6
أصابنى زهول بعد لقائى معه والذى إمتد لأكثر من ساعتين ..فقد إستدعانى على عجل وطلب منى حين إلتقانى البحث بسرعة عن أى صيغة قانونية لتعديل نتيجة الإنتخابات لصالح مرشح حسنى مبارك ..وبينما كنت أطالع وجهه لدى حديثه ، طافت بذهنى مئات إن لم تكن آلاف الصور ..لتؤكد الشعور بالمرارة والخيبة ، والإحتقار .
فنحن دائما نقرن الفساد بالسلطة والملتصقين بها من جهة إستخدام المصطلح .. ولكن فساد المناضلين الزائفين أكثر إنحطاطا ، وأكثر وضاعة ، وأبلغ أثرا ..فالعبث بمشاعر الناس وأحلامهم يفوق فساد السلطة ، بل يخدمها ، ويوطد أركانها ..فالفاسدون سواء كانوا فى السلطة او من الملتصقين والمرتبطين بها اغلبهم جهلاء ، تجار ، يسرقون وينهبون بشفافية اكثر من ذلك المناضل الذى يستخدم المنطق والتاريخ وعلم الإقتصاد وعلم النفس فى سرقة حاضر الناس ومستقبلهم .
كنت مبهورا به ، وبتاريخه ، ونضاله ..هكذا كنت اراه من على بعد ..ولكن حين اقتربت منه وانا مسلحا بكامل وعيى ، إكتشفت الحقيقة التى تتكامل مع حقائق غيره والتى عرفتها من خلال الإحتكاك المباشر …
فى القانون درست جريمة النصب وصورها وأحوالها .. لكن ما رأيته من سلوك هؤلاء المناضلون المنحطون يعد صورة مشددة جدا من صور النصب ..فلقد فوجئت ان علاقته بالسلطة التى خدع الجميع بمناهضتها ، وبنى مجده الزائف على النضال ضد سياساتها ..وعندما حانت ساعتها كان أول الذاهبين للميادين للهتاف بسقوطها ، وعندما تبين له أنه لا مكان له لدى البديل ..عاد محاولا إقالتها من عثراتها …أما الطبقة العاملة ، ومناهضة الإمبريالية ، والإنفتاح والنهب الإقتصادى ، وماركس ولينين وماو وجيفارا وهوشى منه ..فهى ادوات النصب النضالى والنهب التاريخى لأحلام ومشاعر وتطلعات الجماهير …
انا لا أدين فكرا ..ولا حركات مجتمعية ، ولا تجارب شعوب .. كلا ..أنا أبصق فى وجوه كل المناضلين الزائفين الذين لا حدود لإنحطاطهم الإنسانى والسياسى ، فى أى مجتمع إبتداء من النماذج التى عرفتها عن قرب ..
هذا الذى أكتشفت تفاهته وزيفه ، وحبه للظهور ..وكراهيته الشديدة لمجرد ذكر من وضعوا فى فمه المعلومة او الفكرة التى يلقيها على آذان مشاهديه ..هو غيض من فيض ..قطرة فى بحر ملئ بالمحتالين نضاليا ، والأكاديميين المجردين من النزاهة والأمانة ، والمثقفين فاقدى البكارة والشرف ..أحد المفكرين الإشتراكيين العظام كان يغبطه أن أناديه بالباشا ، وفى كل أحاديثه كان يتغزل فى مرحلة ماقبل ثورة ١٩٥٢ ..
