شهادتي اقدمها للتاريخ، فانا لم اكن يوما بعثيا او من بطانة النظام لكنني كنت ومازلت وسابقى سوريا.
سوريا هي الرقم الصعب الذي لا تستطيع أية معادلة سياسية أن تحتويه إلا حسب قيمته الحقيقية. استقلالية قرارها السياسي يشكل هاجسا مزعجا أمام المستعمرين القدماء منهم والمعاصرون. المطلوب اليوم من قبل المعارضة ليس رأس النظام لشخصه أو النظام لذاته بل، لمصادرة استقلالية القرار السوري الذي لا ترضى به أميركا المعتادة على التعامل مع الجميع بأسلوب السيد الذي لا يراجع ولا يرفض له طلب. تضفي الشرعية على هذا الرئيس او ذاك، وتجرد آخر من شرعيته ضاربة عرض الحائط بكل القوانين والاعراف الدولية. المطلوب اليوم امريكيا هو مصادرة استقلالية القرار السوري، هذا الاستقلال الذي فقدته سوريا عام 877 ميلادية، ولم تستعده بشكل كامل إلا في صبيحة الثامن من آذار عام 1963، استقلال عاد الينا بعد ان فقدناه لمدة 1086 سنة، وياله من خيار صعب امام الدولة السورية التي كان عليها الاختيار بين التخلي عن الاستقلال او مجابهة كل دول الاستعمار القديم والحديث. الخيار كان صعبا، والاختيار كان اصعب، ولكنه كان الاصح حيث فضلت الدولة السورية وقفة العز على طبخة الرز ولهجة الطز. كيف فقدنا استقلالنا الغالي سابقا؟ وكيف استعدناه؟ تعالوا نتصفح أسفار التاريخ باختصار وعندها تعرفون لماذا تقدم سوريا كل هذه التضحيات للحفاظ على استقلالها. أول مرة ذكر فيها اسم سوريا كان عام 64 ق. م. وذلك عندما فتح الرومان هذه البلاد بقيادة بومبيوس الكبير وأطلقوا عليها اسم (ولاية سوريا الرومانية). هذه الولاية لم تكن مجرد مستعمرة خاضعة للروم، بل ولاية بكل معنى الكلمة حيث قدمت لروما خمسة أباطرة والكثير من الفلاسفة والحقوقيين والمهندسين. وفي عام 613 غزاها كسرى الثاني سوريا ودمر دمشق وقتل معظم سكانها. وفي عام 628 استعادها الرومان بقيادة هرقل. وبقيت سوريا تحت الحكم الروماني حتى دخلها العرب عام 636 ميلادية. وفي عام 640، قسمت سوريا إلى أربعة أجناد: دمشق: وتضم طرابلس، جبيل، بيروت، صيدا. حمص: وتتبعها اللاذقية، جبلة، بانياس، طرطوس. فلسطين: وتتبعها قيسارية، يافا، عسقلان، غزة. الأردن: وتتبعها صور، عكا. وفي عام 661، أصبحت دمشق عاصمة للدولة الإسلامية بزعامة بني أمية. وقسم الأمويون سوريا إلى أجناد عهد بإدارتها إلى زعماء القبائل. فكانت قنسرين والجزيرة بيد العرب القيسية. وحمص والأردن وفلسطين بيد العرب اليمانية. ولكن استمرار العصبيات القبلية، وتهديدها لأمن الدولة دفع عبد الملك بن مروان إلى إسناد الأجناد إلى أبنائه وإخوته وأقربائه. وهكذا تبلور نمط وأسلوب الحكم والإدارة لدى العرب وهو: إما حكم قبلي، وإما عائلي. وما زال مستمراً بشكل أو بآخر حتى الآن. ولما بدأ الحكم العباسي لم يتغير هذا الأسلوب. فقد عين الخليفة على ولاية سورية صالح بن علي، وعين عبد اللـه بن صالح بن علي واليا على حمص. والفضل بن صالح واليا على دمشق. ولكن هذا الأمر لم يرض أهل الشام فقامت عام 176 للهجرة ما يسمى بفتنة أبي الهيذام حيث اضطر العباسيون للاستنجاد بأبي جعفر البرمكي لإخمادها. وبالرغم من الواجهة العربية للخلافة العباسية فإن الغرباء هم الذين