عبد المنعم علي عيسى
لربما في كثير من الأحيان يكون الأداء العسكري على الأرض غير مفهوم للشارع المتابع، وهو بذلك يكون عرضة أو دريئة للتصويب عليها، إلا أن الحسابات العسكرية لا تستوي بالتأكيد مع حسابات الشارع الذي يريد التقدم دائماً إلى الأمام دونما تراجع ولو قيد أنملة، مهما كانت المتابعات عميقة أو تصل لدوائر القرار عبر قنوات تستند إليها في بناء صورة أكثر وضوحاً، فإن تلك الرؤية تبقى ناقصة ولا تكشف سوى جزء بسيط من المشهد وهي في كثير من الأحيان يمكن أن يتولد عنها حالة سلبية يمكن أن تشكل عبئاً نفسياً قاسياً لا يستحقه ذلك الأداء البطولي الذي اضطلع به- ولا يزال- الجيش السوري على مدار السنوات الأربع المنصرمة، وعلى كامل الجغرافيا السورية من أقصاها إلى أقصاها، إلا أن ذلك لا يعني التوقف أو البحث عن مناظير أخرى يمكن أن تساعد في رسم صورة أعمق، وفي هذه العجالة سنحاول أن نفعل.
خلفية: في سابقة مهمة ولعلها الأولى من نوعها استطاعت منظمة حقوقية أميركية "جود يشيال واتش" مؤخراً أن تنتزع قراراً قضائياً يقضي بالكشف عن مجموعة من الوثائق "106" وثائق العائدة لوزارتي الدفاع والخارجية الاميركيتين، كانت ثلاث من تلك الوثائق على درجة بالغة من الأهمية بالنسبة للسوريين وهي جميعها صادرة خلال شهر آب من العام 2012، وهنا لابد من التذكير بالمناخ العام الداخلي والخارجي الذي كان سائداً في تلك المرحلة وكذلك المواقف الغربية- والأميركية تحديداً- الداعمة لـ"المعارضة" السورية بدءاً من الإعلام وانتهاء بالسلاح، في ذاك الشهر آب 2012 كانت الأزمة السورية قد بدأت فعلياً مساراً تصاعدياً وفيه دخلت الغوطتان الشرقية والغربية ومعهما حلب بوتقة النار في مؤشر يقرأ على أن كل ما يجري في الداخل كان بقرار ودعم غربي وخليجي في آن واحد، كانت المعارضة السورية حتى ساعة كتابة تلك الوثائق تنفي- ومعها الغرب- بشدة، أمر وجود مسلحين سلفيين أو تكفيريين بين صفوفها وتقول بأن تلك الاتهامات ليست أكثر من محاولات لتشويه سمعة "الثورة" السورية تمهيداً لمحاصرتها وضربها.
تؤكد الوثائق أن واشنطن دعمت تمدد تنظيم القاعدة عبر جبهة النصرة وتفرعاتها بما فيه الذهاب نحو إقامة "إمارة إسلامية" في الشمال الشرقي من البلاد (الموقف الرسمي الأميركي كان عكس ذلك) والمثير في الأمر أن الإدارة الأميركية- كما تظهر الوثائق- كانت قد اتخذت قراراً بتبني ذلك المشروع الذي يحقق مصالحها في المنطقة، الأمر الآخر المثير أيضاً هو أن تلك الوثائق تؤكد أن واشنطن لا ترى إمكان سقوط النظام السوري بعكس ما كان يروج له الإعلام وتصريحات الساسة الأميركان، إلا أن المفاجأة الصاعقة كانت تتمثل في أن واشنطن كانت على علم (بل يتم ذلك تحت إشرافها) بشحنات الأسلحة التي كانت تنقل من بنغازي إلى ميناءي بانياس (50 كم جنوب اللاذقية) وبرج إسلام (10 كم شمال اللاذقية).
السياق: تلاقى ذلك الموقف الأميركي مع مصالح كل من الخليج وتركيا اللذين كانا يريان ضرورة قيام منطقة جغرافية محصنة تسيطر عليها المعارضة السورية تيمناً بالتجربة الليبية عندما أدى قيام عاصمتين (وسلطتين) إلى تداعي النظام الليبي وسقوطه 20/11/2011، وإن كانت الأهداف متفاوتة بين الاثنين ففي الوقت الذي تسعى فيه الرياض إلى جعل تلك المنطقة واقعاً على الأرض تمهيداً لقيام سلطة سياسية موالية لها في دمشق، كانت أنقرة ترى أن ذلك المسعى سيكون مدخلاً لتشظي الجغرافيا السورية وتقسيمها إلى دويلات عدة لابد أن يكون نصيبها فيها (في تلك الجغرافيا) وافراً.
تواتر الأحداث: بدأ التصعيد الأخير بتوافق تركي سعودي على الرغم من أن هذا الأخير لم يكن يحظى بغطاء سياسي أميركي فيما يمكن تفسير الموقف الأميركي من ذلك التصعيد على أنه أشبه ما يكون بغض الطرف في مرحلة سماح مؤقتة من المقدر لها أن تستمر حتى أواخر حزيران القادم.
