كثيرا ما أوصتني أمي بشقيقتي، وبابنة عمي وبابنة حارتي، فأنا الرجل الوحيد، حامي الحمى والعرض، فلتت مني قهقهة ساخرة باكية وأنا استذكرها، مما اضطر زوجتي أن تكمّ فمي بيدها.
كان القلق يخلخل الهواء، فينتقص من حجم رئتيّ، غربة حارقة حالت بيني وبين زوجتي، شعرت بأنّ ملامحها قد تبدّلت، انكسارعينيها، بطء خطواتها، حذاؤها الذي لا يناسب مقاس قدميّها، جلبابها الطويل الضائعة به هروب نظراتها مني …كل ما فيها ينبئ بتبدل خطير وهذا مايحدث بعد كل نزوح.
وقع خطواتنا بالساحة الخالية يشي بارتباك بعد ان انفضت التظاهرة على غير العادة مع مغيب الشمس .قطعنا الساحة دون أن يعترضنا أحد ..
.
كنت مطأطأ الرأس .. سؤال لجوج يعذبني ..
– هل جننت؟قالت
بصوتي المبحوح أجبتها:
-لم أفقد عقلي بعد …. فقط أستذكر ذاك الرجل الذي كنته بنظر أمي ..صمتنا برهة واستأنفت:
طيبة هي السيدة التي كنت في ضيافتها، فقد زودتنا بكل ماعندها..وأشرت إلى الحقيبة…
توقفت عن السير وأوقفتني بتحديقها المتواصل في وجهي، وصمتها يقطع اسهابي بالحديث وقبل أن أصل لسؤال يعذبني تتنهد بعمق، ثم تزفر بوجهي قهرها. وكلبوة مجروحة قالت:
– لطالما قلت لك لا تقل بضيافتها، كنت مسجونة معها ..كنا أسيرتين …لِم تجمل القبح؟ من أجبرك على الإنشاد ..هو ذاته من احتجزنا وهانحن ندفع الثمن.
-نعم ..لابأس لن أقول ضيافة. أقول وأنا أبلع سؤالي الأهم. وصلنا إلى تخوم الجرد حيث أتينا ..وحيث يطل بيت الجد علينا ..مسحت الكون من حولي بنظرة وداع ..وبكيت.
كان الليل قد جنّ، وكنا مسمّرين على المفترق، خلفنا قرية تحتفل بتمردها، وعلى يميننا واد يفصلنا عن بيت الجد، أمامنا مدينة قد تعاقبنا لجرم لم نقترفه، على يسارنا جبال تحجب حدود ممتدة الى الخلاص، كنا بلا هويات بلا جوازات سفر وبلا وجهة .
-دعينا ننعطف إلى اليسار فهناك نجاتنا.
– لن أذهب لأعيش بالمخيمات، مدينتي أرحم لي، وهناك عمتي قد ترأف لحالنا
-وماذا عني؟ هل فكرت بذلك؟ سيكون السجن بانتظاري.
-سوف نشرح لهم الويلات التي مررنا بها لابد أن يتفهمونها.
قهقهتي قطعت حديثها غير الواثق
-يتفهمونها؟!. أغصّ بضحكتي، وأسعل المرارة في وجهها دون أن تنبس ببنت شفة، أودون أن تكتم ضحكتي بيديها والتي عقدتهما على صدرها كعادتها عند القلق، أوَ يتفهمون أنني كنت محمولا على الأكتاف و أنشد لموتهم؟!، سيصدقون أنها كانت صفقة عقدتها لأجل تحريرك؟!، وهل عمتك التي اعترضت على زواجك من غريب كما اسمتني ستتفهم وضعنا، كي نأمل من الحكومة ذلك؟.. كفاك هراء.
تنحني ببطء شديد وتسند ظهرها لصخرة تجلس غير آبهة بالأشواك توكئ جبهتها على ركبتيها المضمومتين لصدرها وتبكي.