كنت عند إلتحاقى بكلية الحقوق بعد ان تركت كلية الهندسة ، أعمل واتحمل أعبائى الشخصية بجانب الدراسة .. التقيته فى احد الليالى بعد عودتى من العمل ..كان يجلس بالمطعم الذى قصدته لتناول العشاء ..كنت اقيم بفندق مجاور لذلك المطعم ..ولأن اغلب غرف الفندق مشتركة ، فقد قنعت بغرفة تحت السلم أدخل إليها منخفضا وهى لا تحتوى سوى على سرير وترابيزة صغيرة جدا وبضعة مسامير لتعليق ملابسى .. أما صديقى الإشتراكى الذى تعرفت عليه والذى كنت اقتسم معه حصيلة عملى فقد كان يقيم على مقربة منى بأحد العمارات الفخمة …ذات ليلة دعانى لشقته المكونة من غرفة وصالة وحمام والتى تعد بالنسبة لغرفتى قصرا .. وأغلق علينا باب الغرفة ووضع الراديو الترانزستور اسفل باب الغرفة للتشويش على أى محاولة للتصنت علينا ..ثم أخرج من داخل بطانة جاكيت جلد يخصه بعض الاوراق اعطانى إياها …ثم احضر زجاجة سبرتو ووضعها إلى جوارى وطلب منى ان سمعت طرقا على باب الشقة ان اسكب السبرتو على الورق واحرقه .. كانت الاوراق تحوى برنامج الحزب الشيوعى المصرى .. طلب منى ان اقرأ البرنامج وأن اتخذ لنفسى إسما سريا .. شعرت بخضة من الأجواء التى احاطت بقراءتى للبرنامج ، وبالسرعة التى يعرض على بها الإنضمام لتنظيم سرى ملاحق أمنيا ..انهيت القراءة ولا ازعم أنى فهمت كل شئ ..كل همى كان الخروج من تلك الورطة .. فطلبت منه ان يمنحنى فرصة للتفكير ..ولمناقشتة فى بعض الأشياء ..حاول جاهدا إخفاء إمتعاضه ..ثم هددنى بصورة مبطنة بأن قال لى أن حزبهم معترف به من الأممية العالمية وأن من يخونهم يستطيعون تصفيته فى كل مكان من العالم
خرجت من عنده بعد ان ذكرنى بأنه لم يحصل عن حصته من راتبى ..وقد تحولت إلى إتاوة نؤديها للمناضلين من امثاله ..
بعدها بأيام كان ذكرى معاهدة السلام وكان لى أصدقاء من الطلبة الفلسطينيين الاعضاء فى الحركة الشعبية وكانوا يثقون فى أمانتى ونبلى .. فأحضروا لى بيانا من جامعة بيرزيت بالارض المحتلة موجها الى جامعة الاسكندرية يتضمن هجوما شديدا على مسلك أنور السادات الخائن ..وعدد من اعلام فلسطين لرفعها ، ومن اعلام الكيان الصهيونى لحرقها ..فعرضت الامر على صديقى ولاسيما اننى كنت اقوم بكل ذلك بمجهود فردى فطلب منى ان احضر اليه هذه الاشياء ليحفظها لى ويعطينى اياها فى اليوم المحدد .. اعطيته جزء من الاعلام ونسخة من البيان ، وفى اليوم المحدد لم اجده ، فقمت بتوزيع البيان بل ولصقه فى بعض المواضع بالكليه ، واثناء تجمع الطلاب خطبت فيهم والقيت عليهم نص البيان وقمت بحرق اعلام الكيان الصهيونى ورفع علم فلسطين …بعدها بدقائق تم القبض علي وإقتيادى إلى مقر مباحث أمن الدولة ..
امضيت اليوم كاملا فى تحقيقات ..ثم افرجوا عنى لأن خطى مغاير للخط الذى كتب به البيان الذى كان مكتوبا بيد الاخوة الفلسطينيين وكان دورى تصوير عدد كبير منه .. وبمجرد إخلاء سبيلى توجهت الى المقهى الذى يجلس عليه فهنئنى بالافراج عنى وابلغنى ان الحزب ارسل محامين للدفاع عنى ..( كان يقصد حزب التجمع وهو واجهة شرعية لتنظيم سرى ) ..وانه وجد الظروف الامنية غير مواتية لأداء دوره حيث انه كان يضلل الامن لأتمكن من القيام بما قمت به ..وبعدها بأيام احضر لى نسخة من نشرة التقدم التى يصدرها حزب التجمع وقد ورد بها اسمى ضمن خبر القبض علي ..اما كعكعة ما قلت به فقد نالها الحزب الشيوعى المصرى .. فالغلمان يفعلون ويقبض عليهم اما السادة فيجنون الثمارا وهم نائمون ببيوتهم …
نفرت منه بشدة ، وبصورة اقرب للإشمئزاز ..وعندما فاتحنى مرة اخرى فى امر الانضمام للحزب قلت له : العمل السرى لا يشرف صاحبه .
