طقوس الكتابة ، موضوع سمعت وقرأت عنه الكثير ، ولأهميته عندي ، قررت خوض نقاش في تفاصيله مع أهل الدراية والعلم ، ومن لهم تجارب سابقة ، انطلاقا من الواقع الذي أنا أعيشه حاليا ، حتى لا ترسم بمخيلتي صورة حياة يصعب الظفر بها ، فأنا في حاجة إلى مناخ للكتابة وفقط ، لست في حاجة إلى ركض “هاروكي مواركامي ” ، أو إلى ارتداء حذاء أكبر من مقاسي مثل ما فعل ” أرنست همينغورى ” ، أو إلى خلع ثيابي مثل ” فيكتور هيغو ” ، أو إلى إقامة على ضفاف وادي عبقر كما يشاع عند العرب ، فأنا قبل أن ألجأ إلى هذه الأفعال المعروفة بطقوس الكتابة ، ورثت تقاليد من بيئتي الأصلية ، كالانطواء ، والميل للعزلة ، وطلب الهدوء ، والمشي لمسافات طويلة دون كلل ولا ملل ، والكتابة بقلم الرصاص ، وعض القلم من أعلاه ، هذه سلوكي في الحياة ولا ترتبط بطقوس الكتابة .
أول من استضفت في حصة إذاعية أعدها وأقدمها بالإذاعة الجزائرية ، قصد الاستفادة من رأييه في موضوع الكتابة ، وحرصت على أن لا أحرجه بالأسئلة كثيرا في حياته الخاصة ، هو المؤرخ والإعلامي ( س ب) ، وكانت الحصة مخصصة لتناول حياته ، من بداية دراسته الأولى إلى أصبح إعلاميا محترفا وكاتبا له إصدارات غزيرة ، في زمن كان العلم فيه لمن استطاع إليه سبيلا ، والأستاذ أطال الله بعمره أثرى المكتبات الجزائرية وهو الآن في عقده التاسع ، لازال يكتب بنفس الإرادة والعزيمة ولم ينقطع ، كما في حياته ما هو مؤلم وما هو طرافة ، ما هو مؤلم لفتى ينحدر من بيئة نائية فقيرة ، ومن طبيعة قاسية نشأ يتيم الأب وعاش فقير الحال ، كان ملزم بالعمل لتوفير المال ومواصلة والدراسة ، تنقل بين كتاتيب الأوراس وقسنطينة لطلب العلم ، قبل أن يسافر إلى تونس للدراسة بالزيتونة ، ثم مصر والقدس التي تحصل بها على شهادة البكالوريوس ، وشق طريقه مرة أخرى نحو العراق لمواصلة دراسته الجامعية ، أما ما هو طريف يدركه فقط من يعرف الأستاذ وجلس بالقرب منه وسمع لأحاديثه الممتعة ، وهذه المواصفات الجميلة في الأستاذ فكت من عقدتي أمامه وجعلتني أمرر له بعض الأسئلة لم تكن مدرجة بموضوع الحصة ، حدثته في طقوس الكتابة وهو صاحب تجربة طويلة يملك في رصيده 14 مؤلفا ، كتبها عن الهجرة إلى أوروبا والحركة الوطنية ، فكان أول ما أوصاني به خيرا هو الكتابة دون انقطاع ، وألقى بلومه عن الجزائريين لأنهم حسبه لا يكتبون إلا القليل جدا ، وما يصل رفوف المكتبات من إصدارات يعد ضئيل مقارنة ببلدان أخرى ، فنحن بالجزائر لدينا ما نكتبه ، نملك تاريخ عريق وميدان بكر لم تمتد له أيادي الباحثين إلى الآن ، ثم أضاف قائلا بعدما احتدم النقاش بيني وبينه ، نقلا عن مؤرخ جزائري رحمه الله ، إذ قال له ذات مرة ” الكتابة في الجزائر معجزة ” ، والشيخ ( س . ب ) إعلامي ، شغل مراسل لجريدة الشعب الجزائرية من فرنسا ، جال وصال عواصم أوروبا ودخل معظم هياكلها الثقافية ، بالمقابل كتب لنا 14 مؤلفا من داخل مقهى بباريس ، هذا ما أخبرني به فكان لي أمر عجيب ، حاولت أن اعرف منه ما سبب ذلك ؟ لكن إجابته ضلت مستعصية الفهم ، والأستاذ لا تخلوا أحاديثه من الطرافة ، وقد صدر له مؤلفا صغيرا كتبه بطلب وإلحاح أصدقاء له ، سماه ” أحاديث ممتعة ” ، لذلك عدلت عن إعادة السؤال مرة أخرى في هذه النقطة بالذات ، لأن للأستاذ أيضا له طقوس في الكتابة حسب ما اكتشفت .
