ان لقاء الزعيمين أعادني فورا الى رواية الكاتب الروسي ليو تولستوي "الحرب والسلام" التي تلخص تاريخا معقدا للغاية تتداخل فيه الحقائق مع الخيال لكن كم السخرية من الغزاة التي أظهرها تولستوي وخاصة من نابوليون الذي أراد كسر ارادة روسيا لايمكن لأي سخرية أن تضاهيه لأن الغازي يبدو في تلك الرواية مجرد أداة لاقيمة لها في يد التاريخ ليصنع الأحداث .. تماما كما غزاة هذه الأيام الذين يريدون كسر سورية وروسيا الذين يستخدمهم التاريخ كأدوات لكتابة الحدث مع فارق العظمة الكبير لصالح نابوليون .. ولكن ورغم صعوبة تلخيص مقولة الرواية الى حد الاستحالة فانها ربما كانت حول خيار "لماذا نعيش؟؟ " أو " لماذا لانعيش؟؟ " الذي طالما أرّق تولستوي ..
لقاء الزعيمين بوتين والأسد في موسكو فاجأ الجميع وفاجأ العواصم وفاجأ طائرات السوخوي وبدا محيرا ولايمكن لأي غواص أن أن يصل الى القاع لمعرفة مافيه .. فهو لقاء يحدث في لحظة حاسمة فاصلة .. ويحدث مع بدايات مرحلة عسكرية لم نر منها الا ذروة الجبل الجليدي بعد لأن التخطيط والتحضيرات العسكرية التي سبقتها هائلة جدا وكبيرة جدا .. وكما الحائر الذي يحاصره الطوفان صرت أتلفت الى كل المتحدثين والمحللين ولكني بصراحة وجدت أن حيرتهم أكثر من حيرتي وأنهم يخمنون ويتمنون سواء كانوا مؤيدين أو معارضين .. ولكنهم حتما لايعرفون .. فالرئيسان فاجآنا باللقاء ..
هناك قدر من القلق لدى العالم بالرغم من تسريبات التطمين واتصالات بوتين التي اعقبت اللقاء .. لأنه لايمكن لزعيمين بهذا الحجم والمكانة والتحالف الحديدي أن يلتقيا من أجل شيء عادي أو هام بل من أجل شيء فوق عادي وفائق الأهمية .. بالرغم مما قيل أنها زيارة تحدّ ويراد منها أن يفهم الجميع أن روسيا وسورية ماضيتان الى أقصى مدى في التنسيق والتحدي فان التحدي لايحتاج لقاء بين الرئيسين لأنه لايمكن للتحدي أن تكون له صورة أوضح من تحدي السوخوي وتجولها ومرورها قرب أنف أردوغان حتى كادت تلامسه وتحرق شاربيه بنفاثاتها .. فلابد أن يكون في القمة ماهو أهم ..
طبعا سيكون من غير الطبيعي أن لانرى المنتجات التقليدية للاعلام المعارض التي لم تتطور منذ اليوم الأول للحرب على سورية ازاء كل حدث وصارت تشبه الايقاع أو ضربات الطبل الذي يرافق الموسيقا بشكل رتيب .. فهو لايأتي بشيء جديد ولابنغمة مختلفة .. ولذلك لايمكن أن يمر حدث كهذا دون أن نسمع الايقاع ذاته – من ذات الطبول- الذي نسمعه منذ خمس سنوات .. فكلنا كما توقعنا رأينا كيف نسج الخيال المعارض توقعاته دون أن ينحرف عن الهذيان خاصة وهو في حالة الصدمة والروع من اللقاء بين الأسد وبوتين .. وبنى وعوده القاطعة بأن اللقاء كان للتخلي عن الأسد بل سماه البعض استدعاء وتبليغ الأسد بنهاية المهمة والاستعداد للرحيل .. يعني باختصار اعادة نغمة (روسيا قررت التخلي عن الأسد) في (أيام معدودة) .. نفس التراتيل المملة منذ خمس سنوات حتى دون احترام لذاكرة الناس أو لذكائهم وكأن كل حشود السوخوي وهدير الميغ وسباحة الأسطول الروسي نحو طرطوس وتحليق الصواريخ المجنحة الروسية سيرميه بوتين في البحر مجانا ويغير رأيه كطفل صغير في يومين وينهي المعركة قبل أن تبدأ .. بل ويعطي الاميريكيين كل مايريدون .. والحقيقة لو لم يكتب المعارضون ذلك لأصابني قلق وتوجس من أنهم صاروا عقلاء ويخشى من عقلانيتهم .. أما الآن فاني على يقين أن لاعقلاء في الطرف الآخر بل بلهاء ..