بعدها بأيام اشاع ان الشبهات الأمنية تحوطنى ، واننى جاسوس للأمن …وفى خضم الفوبيا المضحكة التى كانت تنتاب الحزب أعضاء الشيوعى بأنهم ملاحقون امنيا صدق بعضهم تلك الفرية التى لم تهز شعرة فى رأسى وقد كنت وقتئذ امتلك شعرا جميلا قبل الصلع ، وان الامن يبذل قصارى جهده لإختراقهم …وقد اتضح فيما بعد ان الامن قد نجح فى تجنيد السكرتير العام للحزب
أبوزيد الذى عاش
الف عام او يزيد
7
على ضفة دجلة من ناحية شارع الرشيد كنا نجلس ..صحفى مصرى وصديق فلسطينى وأنا ..أنسام ساعة الغروب تداعبنا حين طرح صديقنا الفلسطينى الذى يمتلك محلا لبيع المشغولات الذهبية بشارع النهر الشهير بوسط ببغداد ، سؤالا مباغتا : إلى اين يتجه العراق وما هى مآلات الحرب العراقية الأيرانية ؟ ..تلفت حولى رغم اننا نجلس فى الهواء الطلق ..وربما يكون قد فهم مغزى إلتفاتتى فأعاد صياغة السؤال : بهزة من رأسك قل لى هل انت متفائل ؟ وكان واضحا أنه يقصدنى انا بالسؤل فأجبته بالإنجليزية نافيا وجود ما يدعو للتفائل …
فى ذلك الوقت كانت بغداد تضاهى أجمل المدن العالمية فى كل شئ ..معدلات تنمية عالية …لكن البشر مهملون ككل تجارب التنمية الفاشلة ..صحيح كان امام بيت كل أسرة عراقية سيارة من احدث طراز مجانا ..لكن الإصطدام بكافة صور إنعدام الوعى لدى السواد الأعظم كان ظاهرا للعيان أينما حللت ..إهمال الإنسان هو آفة مجتمعاتنا والسبب الرئيسى لفشل تجاربنا التى كان من الممكن ان تمثل نقلة نوعية لو إهتمت أنظمتنا بتنمية الإنسان ..لقد ضربت التجربة الناصرية من داخلها .. وجاءت نكسة ١٩٦٧ لتكشف عمق الفساد الذى ضرب دولة عبد الناصر رغم نبله ، ونقاءه ، وثوريته التى لا تشوبها شائبة …نحن نحتاج لتقييم التجربة الناصرية بعمق ورشادة ..السادات لم يكن رجلا خارقا كى تسقط فى يده مصر كثمرة يانعة ..وكى تستسلم له بالصورة التى أفضت إلى السقوط العظيم .. هناك اخطاء جسيمة وخطايا ارتكبت ..وانا أؤمن بانه بدون دراسة التكون التاريخى للظواهر ، دراسة علمية ، لن نفهمها ، ولن نعى الدروس المستفيدة منها …
تجربة البعث العراقى كانت مريرة وحرمتنا من قوة عسكرية جبارة كان قادرة على حماية اكثر من نصف الوطن العربى ..وإبتداء من سقوط العراق تم تحزيم منطقتنا حول ثنائية النفط / المياة ..هذا النمط الشاذ من الحكام المرضى …كيف أتى ؟ وكيف استمر ؟ وكيف نجح ان يحول شعوبه الى مجرد حناجر تهتف باسمه وتغنى له ، وتتغنى بأمجاده الزائفة ..هل حقا استيقظنا فجأة على ضياع سيناء ..وضياع العراق ..أم أننا لم نحاول ان نصدق مانراه بإعيننا ، ونجبن عن طرح مخاوفنا ..سقط العراق يوم ساقه صدام لحرب عبثية مع بلد كان وقتها معنا بكل ما يملك ..قال لى صديقى الفنان التشكيلى العراقى : ليست حربا يا أبوجاسم …إنها محرقة .. وقالت لى آنجيل السكرتيرة الارمينية التى عملت معى بالشركة بعد ان توطدت علاقتنا : انا قلقة ..غير مطمئنة ..العراق يضيع ..وفى ملهى الليرة بالمسبح ولدى غناء المطرب اغنية صادق يا صدام ..هتف عراقى سكير خرا بعرض صدام ..فأنطلق الرصاص واطفأت الانوار ..ثم عادت الامور إلى ماكانت عليه بعد تنظيف المكان من دماء ثلاثة قتلى ..ثم أعيد المطرب ليصدح : صادق يا صدام ..يللى عينك ماتنام ..والكل يرقص هلعا
أبوزيد الذى عاش
الف عام أو يزيد
8
أعتدت الذهاب لعيادة الدكتور رياض وهو أستاذ دكتور فى الطب النفسى وكان مديرا لمستشفى الأمراض العقلية ، كصديق لنتحاور فى أمور السياسة ..لكن هذه المرة طلبت منه ان يعاملنى كمريض يحتاج الإستشارة الطبية ..ضحك وقال لى : ده أنت تعالج بلد ..قلت له : صدقا أحتاج مساعدة طبية …طلب منى أن استرخى ..وأن أقص عليه ما أعانى منه ….
_ أستغرب عدوانيتى مع المال ، وكراهيتى له ، وحرصى على إنفاقه بصورة تقترب من السفه ..لا اشعر بالراحة طالما معى مال وقمة إنسجامى النفسى عندما اكون مفلسا .. حالة الفلس تجعلنى صافى الذهن ، عالى المزاج ..ولا أحب التملك لقناعتى ان التملك ليس من قبيل التنظيم الغريزى للإنسان ..أكسب كثيرا جدا .. وأنفق ما اكسبه بسرعة جنونية .