كانوا يسيرون أمورها لأن العرب كانوا لا يثقون ببعضهم. فالسلطة الحقيقية في عهد المأمون كانت للفرس، وفي عهد المعتصم كانت للأتراك. وفي عام 877 للميلاد سيطر أحمد بن طولون على سورية. والمعروف أن أحمد كان من القوميات الناطقة بالتركية. وهكذا، نتيجة خلافات العرب فيما بينهم استولى الغرباء على مقاليد الحكم في سورية التي ظلت أمورها بيد الغرباء حتى صبيحة الثامن من آذار عام 1963 عندما قام حزب البعث باستعادة استقلالية القرار السوري بعد 1086 سنة من ضياعه. ففي عام 941 سيطر عليها الأخشيديون. وفي عام 968 دخل سيف الدولة الحمداني حلب، واضطر الأخشيديون لاقتسام سورية معه. وفي عام 1093 انقسمت سورية إلى إمارتين سلجوقيتين. إمارة دمشق بزعامة دقاق بن تتش، وإمارة حلب بزعامة رضوان بن تتش. وتحولت طرابلس إلى إمارة يحكمها بنو عمار، والمدن الساحلية إلى جنوب طرابلس كانت بيد الفاطميين. وفي عام 1099 اجتاح هولاكو القدس ولم تستطع دمشق تقديم المساعدة لها. واستطاع نور الدين زنكي توحيد سورية لمجابهة الأخطار المحدقة بالأمة، ولكن الـزنكي أيضاً كانوا من القبائل التركية. وبعد وفاة نور الدين انقسمت البلاد مجدداً إلى أن استطاع صلاح الدين الأيوبي من إعادة توحيدها بعد 12 سنة من الحروب الداخلية، ولكن صلاح الدين كان كردياً ولم يكن عربياً. أي إن القرار العربي السوري لم يعد بعد إلى أيادي أهله. وفي عام 1193 توفي صلاح الدين الأيوبي بعد ان قسم (مملكته) بين اولاده إلى أربعة أقسام. وفي عام 1250 استولى المماليك الأتراك على الحكم في مصر. على حين حكم الأيوبيون الأكراد سورية. وفي عام 1259 قضى المغول على حكم الأيوبيين في الشام. وفي عام 1260 انتصر المماليك على المغول فدخلت سورية بذلك تحت حكم المماليك الاتراك. وفي عام 1401 اقتحم تيمورلنك الشام وأضعف المماليك لأقصى درجة، لكن العرب لم يستطيعوا استعادة حريتهم. ورزحوا تحت حكم المماليك 115 سنة أخرى. وفي عام 1516 دخلت سورية تحت الحكم العثماني الذي استمر 400 سنة. والذي كان القرار السوري فيها أسيراً لدى الأتراك. في عام 1912، تأسس حزب سورية الفتاة الذي لم يكن الاستقلال من أهدافه. وأقصى طموحه كان المطالبة بلامركزية بالحكم. وفي عام 1916 قامت الثورة العربية الكبرى والتي ثبت فيما بعد أنها لم تكن عربية ولا كبرى، بل كانت جزءاً من مخطط أوروبي لوراثة الدولة العثمانية. ولأن التحرر من الحكم العثماني كان بصميمه عملية ولم يكن تحرراً عربياً بكل معنى الكلمة، فقد جاء الاستقلال صورياً حيث وقعت الدول العربية تحت سلطة الاستعمار الأوروبي. فتحول السوريون من غرباء على أرضهم تحكمهم دولة إسلامية، إلى غرباء تحكمهم الدول الأوروبية. في عام 1919، أرسل الرئيس الأميركي ويلسون لجنة (كينغ كرين) لمعرفة رغبات السوريين وأمانيه المستقبلية، وقد جاء في تقرير اللجنة: أن الوحدة الاقتصادية والجغرافية والجنسية السورية واضحة ولا تبرر تقسيم البلاد وخاصة أن لغتها وثقافتها وتقاليدها وعاداتها عربية بجوهرها وأن توحيد سورية يتماشى مع أماني شعبها ومبادئ عصبة الأمم. في الثامن من آذار عام 1920، اجتمع أول برلمان سوري ضم 90 عضواً من سورية، لبنان، الأردن، فلسطين. وعقدوا