تم تطعيم جبهة النصرة بالعديد من النكهات الأخرى ليخرج إلى العلن جيش الفتح 25/3/2015 الذي حظي بدعم تركي مباشر بالتزامن مع دعم مالي سعودي- إ ماراتي أفضى إلى دخول إدلب 28/3/2015 وجسر الشغور 25/4/2015 والمسطومة 19/5/2015 بالتزامن مع سيطرة داعش على تدمر 20/5/2015 ومعبر التنف الحدودي مع العراق 22/5/2015 وانتهاء بالسيطرة على مشفى جسر الشغور 22/5/2015 بعيد انسحاب الجيش السوري.
القراءة الأميركية: لم تقرأ واشنطن الأحداث الجارية في الشمال الشرقي من البلاد على أنها حصيلة انهيارات بنيوية يشهدها الجيش السوري بدليل تلك الليونة المفرطة التي ظهر عليها جون كيري أثناء لقائه نظيره الروسي في سوتشي 12/5/2015 خصوصاً في الشأن السوري كانت تلك الليونة مؤشراً لا يدانيه أي شك على أن واشنطن لا ترى فيما جرى أساساً صلباً يمكن البناء عليه وإلا لكان هناك أمام كيري حيّز واسع يمكنه من المناورة في مواجهة لافروف ولما تبدّت تلك الليونة المفرطة على النحو الذي تبدت عليه.
وإذا ما أردنا الذهاب أبعد في تلك القراءة عبر ربطها بالوقائع على الأرض فإننا يمكن أن نقول إن جميع ما حققه الإرهاب في الشهرين الماضيين هو أشبه بشيك بلا رصيد في ظل عدم وجود قرار دولي بالتقسيم (دول البريكس أكدت وحدة وسيادة سورية في بيان لها 21/5/2015) وفي ظل عدم وجود توجه داخلي لقيام فيدرالية الأمر الواقع الذي تؤكده الانزياحات الشعبية الهائلة باتجاه المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري (في دراسة نشرتها روسيا اليوم تقول إن 90% من السكان السوريين يقطنون الآن في المناطق التي يسيطر عليها الجيش 22/5/2015 في مطلق الأحوال فإننا اليوم أمام وضع صعب لا يمكن للقيادة السورية القبول به أو باستمراره طويلاً مهما تكن الأثمان المترتبة على ذلك على الرغم من أن التوقعات الحالية تشير إلى تأجيل أي عمل عسكري واسع في الشمال السوري حتى تضع معركة القلمون أوزارها تماماً، تلك المعركة التي غيبت تماماً عن الإعلام على الرغم من أنها الأهم بما لا يقاس من كل ما يجري في الشمال إلا أن دخول المدن المأهولة يثير ضجة إعلامية لا تتناسب مع الأهمية الاستراتيجية لذلك الدخول.
المطلوب منّا اليوم هو الإعلان على الملأ بأننا نخوض "الحرب الوطنية العظمى" وهو أمر أكثر من مهم يمكن له أن يمهد لمراجعة شاملة لجميع ما سبق وعلى مختلف الصعد والمطلوب أيضاً وضع الشارع السوري بصورة الوضع الحالي والمخاطر المترتبة على استمراره تمهيداً لتطبيق اقتصاديات الحرب ووضع جميع مقدرات البلاد في خدمة الجيش أولاً وأخيراً بما فيها إيقاف أي مسار مهما بلغت أهميته للدفع بمعركة التحرير قدماً إلى الأمام.
على أن تكون المرحلة الثانية من ذلك الإعلان توسيع دائرة الحرب لتشمل استهداف المصالح السعودية والتركية والقطرية على حد سواء أينما وجدت وكيفما أمكن.
بقي أن نقول لأولئك الذين تراصفوا تحت عنوان عريض خادع بأن الدولة السورية كانت تقف وراء استمرار الأزمة وتصاعدها بمرور الوقت، ما أطلقه اللواء جميل السيد المدير العام السابق للأمن اللبناني على شاشة الميادين 13/5/2015 عندما أعلن عن رسالة كان قد وجهها الملك السعودي الراحل إلى الرئيس الأسد عشية الاحتجاجات في درعا 15 آذار 2011 ومفادها: "إن التهدئة في درعا رهن بفك تحالف دمشق مع طهران".
كانت الخيارات المطروحة أمام دمشق في تلك اللحظة تنحصر في أمرين لا ثالث لهما أبداً: الأول: إما أن تتنازل سياسياً وتترك البلاد لمخاطر انهيار الدولة وتفكك جغرافيتها.
والثاني: ألا تتنازل سياسياً فتضرب عسكرياً.
الخيار الأول كان سيؤدي إلى هزيمة سياسية كانت ستنتهي بتشظي مكونات الدولة أما الخيار الثاني فقد كان سيؤدي – وقد أدى- إلى خسائر سياسية مواكبة لهزات تصيب البنية العسكرية لكنها لا تصل- ولن تصل إلى مستوى الهزيمة الحضارية أو الفكرية أو الثقافية.
ما يحمي ذلك الخيار الصحيح الذي اتخذته القيادة السورية بكل شجاعة هو البدء بتطبيق حيثيات الإعلان عن قيام الحرب الوطنية العظمى.
|