_ ممكن تحدثنى عن طفولتك .. بتلقائية ..وبدون ترتيب .. كن عفويا …؟
_ أنا الإبن الثانى لأسرة مكونة من سبعة أفراد بما فيهم الأب والام ..والدى كان عاملا بالمدرسة الإبتدائية التى درست بها ..وجود والدى حد من حريتى كطفل خوفا من عقابه وكان لا يتورع عن ضربى امام زملائى كلما أشتكى له احد منى ..وكان بعض زملائى يعايرونى بأن أبى عامل بالمدرسة …وعقب انتهاء اليوم الدراسى كنت اساعده فى عمله بتنظيف الفصول … لم اولد بتلك المدينة التى تقع بشمال دلتا مصر ، وإنما ولدت وعشت سنواتى الأول ببورسعيد .. كانوا الناس يعايرونا بأننا غرباء لأن لهجتنا ونمط حياتنا مختلف عنهم …أنتقمت من زملائى بالمدرسة الابتدائية بأن حصلت على المركز الاول على مستوى المدينة كلها فى إمتحانات الإبتدائية ..أما والدتى فهى أحدى فاضلات هذا الكون ..ست بيت من مدينة ساحلية عانت الامرين فى تربيتنا من ظروف إقتصادية صعبة للغاية ، فراتب والدى لا يكفى الشهر فيضطر للإستدانة لإكمال الشهر .. وهكذا ..فكانت مدبرة وبارعة فى سعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتى بقدر الأمكان .. وعانت من قسوة طباع والدى وحدته .. كان ينقصنا الكثير ..لكنى وبفضل مدرس اللغة العربية وهو من أنصار مدرسة احمد شوقى ، وكان المسؤول عن مكتبة المدرسة ، فوضع بيدى الكتاب الذى بفضله ترفعت على الشعور القاسى بالحرمان ، وكان نافذتى التى من خلالها أطل على الدنيا …قاطعنى د. رياض
_ هل تتذكر صور الحرمان ؟
ضحكت ..وقهقهت ..حيث تذكرت علاقتى بالأحذية .. فقد كان لى بكل عام حذاء من الجلد ، وحذاء رياضى من القماش ..ولأننى كنت احب لعب الكرة . فقد اصبحت زبونا مستديما لدى محلات إصلاح الأحذية وقد بدات علاقتى بهم إبتداء من عم رزق الإسكافى ، وعم دسوقى ..وكنت اغلب الاوقات العب الكرة حافيا وربما لهذا السبب تبدو أصابع قدماى غريبة وعجيبة ..
_ اكمل …؟
_ ما اوجعنى آنذاك هو دموع امى عندما تنفذ النقود ..وإرسالى لبعض الجيران لأستدين لها حتى آخر الشهر …
_ وماذا ايضا ..؟ ..
_ لست خجولا يا دكتور .. ومستعد أن استعيد لك أدق أدق صور الحرمان والبؤس .. لكنى مبكرا تدثرت بالكتاب وبسير العظام .. فتعاليت على كل مامن شأنه ترك اثر سلبى فى تركيبتى ..هل تفهمنى يا دكتور ؟
_ ابتسم الطبيب ..وقال لى ألم أقل لك أنك قادر على علاج بلد ..لقد عرضت المشكلة ، وحللتها دون تدخل منى .
_ كيف ؟
_ أنت قلت انك انتقمت من زملائك بالتفوق عليهم دراسيا وما تفعله الآن مع النقود هو إنتقام لدموع أمك ، وقهرها عندما كان ينفذ راتب الوالد ، وتنتقم من كافة صور الحرمان هذا الإنتقام المتمثل فى العدوانية مع المال هو الأثر الإيجابى لحرمان الطفولة .. أما الأثر السلبى للحرمان فهو البخل الشديد ..ولأنك تملك الوعى وهو أثمن من المال فلا يضيرك إنفاقه ..اما البخيل فضيق الأفق . مريض ..لا يملك سوى المال الذى يكتنزه كى لا يسقط فى يد الحرمان مرة اخرى ..ثم ضحك وسألنى : كم زوج حذاء لديك ؟
_ كثير …لا أعرف عددهم ..
_ إذن أنت تؤيد كلامى ..وتؤكد تفسيرى …
ومنذ ذاك اليوم الذى كان فى بداية التسعينات وان احرص على إنفاق كل مااكسبه لأواصل إنتقامى لدموع امى … .. .. …….