تحت عنوان " أبو الهول الدمشقي وعواصف الرمال… وأجنحة الذباب" كتب نارام سرجون مقالاً جاء فيه: صدقوني أنني أفضل عبور المحيط الهادي سباحة وأن أتمشى في القطب الجنوبي بقميص صيفي من حرير دمشقي… وأفضل أن أتسلق جبال الهيمالايا حافياً… أفضل كل هذا على أن أعبر سطور مقالة ركيكة مليئة بالحفر اللغوية وحول الكلام والقمامة الثورية، فكلها تكون هواء وهراء من أول سطر فيها إلى آخر سطر، وعندما أصل إلى السطر الأخير أبدو مثل متسابق الماراثون الطويل وهو يجهد في دفع ساقيه والتقاط أنفاسه ليصل إلى خط النهاية… وفي بعض المقالات الثورية كنت أحسّ أنني أملك كرش وزير خارجية البحرين ويُراد مني أن أقطع مسافة الماراثون في المقالة الشاقة دون توقف.
وكنت أحياناً عندما أحاول إكمال مقالة لأحد المجاهدين يخالجني شعور قوي بالعجز والاستسلام وتفجّر الدماغ الذي يشبه شعور أمير قطر المخلوع حمد بن خليفة بالشقاء وهو يحاول فهم المعادلات اللوغاريتمية أو المقصودين في آية ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما… واخفض لهما جناح الذلّ لأنه يظن أنهما نتنياهو وأوباما! وعندها أرفع الراية البيضاء.
ولذلك فإنني كنت غالباّ أصل إلى نهاية المقال الثوري متعرّقاً وقد تقطعت أنفاسي… وأسقط على الكرسي منهاراً أو مغشياً علي… والحقيقة أنني في هذه السنوات أغمي عليّ ملايين المرات وعجزت عن عبور السطور الأولى لمقالات كانت أشبه بمستنقعات عملاقة، الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود، فلا فيها لغة أنيقة ولا فيها حكمة ولا واقعية ولا أدب ولا وطنية ولا إنسانية ولا فيها دين ولا إسلام ولا بوذية، لأنها أقرب الى الوثنية الصماء والغرائز البدائية الأولى، بل الأنكى من ذلك أنها مليئة بأخطاء لغوية فظيعة كأنّ من كتبها أفريقي من قبيلة الهوتو أو سائق بنغالي لدى أمير عربي يجرّ ويرفع وبنصب ويذبح ويسبي الحركات ولا يفرّق بين جمع المذكر السالم وجمع بول البعير.
كنت في ما مضى عندما أقرأ أحس أنني أصلّي وأنني في مكان مقدّس عندما أتصفح الكتابات الخالدة والأعمال العظيمة والروايات والشعر والمذكرات ومؤلفات الفلسفة… وكانت بعض المقالات التي كتبها مفكرون حقيقيون تشبه واحدتها بسطورها المحدودة كتاباً كاملاً كثيفاً… ولكني في هذه السنوات الخمس الأخيرة أعترف أنني قرأت أردأ إنتاج للكتابة عرفته البشرية، وإنني خرجت من معابدي لأقرأ مقالات من وزن الذبابة ووزن البعوضة، وفي كل يوم يرسل لي الأصدقاء كثيراً من المقالات التي كانت أغلبها من وزن الذبابة ليطلعوني عليها وليلفتوا نظري إلى كمّ السفاهة والانحطاط الذي بلغته الذائقة الإنسانية في الشرق، والذي جرفته إلينا فيضانات المستنقعات الوهابية والعثمانية الظلامية.