عاد صوت أمي يطن بهدوء الليل: احرص على زوجتك فالمرأة ضلع قاصر، آه يا أمي في حرب كهذه حتى الرجال ضلوع قاصرة جلست ُإلى ضعفي وأسندتُ رأسها على صدري، سرحتُ بظلمة الليل المنتهية بأضواء المدينة البعيدة، عواء ابن آوى ونباح الكلاب وأصوات القذائف ورشقات رصاص كلها تضافرت لتجرح سكون الليل.
-يا حبيبتي، هذه مدينتك قد تغفر لك لكن من دوني.. تواجدي مع هؤلاء سيكون أول أوراق إدانتي، و ما قمت به كفيل بسحقي ..مسير نصف نهار ونكون خارج البلد، نتركه لهم ونرحل، حيث لا حساب ولا عقاب.
-وتضحي بي وتلقيني ببرك الابتزاز والفقر والبرد ونغدو شحادَين أيّ رجل أنت ؟!
-لقد اجترعت الذلّ، وكنت مستعدا لا لأصرخ معهم فقط، بل لأرقص كالسعدان، على ألا يصيبك ضررا ..وتقولين أيّ رجل أنا؟ ..ثم هل تعتقدين أنهم أطلقوا سراحينا هكذا؟ بدون مبرر ..هم يعلمون بأننا لو نجونا من حواجز رجالهم فلن ننفد من حواجز الجيش.
آلمني نحيبها المتواصل. احتضنتها بشدة، ذابت بين يدي، تسامى جسدينا ووصلنا حد السماء، كانت الطبيعة رحيمة بعطشنا فأعدت سريرها الندي ليطفئ حرائقنا، اسكنت الكون من حولنا لتسمع لهاثنا، ألقت على عُريّنا بلحافها الأسود.
توسدت الحقيبة، وهي توسدت ذراعي كقطة وديعة، وفاحت رطوبة العشب والتراب من جسدها، ووجهها يقابل النجوم همست في أذنها برجاء:
– أخبريني بصدق هل اقتربوا منك.
بصوت ناعس عميق أجابتني: اطمئن لم يمسسني أحد.. قد تكون ابتهالات تلك السيدة أن يدوم انشغالهم عني هي السبب.
-نعم كانوا مشغولين بالغرباء الذين استوطنوا بيت جدك.
تنفست ملءرئتي وكان الهواء نقياً ..نقياً، واستلقيت على ظهري أرقب النجوم وبتردد قلت
– دعينا نعود ..ما يجري عليهم يجري علينا. ودون أن تلتفت صوبي ردت بثقة، وبصوت مطمئن:
– حتما يا حبيبي لن نعود فلو أنهم اكتشفوا طائفتي ما كنت نجوت ثم أنهم .. قد يتعرضون لهجوم من قبل الإرهابيين الفارين من بيت الجد، تحت كثافة القصف الذي رأيناه وستراهم مهجرين مثلنا، لذلك علينا ان نبتعد عن طريقهم لقد نجونا مرتين من أولئك وهؤلاء …وقد لايتكرر ذلك. ثم لا تقلق بشأن المعابر فهذه البرية أنا خبرتها شبراً شبراً بقطاف الزعتر والزوفا.
– وهل كنتم تزرعون الدرب إلى المدينة زوفا وزعتر؟.
قامت كالملسوعة وبدهشة وبضحكة عالية قالت ..ماذا تقول ؟! نزرع ؟! تباً للمدينة التي أنشأتك.
-تبا للمفارق والحيرة انهضي.. قامت بين ذراعي وأسندت يدها على كتفي طوقت خصرها بذراعي
وألقيت بالحقيبة فوق كتفي الآخر.
دلفنا ظلمة الدرب الترابي باتجاه المدينة حيث حتفي المرتقب … وأنا اتمتم سامحك الله يا أمي…
صديقة علي