النموذج رقم ٠٢
يطرح موضوع الأغنية القديمة كوثيقة لكتابة الأحداث التاريخية في الوسط الثقافي الجزائري بقوة ، في الآونة الأخيرة ، بالأخص عند الأكاديميين الذين وجدوا في هذا الإرث الثقافي مصداقية نقل الأحداث من خلال أغان تعتمد على مصادر موثوق من أخبارها ، بالتحديد تلك التي يكون لها تأثير سريع في الوسط الاجتماعي ، يحتضنها ويحبها ، ويوليها اهتماما بالغا فيتولى نقلها إلى حدود بعيدة ، كيف لا ؟ وهي تحمل صورة عن واقعه المعاش ، وتزوده بأخبار الآخرين ، كما تعرفه بالعالم الخارجي بكلمات بسيطة بها إشارات ودلالات عظيمة ، والمراد هنا بالأغنية القديمة ، هو ما يندرج ضمن التراث اللامادي واستوفى شروط تصنيفه كتراث ، إنما هناك ضوابط قانونية تنظم هذا الأمر ، وقد سارعت هيئات وجمعيات ثقافية إلى عقد ملتقيات لهذا الغرض ، ولو أن الاهتمام بهذا الصنف من التراث جاء متأخرا جدا فهو من زمان عرضة للضياع ، للأسف الشديد مرت بالجزائر والبلدان العربية عامة توجهات سياسية لم تكن في صالح هذا الموروث الثقافي ، ما جعل التواصل بين الأجيال يكاد يكون منعدما ماعدا بعض الشعارات الرنانة والبراقة أشبه إلى حد بعيد بتلك الشجرة التي تغطي الغابة كلها ، فلولا جهد بعض المخلصين لهذا الوطن من الذين ضحوا بجزء من حياتهم وقدموا لنا اعملا قيمة ساهموا من خلالها في إنقاذ الأهم منه ، لما كان لنا حديث الآن في الموضوع .
لذا المهم في هذه الحالة أن نحتفظ بما وصلنا من هؤلاء وتوظفه فنيا في الإبداعات الأكثر إقبالا من الجمهور ، مسرح ، سينما ، فن تشكيلي …. ، لنحافظ على عنصر التشويق لدى الأجيال الحالية المولعة بثقافات من خارج الحدود ، ونجلب اهتمام العامة ، كما هو حال هذه الأغنية التي نحن بصدد تناولها ” لهوا أن وذرار” بمنطقة الأوراس ، شرق الجزائر ، نضع لها بطاقة فنية حسب ما وصلتنا من معلومات:
عنوانها :
” لهوا أن وذرار” ، إذا ما وضعنا ترجمة حرفية بالعربية تحصل على ” هواء الجبال ” ، أما الأصل في معنى الأغنية ذلك النسيم الذي يهب على سفح جبل ، وليس الرياح ولا الهواء ولا العواصف ، صاحب الأغنية حافظ على لجرس الموسيقي في الأداء ، فجمع بين مصطلحين باللغة العربية وباللغة الأمازيغية ، وهذا في حد ذاته إبداع .
موطنها :
موطن هذه الأغنية ” بالأوراس ” دون تحديد في أي منطقة من مناطقه الواسعة ، عادة تكون مثل هذه الأغاني مجهولة النسب والبيئة ، فالألحان بالأوراس تقريبا نفسها بكل المناطق والاختلاف إن وجد ، فهو بسيط جدا لا يتعدى بعض الألفاظ التي تتغير من بيئة إلى أخرى
موضوعها :
هي من الأغاني التي لا يبرز فيها حدث واضح أو قصة معروفة لدى عامة الناس ، ما يمكن قوله في هذا الصدد ، أنها أغنية رومانسية تصور الحياة ” بالأوراس ” في حقب ماضية ، كل الناس حينما تحدثهم عن هذه الجغرافيا الجميلة يذكرونك بهذه الأغنية ، فهي في هذه الحالة تجاوزت وظيفتها الفنية وأضحت وثيقة تؤرخ لمنطقة ، لها رصيد تاريخي حافل بالأمجاد والبطولات ، ولم يتوقف موضوع الأوراس بذكره في هذه الأغنية ، بل وجد بقوة في النظم الشعرية لأشهر شعراء العرب إبان الثورة التحريرية ، من أمثال سليمان العيسي .