المؤتمر السوري العام، وأعلنوا عن قيام المملكة السورية العربية وبايعوا عبد اللـه بن الحسين ملكاً عليها. وكما هو واضح من تسلسل الأحداث، فإن مطالب البرلمان السوري كان ترجمة لما ورد في تقرير كينغ كرين المدعوم من أميركا التي كانت تحاول الحلول مكان الإنكليز والفرنسيين في المنطقة لذا، فقد جاء رد الانكليز والفرنسيين فورياً وحاسماً. بتاريخ 25 نيسان 1920 عقد مؤتمر سان ريمو الذي اعتبر أن إعلان المملكة السورية باطل وغير شرعي. وفي ذلك المؤتمر قسموا سورية إلى أربع دول ووضعوها تحت الانتداب الإنكليزي والفرنسي وتجاهلوا الامريكيين تماما. وسلّم المؤتمر صك الانتداب إلى فرنسا لتحكم سورية ولبنان، وإلى بريطانيا لتحكم فلسطين والأردن والعراق. بموجب الاتفاقية احتفظت بريطانيا بولاية الموصل، لكنها تعهدت بتسليم 25% من نفط الموصل المرتقب إلى فرنسا. بينما تعهدت فرنسا بتأمين توصيل نفط بريطانيا عبر سورية إلى البحر المتوسط. وأكد المؤتمر على وعد بلفور بتأسيس دولة يهودية في فلسطين. بتاريخ17 نيسان عام 1946 احتفل السوريون بعيد الجلاء. ولكن تدخل الدول الأجنبية بشؤونها الداخلية عن طريق الانقلابات العسكرية التي كان يقودها الضباط الموالون لهذه الدولة أو تلك أنهكت الدولة وانتقصت من سيادتها على قرارها السياسي. ويكفي أن نعلم أنه خلال عام 1949 فقط قامت ثلاثة انقلابات عسكرية. بتاريخ 30 آذار 1949 انقلاب حسني الزعيم. بتاريخ 14 آب عام 1949 انقلاب سامي الحناوي. بتاريخ 19 كانون الأول عام 1949 انقلاب أديب الشيشكلي. بتاريخ 22 شباط أعلنت الوحدة بين مصر وسورية، ولكن إخواننا المصريين فهموا الوحدة بغير معناه الذي قصده السوريون. بتاريخ 28 أيلول عام 1961 انقلاب أطاح بحكومة الوحدة. وفي صبيحة الثامن من آذار عام 1963 وصل حزب البعث إلى السلطة في سورية بقياد الفريق امين الحافظ، ومعه عاد قرار سورية السيادي إلى أيدي أبنائه بعد أن أضعناه لمدة 1086 سنة. ولكن التصرفات السياسية غير الناضجة لبعض القيادات الحزبية دفعت القيادات الأكثر نضجا إلى عملية تصحيح لمسيرته بقيادة الدكتور نور الدين الأتاسي وذلك بتاريخ 23 شباط عام 1966. وبتاريخ 16 تشرين الثاني عام 1970 قامت الحركة التصحيحية الثانية في الحزب والتي قادها حافظ الأسد. ومعه عاد القرار السياسي السوري إلى أيد النخبة من أبنائه. وفي عام 2011، عادت دول الاستعمار القديم الى محاولات مصادرة الاستقلال السوري ومازالت مستمرة حتى الان تحت شعار "الشعب يريد اسقاط النظام". اقولها للجميع بصراحة: لكل نظام في العالم اخطاء والنظام السوري ليس استثناء. اخطاء النظام لايبرر الدعوة لاسقاطه بل، الدعوة لاصلاحه. الدعوة لاسقاط اي نظام دون وجود بديل افضل ذو برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية لاستلام السلطة والارتقاء بمؤسسات الدولة لحالة افضل ومتابعة الحكم يعتبر اغتيالا للوطن والمواطن. سقوط النظام السوري اليوم عن طريق العنف يعني إسقاط الوطن وإسقاطنا معه. وبذلك نخرج من الجغرافية كدولة، ويلغى وجودنا كشعب وبذلك نخرج من التاريخ. لا أقول إنها مسألة نكون أو لا نكون، إنها مسألة نكون وسوف نكون ولا خيار آخر لدينا سوى أن نكون.