ولكن دعونا من كل المحللين والكتاب ودعونا نرمق الصورة التي أمامنا .. في الصورة بدا الرئيس الروسي محاطا بوزير الدفاع ووزير خارجيته فيما ابتعدت الشخصيات السورية المرافقة للرئيس الأسد عن عدسة الكاميرا ووقفت بعيدا عنها .. والجلسة التي غاب عنها الأستاذ وليد المعلم لابد أنها لايمكن أن تناقش شأنا سياسيا أو مبادرات ديبلوماسية .. ولو كان الأمر كذلك لكان من الضروري اشراك الأستاذ وليد المعلم أو أحد اللاعبين الرئيسيين في الخارجية السورية والمستشارين الرئاسيين المعروفين بباعهم الطويل وخبرتهم وحنكتهم في نصح الرئيس الأسد .. لأن المبادرات الكبرى يناقشها طاقم عمل وفريق ديبلوماسي وحقوق وقانوني طويل عريض .. والرئيس الأسد لم يقم يوما باجراء محادثات ديبلوماسية مع اية جهة في العالم منذ توليه الرئاسة الا بوجود فريقه المخلص والخبير بالشأن الديبلوماسي والحاذق والبارع في تفكيك الفخاخ السياسية وتنقيتها واغلاق ثقوبها ورتق فتوقها .. الرئيس الأسد أبعد الوفد المرافق له عمدا عن الكاميرات لأنه غالبا لم يكن فريقا ديبلوماسيا ليناقش مبادرات وتفصيلات مفاوضات واقتراحات .. الرئيس الأسد لم يذهب وحده طبعا .. فهل كان الوفد المرافق عسكريا رفيعا لكن لم يرد للقاء أن يفهم انه لقاء عسكري؟؟
هناك من قال بأن الأسد ذهب ليبحث ويرد على رسالة هامة جدا من أردوغان الذي يعرض ايقاف الحرب شمالا بضمانة الرئيس بوتين شريطة أن يحارب الأسد حزب العمال الكردستاني وأن يوقف النشاط الذاتي الكردي في سورية لكي يلملم أردوغان شظاياه الكردية المشتعلة داخل تركيا لأنه أكبر خطر على وجود تركيا ظهر من تحت الرماد دون توقع .. أي يجب أن يتجه الجيش السوري لاعادة تواجد الدولة في الحيز الكردي بالقوة المسلحة ويمنع تواصل المقاتلين الكرد على خطي الحدود .. وهذا طبعا سيمتص أكراد تركيا من وجه أردوغان نحو الأراضي السورية لمساعدة أبناء جلدتهم .. أصحاب هذه الفرضية استعانوا بتوقيت الزيارة التي تسبق الانتخابات التركية بأيام لأن أردوغان يريد انهاء أمل الأكراد الأتراك قبل الانتخابات .. كما أنه كان أول المتصلين ببوتين ليعرف الجواب .. ويبدو أن السعوديين لم يدركوا العرض التركي بعد ولازالوا يتحدثون بعنترية منذ زيارة الجبير الى تركيا التي حمل في حقيبته اليها بملياري دولار .. وان صح هذا التوقع فان القيادة السورية – لمن يعرف طريقة تفكيرها – لن تقبل بهذا الفخ الذي يعني أن تنهي ملف المعارضة السورية وتفتح صراعا مع الأكراد تخفف به حمل أردوغان خاصة أن ذلك يعني أن الحرب في الشمال ستتحول نحو الأكراد ويدفع أردوغان وحلفاؤه بالأزمة الى مزيد كي ينتقل أكراد تركيا للقتال والجهاد في سورية ..واستبدال مجاهدين اسلاميين بمجاهدين أكراد .. أي يضرب أعداءه بأعدائه .. ناهيك عن أن القيادة السورية قررت أن لايكون هناك نزاع مع الأكراد بل مساعدة حقيقية لحل مشكلتهم بشكل عادل وخاصة في تركيا ..ولذلك أعتقد أن من يقول بذلك انما يخترع سيناريوهات خيالية ..
وهناك من قال بأن الرئيس ذهب لعقد معاهدة دفاع مشترك مع الروس يتعهد بموجبها الجانب السوري بوضع قاعدة طرطوس وحميميم تحت تصرف القيادة الروسية في أي مرة يتهدد روسيا الخطر لتصبح مثل انجرليك التركية .. ولكن هذا الاتفاق يحتاج أن يكون هناك فريق ديبلوماسي وعسكري رسمي مختص وأن يتم عرضه للتصويت في مجلس الشعب واشهار ذلك علنا .. والا فانه باطل دستوريا ..