وكانت بعض هذه المقالات بالنسبة لي أشبه بعملية تعذيب ورحلة قسرية جعلتني أعتبر أنّ أكثر ما خسرناه هو ذلك العمر والوقت الثمين الذي اضطررنا لإنفاقه للاطلاع على عقل الثوار العرب وتفاهاتهم وفك شيفرتهم والردّ على ترّهاتهم… كم لحظة من حياتنا استشهدت أيضاً وهي تموت تحت رحمة التفاهة والعار وسنابك الجنون؟ وبدل أن كانت قراءة الكتب والمقالات الثرية المطرزة بالفلسفة والمعرفة لا شبيه لها إلا الخيول التي تحملنا إلى فتوحات المعرفة، فإننا صرنا مشغولين بطرد أسراب الذباب عن وجوهنا وعن ورودنا وعن مائنا وراياتنا، وعقول أطفالنا، ومستقبلنا وماضينا الغريب الذي يستوقف الإنسان هو هل الخيانة هي التي تولد الغباء أم أن الغباء هو الذي يؤدي إلى ارتكاب الخيانة؟ أم أن الخائن شخص غبي أم أن الغبي شخص تستهويه أفكار الخيانة لأن ذكاءه لا يساعده لاكتشاف أن الخيانة عمل دنيء وغير خلاق؟ هل احتاج عقل الذباب أن ينتظر خمس سنوات كي يكتشف أن أميركا تبيع وتشتري وتورّط الشعوب بالدمار، وأن الروس الذين كتبوا روائع الأدب وروائع الموسيقى والعلوم والتجارب الثورية، والذين حلموا بالعدالة الشيوعية والاشتراكية – رغم براغماتيتهم – أنهم في السياسة أكثر أخلاقاً من رعاة البقر في مزارع تكساس الذين برعوا في الغدر والخيانات وبيع العملاء والأصدقاء والحلفاء واستئصال الشعوب إلى درجة الانقراض؟ هل أغفل هذا العقل نفس الدرس في العراق وليبيا وفلسطين ولبنان عمداً أم كانت غفلة؟ ما هذا العقل الذي احتاج خمس سنوات بما فيها من موت ودم ودمار وكراهية وحقد وجنون وتهجير كي يكتشف في النهاية أنّ أميركا امبراطورية الكذب والمصالح البراغماتية، وأنّ الحرية والديمقراطية هما سلاحان من أسلحتها الفتاكة وهما أشبه بالمصيدة التي تدخلها الشعوب؟ وأنّ أميركا تعاملهم كما تعامل الحشرات.
بعد خمس سنوات اكتشف هذا العقل الجبار أن الثوار قد شربوا مقلباً، وأن أجراس الثورة لن تقرع، وأن خازوقاً دقّ في أسفلهم من جبل الكرد إلى سعسع… بعد خمس سنوات يكتشفون كنزاً عمره خمسون عاماً لدينا… فكم خمس سنوات سيحتاجون ليكتشفوا أن الناتو ليس قدراً وأن الشعوب الحية لا تهزمها الشعوب الميتة التي قتلتها العقلية الوهابية… وأن الرئيس بشار الأسد هو الرئيس الوطني والمحارب المخلص والسوري النقي الذي حارب من أجل كلّ شبر وكل مواطن وكل مذهب وكل كنيسة وكلّ جامع وكلّ شارع، وأن جيشه هو أنبل الجيوش وأعرقها… وانّ الثورة كانت أكبر مؤامرة كونية، وأنهم جميعاً ارتكبوا الخيانة العظمى بحق أبناء وطنهم ووصايا أجدادهم وبحق مستقبل أبنائهم، وسيكتشفون كيف أنّ ظهر العنكبوت لن يصير صهوة حصان مهما أسرجناه بسروج الذهب، وأن الرمل لا تسرج به الخيول الأصيلة، وأن الجياد البرية لا تخشى صوت رصاص الصيادين، وأنّ صهيلها لا تسكته البنادق.
