة . لكننا في زمن يخلو من بطل مثل هاملت، ويخلو من فلاحيْن يتقنان الأناشيد وهما يحفران القبور .. كما يخلو من صديق وفيّ مثل هوراشيو .. أما تمثيلكم فأراه باهتا جدا .. بل إني أرى أنّ الحياة كلها تغيرت . حتى لغتها تغيرت .. الحكام زعران، وطبعا بينهم الأزعر الكبير، والأزعر الصغير . أما الجرائم فيعلنها أصحابها من الكبار والصغار قبل وقوعها .. حتى عم هاملت الذي صب السم في أذن أخيه الملك ليس مضطرا في هذا الزمن لأن يفعل ذلك خفية . أما أوفيليا العفيفة الطاهرة . فما كانت لتموت في هذا الزمن .. لا حزنا من أجل والدها المقتول، ولا هربا من حبيبها القاتل . لأنها وبكل بساطة تستطيع الآن أن تقبض تعويضا كبيرا من المال، وأن ترفه نفسها إلى الحد الأقصى .. هل فهمتني أيها الممثل ؟
– نعم .. فهمتك، وأستطيع أن أزيد عليك . إذ أنّ هذا الزمن يلتف حولنا مثل دوامة الماء مزينا بكل ألوان الفجور، وبحرفية عالية المستوى في كل شيء، وأسوأ من كل ذلك هو التهذيب والرقي الذي يطلبه منك قاتلك . يا له من زمن مشرق بإباحية قاتلة !! أما هاملت وزمن هاملت . فهناك أشياء كثيرة مختلفة، ولهذا نعود إليه .. هل فهمتني أيها الرجل ؟!
– نعم فهمتك، وأظن أنني أخرتك عن إتمام المشهد الذي كنت تمثله . لذلك سأخرج الآن ..
– إلى أين ستذهب ؟
– سأخرج أولا، وستقودني خطواتي إلى مكان ما . بعد ذلك لا أعرف ما قد يحدث . لكن أظن أنني سأعود إلى عملي .
– ماذا كنت تعمل ؟
– كنت حفار قبور . لكنني توقفت عن هذا العمل لأصبح ملكا . غير أني وكما ترى لا أستطيع أن أكون ملكا أزعر كهؤلاء الملوك الذين يحكمون العالم، ولن يكون لي مكان بينهم ما لم أكن مثلهم . لذلك سأعود إلى مهنتي . على الأقل هناك .. في المقابر .. سأعمل في مهنة آدم . هل تشجعني ؟
– نعم . أشجعك . وفقك الله .
– شكرا .. مع أمنياتي لك بأدوار أفضل .
هذا ما قاله الرجل قبل أن يخرج بتلك النظرة الحانية على تلك القبور التي فتحها خلال زمن طويل . يونس محمود يونس _ سوريا