ولكن تعالوا نعيد تركيب الأحداث في الأيام الأخيرة حركة اللقاءات في المنطقة .. السعوديون يرسلون منذ أيام وزير خارجيتهم (المصارع) عادل الجبير الى موسكو ولكنهم من ناحية أخرى يغدقون على حملة أردوغان الانتخابية بملياري دولار لتأمين بقاء حزبه الدموي في السلطة عن طريق شراء حياد حوالي 500 ألف كردي وعلماني لمنعهم من التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي وذلك لحرمانه من دخول البرلمان بحرمانه من كتلة ناخبين تجعله لايصل الى نسبة 10% ..فتذهب كل مقاعده الى حزب أردوغان اذا حقق حتى 9.9% من الأصوات .. وهناك في تركيا الآن من يتجول في القرى الكردية ويعرض دفع مبلغ 500 وأحيانا 1000 دولار لمن يسلم هويته قبل يوم الانتخابات الى جهة ثالثة لتعاد الى صاحبها في اليوم التالي دون أن تستخدم ولكن هذا يعني تغييب نصف مليون صوت عن الانتخابات وهي التي فاز بواسطتها حزب الشعوب الديمقراطي وتجاوز عتبة 10% .. كلفة المهمة تدفعها السعودية عدا ونقدا على داير مليم ..
هذا يعني أن التخطيط لعودة حزب أردوغان به تفسير واحد وهو أن الولايات المتحدة وحلفاءها لاتريدان أي حل للأزمة بل اعطاء دفعة تركية لابقاء الحال على ماهو عليه حتى نهاية فترة أوباما بانتظار الرئيس الجديد الذي قد تكون له مقاربة مختلفة خاصة اذا كان جمهوريا .. لأن سقوط حزب العدالة والتنمية هو سقوط مروع ونهائي للثورة السورية لأن اشغال الشمال هو الأساس الضاغط في الحرب السورية .. ومن دون تركيا ودواعشها لاتقدر اسرائيل والسعودية على اللعب جنوبا عندما يتفرغ الجيش لكل الجنوب .. وهذا يعني أن أردوغان مع السعودية يريدان بالنيابة عن الولايات المتحدة والغرب (وبرغبة أميريكية أو تكليف صريح) دفع العمل المسلح الى مرحلة جديدة غايتها تثبيت الاندفاعة الروسية بأي ثمن ومراوحة الازمة في نفس المكان .. فكابوس اسقاط تركيا الاردوغانية سيعني نهاية كل الحرب لأن ذلك يعني نهاية داعش والنصرة بالسكتة القلبية ..
البعض يرى أن التحضيرات العسكرية الثلاثية لسورية وروسية وايران عبر اطلاق فيلق الاقتحام واستقدام المستشارين الايرانيين والسلاح الروسي لم يتم للاستعراض بل للاستعمال .. لأن المعطيات كلها تتفق أن انتصار الرئيس الأسد سيكون كارثة سياسية في تركيا والسعودية وبالتالي على القوى الغربية التي تحرك هاتين الدولتين ولذلك فان الروس يتوقعون احتمال تطور المواجهات في الشمال السوري الى حد كبير يشمل الجيش التركي .. وهذا احتمال يقتضي اجتماع قمة بين الرئيسين لتنسيق خيار المواجهة ان حدثت وحدود التصعيد التي يجب أن تبقى في حدود لاتتدفق منه حرب واسعة كبرى .. والروس يرون أن محاربة النصرة وداعش هو مضيعة للوقت اذا لم تغلق الحدود مع تركيا أي اغلاق الفم التركي بخازوق روسي سوري .. لأن الأتراك والسعوديين يجندون كل يوم مئات من المقاتلين ولاجدوى من قتلهم كل يوم فالقادمون أكثر من الراحلين .. ولذلك لابد من اظهار البأس لأردوغان اذا مافكر بمغامرة وهو لذلك كان اول المتصلين ببوتين ليسأله عن هذ اللقاء الذي يجب أن يقلق تركيا جدا .. ومن هنا يقول آخرون بأن بوتين دعا الأسد لزيارته ليطرح مبادرة هي أن يتم تحطيم كل القوى الراديكالية المتطرفة حتى الحدود الكاملة لسورية يتلوها مبادرة سخية من الأسد باشراك خصومه في حكومة وحدة وطنية بلا أنياب مسلحة ولاتغير من سلطات الرئيس .. وعندها فان أي مبادرة يطرحها الأسد يمكن له أن يكون فيها سخيا كمنتصر وهو يعرض على المعارضين أكثر مايمكن أن يعرضه منتصر في حرب .. انه عرض المنتصر ..
