إن الطريقة الأمثل لتقدير الأشياء هو تخَيُّل فقدانها، حيث يحتاج ذلك إلى تجَرَّدِ سامي ومواجهة حقيقية مع النَّفس ، يتجسد ذلك بوضوح
عندما يتهدد البقاء ،فتأخذ هذه المواجهة بعداً حقيقيا يتطلب الكثير من الجرأة والشجاعة ، وَيَتَّكِئُ الإنسان على حواسه فِي محاوَلَةٍ شجاعةٍ منه للْمُضِيِّ قدماً ، ولعلَّ الحاسَّةَ الأَكثر غرُورًا وَالأَقوَى في ميزانِ العواطفِ التي تساعده في سعيه هذا هي حاسَّة الشَّمِّ .
باعتبار الرَّوائح هي الأَحاسيس الوحيدة التي تسلُكُ مساراً مباشِرًا إلى المراكِزِ العاطِفيَّة والذّاكِرَة فِي الدِّماغ . هذا الارتباط الغَريبُ بين العواطف والرَوائِحِ لَهُ أَهَمّيَّةٌ كَبيرَةٌ تنعكس بشكلٍ مُحَقَّقٍ عَلَى البقاء ، حيث إِنَّ الطَّريقَةَ التي نستخدم بها العواطف لفهم العالم والاستجابة له فِي الأَحداث الجَيِّدَة والسَّيِّئَة تعتمدُ عَلَى حاسَّة الشَّمِّ ، تلك التي تمتلك ذاكرة تَصويريَّةً ، سامِحَةً لِلذّكرياتِ أَنْ تِعصفَ بِروحِ الإنسان، يبكي عندما يَشُمُّ عِطْرَ مُؤْنِسٍ راحِل مُتَخَيَّلًا وجههُ ، أو يبتسم بروحه عندما يَشُمُّ رائِحَةَ الأوراق المُلَوَّنَةِ لكتب أطفاله عَائِدًا فِي ذاكرته إلى مقاعد الدِّراسَةِ ، أو َيخَضُرُّ العيد فِي عينيه عندما يشمُّ رائِحَةَ الكعكِ فِي أي وقتٍ . عندما اكتسح كورونا العالَمَ ، نُصْحَ بضرورةَ عزلِ المرضى وَعَلَى الرَّغمِ مِنْ أَنَّ العُزْلَةَ قد تكون فرصةً لمواجهةِ النّفس وتقدير الأشياء ولكِن عِوَضًا عن ذلك ساد الارتباك وغزت الفوضى الفكرية أنحاء العالم ، وأصبحَ القلق وأعداد المرضى هو ما يتصَدَّرُ العناوينَ الرَّئيسيَّةَ فِي نشرات الأخبارِ ، حيث باتَ النّاسُ يدحلونَ تِبَاعًا فِي منطقة القلق والاكتئاب ، كَأَنَّهَا الخندق الحصري لرواد كورونا.
مِن الغريب أن تشعر بالملل عندما تعزل مع نفسك، هذه الذات التي تقضي طوال الوقت معها وبداخلها ؟ ؟ ؟ ولكن يخفف وطأة السؤال هذا معرفة كنه العلاقة بين العزلة الاجتماعية والوحدة بوصفها كعلاقة مُعَقَّدَةٌ ، وهنا تبرز المناعة النَّفْسيَّةُ كمفهومٍ فَرَضِيٍّ يساعد على مواجهة الأزمات وَمُقاومة ما ينتج عنها من أفكار ومشاعر حيث يعتبر تحصين النَّفْسِ سِلاحَ سِرّي يَحْمينا مِنْ كُلِّ شيء وينقذنا من كل سوء ومن أهم وسائل التحصين هذا هو حسن استخدام حاسَّةُ الشَّمِّ.
تلك الحاسَّةُ التي تفتح الباب على أبعادٍ أَقَلَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ نقول عنها أنها بلا حدود ، حَيْثُ أثبتت الدِّراساتُ بوضوح أَنَّ الروائح تعدل بشكل مَلْحوظٍ أَنْشِطَةَ موجا ت الدماغ المختلفة مُعَدَّلَةً بذلك خيبة المزاج مفرزة في معظمها ما يسمى بهرمونات السَّعادةِ . . إِنْ اَلْلافَنْدَرَ ، الروزماري ، النَّعْناعَ ، المردقوش ،الزعتر البري ، اللَّبّانِ ، خشب الصَّنْدَلِ ، خشب الأَرْزِ ، الورد، كُلُّ هذه الرَّوائِحِ لَهَا تَأْثيرٌ عَلَى النّاقِلاتِ العَصَبيَّةِ مساعدة في خَلْقِ رؤيَةٍ جَميلَةٍ ، معززة الثِّقَةِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حولَ الإِنْسانِ سخَّر لَخيره ، مكرسة فكرة أكيدة أن البقاء هو ناتج فطري وليس سبب وظيفي يسعى الإنسان إلى تخليقه .و لعل فقدان حاسة الشم لمرضى كورونا ، مؤشر تكريسي للعلاقة الراسخة بين هذه الحاسة والوجود الإنساني، عسى أن نعطيها مزيدا من اهتمامنا اليومي ، نقويها ..نعززها …نشكرها …ونحمد نعمة وجودها …
يقول Marcel Proust:
“عندما لا يبقى أي شيء من الماضي ، بعد أن يتم كسر الأشياء وتناثرها برحيل أصحابها … تبقى الرائحة لفترة طويلة ، مذكرة بأرواح حرة محمولة في تلك القطرات الصغيرة ، بانية في جوهرها صرح الذاكرة الهائل.”