حاولت معرفة رأيي مثقف آخر ربما قد يخالف رأي الأستاذ ( س .ب ) ، فحضرت لحصة أخرى تناولت فيها موضوع ، المطالعة في الجزائر ، استضفت هذه المرة البروفيسور (م . ك )، مختص في التاريخ الوسيط وله مؤلفات وأبحاث أكاديمية في مجال تخصصه ، وفي مسيرة ضيفي الأول وضيفي الثاني تشابه ظاهر للعيان كونهما ينحدران من منطقة واحدة ، لكنهما من جيلين مختلفين ، الأول بدأ مسيرته الدراسية قبل الثورة التحريرية ، والثاني اخذ دروسه الأولى من الكتاتيب أيضا بعد الاستقلال ، وأجرى دراسته العليا بمصر ، وضاق مرارة اليتم مثل الأستاذ بعد أن استشهد والده في ميدان الشرف وهو صغير ، و لم يكن سعيه لكسب العلم أمرا سهلا ، حاولت أن أصل إلى ظروف الكتابة عند كل واحد منهما ربما أكتشف من هذا أو من ذاك طقوسه في الكتابة ولا يهم تحديد بيئة ممارسة هذه الطقوس ، فانا مستعد للسفر إلى أقصى حدود الدنيا من أجل الكتابة ، فقال لي البروفيسور ، في أخر سؤال له أشرت فيه إلى جهل الكثير من شباب اليوم للتاريخ الوسيط رغم أهميته ؟ ، فقال : هذا ناتج عن قلة الكتابة في هذا التخصص ، ” الكتابة تضحية “، بمعنى أنك تتنازل عن جزء من حياتك الخاصة في سبيل للكتابة ، تضحي بعطلتك السنوية وأيام الراحة وقد لا تظفر بلحظة تستعيد منها أنفاسك ، فتمنيت لو كانت لي وظيفة غير هذا لأحتفظ بحقي في الحياة كاملا .
لم أتوقف عند هذا الحد ، بل حاولت معرفة شخصية أخرى من الوسط الأدبي ، فوقع اختياري على الأديب (ط . و ) رحمه الله ، لأني أحبه كثيرا ، لعناده وتحديه ، إنه هو صاحب قلم حاد لا يجامل في كتابته ، يقول ما يراه صائبا أو به اعوجاج ولا ينظر إلى خلفه ، هذا ما أحببت فيه قبل أن أحب كتاباته الرائعة ، فسألت ابنة له تعمل معي بنفس المؤسسة ، عن ظروف الكتابة عند الوالد رحمه الله ؟ ، والكل يعرف أن ( ط . و ) يلجأ إلى إقامته بسواحل الجزائر لما تحن وقت الكتابة ، لكن لا نعرف كيف يكتب ، هل يصهر لياليه ؟ أم يظل في مكتب مغلق كما يفعل الكثير ؟ ، قالت والدي طليق لا تظهر عليه ملامح الانشغال تماما لما يقبل على الكتابة ، يبحر كل صباح على متن قاربه و يعود منتصف النهار تقريبا ليتناول الغداء ، ثم يركن إلى مكتبه في جو هادئ لا يدخل بابه أحد من أفراد العائلة .
عندئذ صرفت نظري عن الموضوع نهائيا ولم تعد لي فيه منفعة الهت وراءها ، وأدركت أن كتاباتي ستبقى مجرد أوراق مسجونة في علب الكارتون ، مقفلة بإحكام ، بعدما حرمت من حقي في أحد أهم أركان الكتابة ، ألا وهو السكن وأنا لا أملكه ، فلا بديل لوضعي الآن من غير الهجرة هي أقرب ملاذ يحفظ لي عقيدتي .
مكتب الجزائر : أبو طارق الجزائري