كانت تجلس بقربي على سريري في أجمل صورة لها ..وأنضر خلقة..وكأنها زهرة نرجس برية ..همست إليَّ وهي تتلو بعض الآيات القرآنية الكريمة..وتعصر الكمادة الباردة لتعيد فردها على جبهتي التي تغلي من حرارة الحمى..( حبيبتي يا بنتي ..لا تخافي..سترتاحين بإذن الله ..شافاك الله وعافاك ..)
نعم أحسست بحنان أناملها ..وسمعت تغزّلها…
ياه لقد سافرت إلى بعيد طفولتي ورسم تفاصيلها…
نعم هكذا رأيتها..بقمطتها البنفسجية المحلولة العقدة وقد انسدل شعرها المسترسل الطويل متماوجاً بخيوط الفجر من غلس الليل…هي كعادة نساء الجيل الماضي اللائي يتباهين بإطالة الشعر وانسيابه حتى الخصر الضامر الرشيق…ولاغريب في ذلك ..فالعقيدة الجمالية كامنة لدى الشعر الطويل منه..ولا تزال توصيني ..إياك وقصّه..دعيه للشمس ..للربيع..للنسمات ..
يتعشق مكنونات الطبيعة ..
كل هذا..كان حلماً شهياً ..وكأنها حضرت إلى بيتي بعد غياب طويل لترقيَني وتزاول مهنة الأم المقدسة ..حيث الملقى الندي ..الثغر الباسم..الريحان العاطر..والعين المؤرّقة في الليل والنهار فقط..
نعم هكذا حلمت فجر هذا اليوم الجمعة الواقع في ٢٠ آذار ٢٠٢٠ م
نهضت مرتبكة ولكن بسلام وطمأنينة كبيرين ..كانا قد جافياني منذ حين ..وأمي من بعثت هذا الشعور الغريب في نفسي…أشحت نظري الحائر أبحث عنها في غرفة نومي ..نعم رأيتها ولكن طيفها سرعان ما اختفى..
يا الله أي حلم هذا ؟ وما الإشارة منه ؟
أمي الحبيبة تملك قدمين ناعمتين كالأطفال..لكنها لم تعد تقوى على الحركة الدؤوبة كعادتها..أمي ست الكل ..لكن الزمان وتقلباته لا تترك إنساناً على حاله ..أمي بقيت المتربعة عرش الجمال..فهي الوردة الجورية التي تملأ الأجواء طيباً وبخوراً وجمال…تعطي وتبهج القلوب وتمسح الهموم والأحزان ..رغم ما تحمله من أحزان ..
ومرّتْ الحياة أمامي كشريط فيلم بالأبيض والأسود نقياً دون زخرفة وبديع لون ..حقيقياً صافياً كزجاج الكنائس..بل كصفاء العينين العسليتين المعشوشبتين ..لأمي..
أمي ..آه لو تعرفون أمي..السيدة الستينية التي أثقلتها الهموم و قصمت ظهرها..ولم يترك لها الموت وقتاً ضئيلاً للهناء.. حين توخّى ولديها الجميلين أحمد..و علي ..رحمهما الله…وهما في ميعة الشباب والعنفوان ..أمي التي صبرت وتحملت آلام الفقد والحرمان لتحفظنا من شرك الحزن وتنقذنا من مهب رياحه…صحيح أن أسرتنا كانت كبيرة ..لكن أمي خلقت الوقت لتصادق كل واحد فينا..
أمي.. الإنسانة المؤمنة بقضاء الله وقدره وهذا ما تعلمناه ..أن لا اعتراض على حكم الله ..
وقد تخلّقنا بأخلاقها الفاضلة ..ونحن نحاكي تصرفاتها..ونتمنطق بفلسفتها ورؤاها…عند أمي لا معيار للوقت ولا هدر له..هو السيد ولا وقت نقضيه إلا بعمل أو طلب علم أو قراءة للقرآن..وهي النحلة النشيطة تتنقل من عمل إلى آخر…كانت تخيط بمهارة ..وتحيك الصوف ..وتعمل في البستان..وتزرع وتحصد وننعم بخيرات أرضنا..الروضة الغنّاء..ولا مجال لطعام السوق والمطاعم ..فهي الطباخة الماهرة التي تضع كل أنفاسها الطيبة في إعداد الأشهى من الطعام ..
أمي حضن دافئ وقلب كبير..يحمل ويحمل..ويعطف ويحن ويجزل العطاء..أما غضبها فهو الشريد ..يُكاد لا يُذكر ..
أمي..الباسمة كالنوار وأنا مارأيتها قط إلا زهر الربيع وإشراقه الضحوك…
نعم هذا ماحلمت ..وبقيت طوال نهاري إلى وقت كتابتي هذه الكلمات وأنا الحالمة في ذكريات الطفولة والشباب..في فضاء رحيب..فيه شلوح من قطوف..تارة أضحك ..وأدعو بالسقيا لهاتيك الأيام ..وأخرى تغرورق عيناي بالدموع الباردة والحارة..هي الذكريات وما تصنع..!!!
برأيكم ..ما الإشارة..؟
أقول ..أن أمهاتِنا ..هن الموكلات بالخليقة ..بمهمة إلهية مقدّسة ..هنّ من يسهّلن السبل لتطويع الخيال إلى حقيقة..ومازالت أطيافهن ترعانا والدعوات..
أليست الجنة بطولها وعرضها وما حوت من نعيم وهناء..تحت أقدام الأمهات…
أمي الغالية أم قصي ..حماتي العزيزة أم رمضان …أختايَ الرقيقتان ندى أم علي ..هدى أم علي ..كل عام وأنتن الخير والفرح والسعادة والهناء..
ولكل الأمهات.. القريبات..والبعيدات..والصديقات.الجميلات فقط..🥰 كل عام وقلوبكن غامرة بالأطياب..
تغريد الخليل..
٢١ آذار ٢٠٢٠ م