قيل أن مدير المدرسة عقد اجتماعاً مغلقاً مع عريف الشعبة الأولى للصف السادس الإبتدائي، وقد استمر هذا الاجتماع لمدة تزيد عن أربعين دقيقة .
وقيل أن الآذن ( أبو
) مستخدم المدرسة، أغلق الندوة، بوفيه المدرسة، بأن وضع فوق طاولة البيع ستارة قماشية نزعها عن نوافذ أحد الصفوف، لكثرة تكرار طلبه من قبل المدير الذي كان يستدعيه بين الفينة والأخرى بوساطة جرس كهربائي يشدو كبلبل جائع، وليس من دور لأبي
إلا خذ وجيب طلبات إلى غرفة المدير .
قال أحد التلاميذ أنه رأى أبو
يحمل فنجانين من الشاي، وضعهم في صينية فضية مستديرة، قدمهما بأدب جم إلى مدير المدرسة وضيفه، وعندما حاول الأخير تناول فنجان الشاي من الصينية الفضية، نظر إليه أبا نجيب بإزدراء شديد، وهذا ما دفع ( اللبخة ) إلى تعديل جلسته وإرجاع ظهره للخلف فوق الكنبة الجلدية الفارهة، مما سمح لأبي نجيب
” مكرهاً أخاك لا بطل ” ، بمد يده أكثر ليتمكن اللبخة من إمساك فنجان الخزف المملوء بالشاي والبخار الساخن مازال يتصاعد منه، بعد ان عبق المكان برائحة ( الليبتون ) الفاخر .
وأضاف التلميذ الذي رأى ذلك أنه سمع أبو نجيب يقول لنفسه بصوت خافت :
– لو علمت أن هذا الشاي لهذا المعتوه لبصقت في الفنجان
قبل ولوجي غرفة الإدارة .
وقيل أن هذا ما لم يفعله آذن المدرسة عندما جلب في المرة الثانية كوباً أو كوبين من مشروب الزهورات المحلى بالعسل .
لعل المدة الزمنية الطويلة التي استغرقها اجتماع مدير المدرسة مع اللبخة، حينما أراد أن يُزود الأخير بإرشاداته، أثار فضول بعض التلاميذ، مما دفعهم للوقوف تحت نافذة الإدارة والتنصت لما يدور من أحاديث .
قال أحدهم، أنه سمع ضحكات عالية ؛ أضاف آخر : أن اللبخة ضرب كفه بكف مدير المدرسة أكثر من مرة، وسط قهقهات متواصلة، يعقبها أحياناً سكون عميق، لم يقطعه سوى رنين جهاز الهاتف ذا اللون الأسود الذي يجلس بهيبة ووقار على مكتب السيد المدير، وكأنه قطعة نادرة أو تحفة ثمينة تثير العجب، مما أعطى للمكان أهمية بالغة، حيث تفتقده معظم بيوت المدينة، ونادراً ما شوهد إلا في محلات تجارية كبرى .
لم يأبه اللبخة للحوار الهاتفي بل استغل انشغال المدير بالرد على الهاتف، وقطف مجموعة من أوراق ( الكلينكس ) من العلبة الكرتونية الزاهية بألوانها والموضوعة أمامه .
طوى اللبخة المناديل الورقية ووضعها بعناية في الجيب الأيمن من صدريته المدرسية ذات اللون الكاكي ثم نزع منديل مزدوج احتفظ به بيده اليسرى .
أدى تكرار قرع الباب الخشبي لغرفة الإدارة من قبل بعض المعلمين إلى حث مدير المدرسة على فض الاجتماع الثنائي الذي استغرق من الوقت ما يقارب حصة درسية كاملة .
وحينما همَّ اللبخة بالانصراف، دار حول نفسه، وأصبح وجهاً لوجه مع السيد المدير فإنحنى أمامه كجندي روماني، ثم استدار ودلف نحو الخارج فيما كان مدير المدرسة يربت على ظهره وهو يردد عبارات فيها شيء من الدعاء .
كان صخب التلاميذ يملأ فضاء باحة المدرسة وأروقتها عندما دخل اللبخة إلى صفه وأغلق الباب خلفه بعد ان طلب بحزم وحسم من بعض أقرانه الذين ظلوا في مقاعدهم على الرغم من انتهاء الحصة الدرسية، الخروج من القاعة لمشاركة رفاقهم استراحة الفرصة .
فتح اللبخة حقيبته وأخرج دفتراً مغلفاً بتجليد ورقي أزرق وآخر شفاف من النايلون، دون فيه ما تلقاه من إرشادات وتعليمات وتوجيهات وراح يقرأ بصمت ما كَتبَ فحذف بعض الكلمات وأضاف أخرى قبل أن يعيد الدفتر إلى الحقيبة ذاتها .
أغمض اللبخة عينيه برهة من الوقت، كأنه حلم بشيء ما، ثم رفع رأسه باتجاه السقف، تأمله ملياً وهز رأسه عدة مرات، وفيما كان يهم للخروج من قاعة الصف وضع يداه في جيبيه وقال في نفسه : {{ . . أَقبِل وَلَا تَخَف إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ }} .
وقف اللبخة وحيداً في ممشى الطابق الثاني للمدرسة وراح يتطلع بزهو، من شرفته، إلى الباحة الواسعة التي امتدت أمامه، والصبية في الفرصة الأخيرة من آخر أيام الأسبوع، يتراكضون ويتصايحون وبعضهم يلعبون، وقد تشكلت في وسط باحة المدرسة دائرة واسعة تحلق حولها كثير من التلاميذ وهم ينشدون :
طاق طاق . . طاقيه
مين الأول .. ! ماهيه
رن رن . . . يا جرس
حول واركب عَ الفرس
والثعلب فات فات . . .
وبذيله سبع لفات . .
ابتسم اللبخة للنسيم العليل الذي لفح وجهه، مما زاده حبوراً، وهو منتصب القامة في رواق الشرفة العالية كصاري سفينة عملاقة، فقال : {{ ذَلِكَ فَضلُ آلله يُؤتيِه مَن يَشَاءُ وَآللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ }} .
…… / للحديث تتمة .
أسفل النموذج