وسيحصل بوتين بالمقابل على تأمين غاز روسيا من أي منافسة أنابيب طالما أن الشواطئ السورية حليفة نهائيا بانتصار الحكم السوري الوطني .. ناهيك عن وجود عسكري ثمين وعزيز للروس في البحر المتوسط وسط ترحيب كبير من الشعب السوري لايعامله على أنه يمس بالسيادة .. وكذلك سيتم تدمير القاعدة الجهادية العالمية الأكبر في العالم التي أريد لها أن تنمو في سورية وتظهر وكأنها خارجة عن السيطرة ولايوجد دولة مسؤولة عنها وعندما تضرب عمق روسيا لايوجد من تنتقم منه روسيا أو تهدده الا دولة هلامية غامضة اسمها الجهاديون السوريون والدواعش .. والأهم أن روسيا ستتكرس دولة عظمى بلا منازع .. لأن انتصار القوة العسكرية هو مؤشر القوة الأعظم ..
مثل هذه القمم الحساسة تحدث قبيل المواجهات الكبرى الحاسمة فمثلا في قمة يالطة في شباط 1945 اجتمع تشرشل ورزفلت وستالين لأول مرة بعد خمس سنوات من الحرب العالمية الثانية ليس من أجل مناقشة مبادرة السلام بل من أجل الاتفاق على تقسيم المانية حيث وضعت مواعيد الهجوم النهائي والخطوط التي ستقف فيها القوات الروسية والاميريكية وعند أي رصيف في برلين التي كانت تنتظر معركة اقتحامها وهي التي تمت بعد 3 أشهر في 21 أيار من ذات العام .. وقد لفتني تعليق طريف يقول (اليوم وبعد سبعين عاما على قمة يالطا يجتمع الأسد وبوتين بدل روزفلت وستالين) .. ولابد أن تظهر نتائج القمة خلال أشهر قليلة ..
لذلك هذه القمة بالرغم من أنها يمكن أن تقرأ على أنها رسالة تحد ورسالة انتصار مليئة بالمبادرات الا أن علينا أن نفكر في أنها أيضا ربما هي قمة بحثا في احتمال تدحرج الأمور الى حرب محتملة اقليمية غير متوقعة اذا لم تفلح جهود السلام لأن من الواضح أن الغرب يراهن على تسليم المنطقة للاسلاميين للانتقال الى تهديد روسيا .. ولم تفلح كل جهود روسيا لاقناعه بالتخلي عن ذلك بل وجدت مماطلة ومراوغة وعملا متواصلا سريا لتحقيق ذلك بكل الوسائل فجاءت بسلاحها .. ولذلك عقدت القمة بين الأسد وبوتين قبل لقاء مهم بين روسيا ودول التحالف حيث ستستمع روسيا فيه الى آخر آراء دول التحالف في اللقاء الاخير .. والا فلابد من خيار الكي .. والكي هو على الحدود التركية لارقائها وايقاف تدفق الدم المهاجر عبرها .. وباسقاط الدور التركي باخراج كل مسلحيها تنتهي كل الحرب ..
حتى الآن لايمكن لأحد أن يدعي أن كلماته نزلت الى بحر الورق دون أن تخشى الغرق .. لأن التشابك والتداخل معقد جدا واللقاء سيبقى سرا من الأسرار الكبيرة الى حين .. ولكن المنطق يقول بأنها قمة الحرب والسلام .. فيها الاستعداد للسلام بالحرب .. أو الاستعداد للحرب بالسلام .. وربما يشبه بوتين بذلك الجنرال كوتوزوف في رواية الحرب والسلام الذي يمثل ليس فقط البطل أو الشعب الروسي بل أيضا الأرض الروسية .. وهو الذي يبدو في الرواية متوترا ونزقا لكنه هو الذي يدفع نابولبون الغازي الى هزيمة نفسه .. وبعد أن يكون كوتوزوف باحثا عن المجد العسكري يفيق على النصر الذي ينبهه الى حبه الصافي لوطنه وأرضه .. واذا كلن بوتين هو الجنرال كوتوزوغ فان الأسد الذي كتبت هذه المرحلة باسمه يبدو كما لو أنه ليو توستوي السوري الذي يكتب أعظم رواية للحرب والسلام في المنطقة ..
ان الحيرة في تلخيص رواية قمة الحرب والسلام لتولستوي الروسي ليست هي نفس الحيرة في رواية تولستوي السوري فهي ليست في سؤال "لماذا نعيش أو لانعيش؟؟" .. ولا في هل ننتصر أو لا ننتصر؟؟ .. بل أن ننتصر .. أو ننتصر .. أو ننتصر .