بسام جبلاوي
·
اجتاحني ألمٌ شديدٌ وكأنه سكاكين محدودبة النصال تُغرزُ بعمقٍ في أنحاء جسدي ، ومن غير إرادة صرخت عدة صرخات محملة بالآهات ، مزقت سكون الليل البهيم ، فهبت أم العيال من نومها مذعورة ، ولما كانت زوجتي تحمل أكثر من ليسانس ، حيث شهادتها الأولى من جامعة دمشق ، والأخرى من تشرين ، قالت وعيناها نصف مغمضتان :
– ما الخطب . . ؟
شعرتُ باستهجان ٍ من قبلها فلذت بالصمت ، متضرعاً إلى العلي القدير أن يزول عني الألم ، فجأة تذكرت ما قاله سيدنا موسى ” ع ” {{ .. لَمَّا وَرَدَ مَآءِ مَديَنَ وَجَدَ عَلَيهِ أُمَةً مِنَ الّنَاسِ ََيَسقُونَ وَوَجَدَ مِن دُوِنِهِمُ امرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَاخَطبُكُمَا … }} سورة القصص : ٢٣ .
شكوت لزوجتي ألمي وشرحت لها معاناتي الجسدية ، فوضعت أناملها الغضة على رأسي وراحت تتحسس جبيني ، شعرت بشيء من الطمأنينة وأشياء تتغلغل في شرايني ، كان لأناملها الطرية ، طعم خاص ، وكأنه الترياق .
نهضت زوجتي من فراشها ثم توجهت إلى المطبخ وهي تتمتم بهدوء : – مليون مرة قلت لك لا تخبص على العشاء-..!
وبعد دقائق ، حسبتها ساعات ، كان الألم فيها يعتصرني ، عادت وبيدها وعاء صغير محمول على صينية بلون الفضة ، بجانبه عدة قطع من القماش المنسوج من ذهب بلادنا الأبيض .
وقبل أن استسلم لكفيها الحانيتين عليَّ ، سألتها مستفسراَ
عما تفعله .. ؟ قالت بعطف أقرب إلى الحزم والحسم معاً :
” لا بد من اللبخة .. ! ” .
لعل الكلمة الأخيرة ( اللبخة ) أثارت ذاكرتي أو شحذتها على الأغلب ، لأول مرة سمعتها ، حينما كنت في الصف الخامس الإبتدائي ، كان يرددها المعلم على مسامعنا كثيراً ، ويخصُ بها تحديداً أحد زملائنا .. ، وهو الوحيد الذي نال هذا
اللقب ، ولم يكن المعلم يناديه باسمه بل باللقب الذي أطلق عليه ( لبخة ) ، ومازلتُ وأقراني نذكر علّة هذا اللقب الذي حمله زميلنا دون غيره من تلاميذ الصف ، وذلك أثناء حصة العلوم ، عندما أراد المعلم اختبار ذكاء طلابه ، فكان السؤال الآتي :
ما الفرق بين الزيتون الأخضر والزيتون الأسود ( عطون )..؟
خيم الصمت حينذاك في فضاء الصف ودارت عيوننا بدهشة بالغة ، يميناً ويساراً ، للأعلى والأسفل ، وكأن طيراً يحلق فوق رؤوسنا .
لم يجرؤ اي منّا على الإجابة ، وحده الزميل ( اللبخة .. ) ولم يكن حينذاك قد حاز على هذا اللقب ، رفع أصبعه ، وربما كانت هي المرة الوحيدة ، أو الأولى والأخيرة ، التي يتصدى فيها هذا اللبخة للإجابة على سؤال المعلم الذي تعجب وإيانا سُرُّ ذلك ، فيما سَرَّ المعلم للأمر ، وقال له مستفسراً :
– أتعرف الجواب … !
قال التلميذ :
– نعم استاذ استاذ نعم .
قال المعلم :
– تفضل هات ما عندك .
وقف التلميذ العتيد وقال :
– استاذ ، استاذ ، يختلف الزيتون الأخضر يا استاذ عن الأسود ، بأن الزيتون الأسود يزرعونه في الليل .
قبل أن يلطم المعلم نفسه على خديه بصفعة تردد صداها في أرجاء المدرسة ، ضج الصف بضحكات التلاميذ وقهقهاتهم كحبلٍ مليء بالعقد .
وصاح المعلم بصوت قوي اقعد محلك ( لبخة ) . . . !
عقد المعلم حاجيبه فتشكلت على جبينه فقاعة كأنها حبة جوز لا لُبَّ لها ، وبقيت هذه العقدة على جبينه ملازمة له إلى حين وفاته بعد حوالي أربعين عاماً من ذاك اليوم .
اللاذقية ٢٧ / ٦ / ٢٠٢٠ …. / للحديث تتمة .