حتى وان لم يكن لأغنية ” لهوا أن وذرار ” موضوع محدد ، فنص الأغنية يجعل منها موضوعا بارزا ، لأن الإنسان ” الأوراسي ” عبر عن عواطفه بأسلوب يناسب بيئته المحافظة ، احتراما لمشاعر الناس وحفاظا على التماسك الاجتماعي ، وهنا يمكن القول بأن التعبير عن العواطف بهذه المنطقة له قوانينه وضوابطه ، فهو يتحدث عن امرأة وراء الجدران رؤيتها يعد في حد ذاته حدثا هاما .
نصها :
لهوا أن وذرار … اناس أي لالة أرقد أنيرار
لهوا أن لوراس … أناس أي لالة أنش لباس
ثم هناك مقطع آخر لا يوظفه المغنيون كثيرا هو :
يا زهار أوار سنق أي ذورار … يالقايمة يلييس ءاو زرف ذو خلخال
ملاحظة : وردت الأغنية في كتاب الفرنسي ” جون سرفييه ” أغاني من منطقة الاوراس ، وما جاء من غير هذه العبارات البسيطة فهو حديث لا يمكن لنا إن نبني من خلاله بحثا سليما
تاريخها :
الأغنية قديمة جدا تعود بنا إلى أزمنة غابرة ، فهي تتكلم عن زهير الأسد ، وعن ارتداء المرأة للخلخال الذي لا نجد له أثر في الوقت الحالي ، إضافة إلى كل ذلك لم تكن بها ارتباطات نغمية تتبع مطلع الأغنية كما يحصل بالأغاني الأخرى في الوطن عند كل أداء ، وعليه وظيفتها إخبارية أكثر من ما هي فنية للترويح عن النفس أو للتعبير عن فرح .
أداؤها :
تؤديها فرق الرحابة وهي أشهر الفرق وأقدمها بالأوراس بإيقاع ثقيل ، عكس ما هي عليه الآن تؤدى بإيقاع سريع يواكب حركات الرقص ، وقد عثرنا على مقطع أصلي مسجل بالإذاعة الجزائرية في ١٩٣٨ م ، أخذنا منه نسخة .
الأحداث البارزة في الأغنية :
١ . وصف لجغرافيا الأوراس ، منطقة وعرة المسالك بها جبال عالية ، والجبل نجده حاضر عند كل شعراء المعمورة ، كرمز للأصالة والشهامة ، والبطولات النادرة
٢. المرأة التي وردت في الأغنية اسمها القايمة ، قد يكون اسمها وصف لطول قامتها فهناك أغنية جزائرية ” يا “بلارج ” يا طويل القايمة ” يقصد طول قامة طائر البلارج الذي هو ” اللقلق ” ، ” وقد تكون ” القائمة ” تضع خلخال من فضة هذه ميزة المرأة الأوراسية تفضل الفضة على الذهب الخالص ، يذكر الحلي فيقول “الخلخال ” يوضع في الأرجل ، فالشاعر أو المغني هنا نجد على علم تام بيوميات المرأة الأوراسية .
٣. زهير الأسد ، أخر أسد قتل بالأوراس على يد معمر إيطالي سنة ١٩٣٨ م
٤ . وصف حياة سكان في ذكره لجباله ، والأسد ، والمرأة ، وهنا تبرز شيء مهم جدا يرسم صورة الإنسان الأوراسي ، الذي يجاور الأسود فنتخيل شكله ، وكيف جاور الأسود دون أن يتعرض للأذى ؟ فمن يكون يا ترى الأقوى الإنسان الأوراسي أم الأسد ؟ .
مكتب الجزائر : أبو طارق الجزائري