طبعاً يمكن أن تتوقعوا من كتّاب جناح الذبابة أن يكتبوا عن اكتشافاتهم اليومية وفق خطة خمسية كل خمس سنوات… وأن يغيّروا اتجاه الطيران، وهو مبدأ سياسي جديد لا يضاهيه ولا ينافسه فيه حتى الجاسوس "الإسرائيلي" عزمي بشارة الذي انتقل في 45 دكيكة من محور "المكاومة" إلى محور "المكاولة" … ولا يشبهه فيها عبد الباري عطوان الذي كان يكتب كالبعثيين العراقيين ثم صار يكتب وكأنه من جماعة الولي الفقيه، وفجأة حملته العاصفة الى تركيا العثمانية ومشروع أردوغان والحلم الإسلامي، ثم انتقل بقدرة قادر ليصبح من حلف المقاومة عند هزيمة رهاناته… ولا ينافسه في تلك الأكروبات إلا الملك حسين مستر بيف الذي طار يوماً الى غرب نهر الأردن ليصل إلى غولدا مائير ليحذّرها من هجوم وشيك، ثم طار في يوم آخر شرق نهر الأردن إلى صدام حسين ليشدّ على يد حارس البوابة الشرقية ثم غيّر اتجاه طيرانه وأجنحته وانقلب على البوابة الشرقية ودمّرها وخلع كلّ مساميرها وترك حارس البوابة بلا أبواب. وسرّ هذا التأرجح هو أنّ أصحاب مبدأ سياسة وزن الذبابة لا يمكن أن تكون لهم سياسة "أبي الهول" الجامدة كما قالت ذبابة الحزب التقدمي الاشتراكي وليد بيك جنبلاط الذي فسّر تذبذبه السياسي وتأرجحه وتكويعاته وحركاته النواسية وطيرانه الرشيق بين اليمين واليسار، وبين الاشتراكية و"جبهة النصرة" ، وبين العروبة والطائفية، وبين الرئيس بشار الأسد والملك سلمان… بأنه لا يمكن أن يكون مثل أبي الهول ثابتاً على موقف… ويبدو أنّ السياسي الناجح والمثل الأعلى الذي قد يمثل مدرسة ومذهباً لأجنحة الذباب هو ذبابة الحزب التقدمي الاشتراكي ومبدؤه السياسي كما صرّح منذ أيام هوأنه ليس مثل أبي الهول لا يتحرّك ولا يتنقّل… فأبو الهول سياسي فاشل! بل عليك كسياسي أن تكون رشيقاً مثل البعوضة في تغيير اتجاهك ومواقفك مثل أردوغان واوغلو وكلّ الشيوخ الإسلاميين الذين تركوا المسجد الأقصى والقدس ومكة وصاروا يريدون الرقة عاصمة الخلافة الإسلامية! وأن تكون كسياسي برشاقة قادة حماس مثل السافل خالد مشعل واسماعيل هنية قصاص الأظافر… أيّ تنتقل من الأردن إلى سورية ثم القاهرة ثم الدوحة ثم الى هدنة أوسلو… خمس نقلات رشيقة خفيفة في بضع سنوات. بالطبع بعد عصر الرشاقة السياسية وأجنحة الذباب صرنا نعرف لماذا أطلق "الإسرائيليون" على الرئيس الراحل حافظ الأسد لقب أبو الهول الدمشقي … إنه أبو الهول الذي يحرس قاسيون ودمشق ولا يتزحزح ولا يعرف ثقافة الذباب ولا ثقافة الذئاب ولا يعرف براغماتية البعوض الاشتراكي والإسلامي. أبو الهول الدمشقي ترك في مكانه أبا هول دمشقياً آخر هو الرئيس بشار الأسد… وترك لنا جيشاً من آباء الهول … فكلّ مقاتل سوري في الجيش السوري البطل هو أبو الهول الذي يحرس هضبته وقريته وجباله وبيته… ثابت لا يتزحزح… راسخ كالجبل والزمن… له جسد أسد وقلب أسد ورأس رجل… أجنحته من صخر… وهو لا يلتفت مهما طنّ الذباب… وأجنحة الذباب… ومهما ضربت جسده عواصف الصحراء وعواصف الرمال… ملاحظة: اذا أردتم الاطلاع على مقالة جناح الذبابة للذبابة فيصل القاسم عليكم أن تمرّوا بنفس الشقاء الذي مررت به عند عبور مياهها الطينية وسبخاتها الملحية… وأنصحكم بأن ترتدوا أحذية طويلة جزمات لأن فيها نسبة كبيرة من بول البعير إنْ لم تكن كلها… وأرتدوا الكمامات جيداً واحملوا أسطوانات الأوكسجين… واغفروا لي أنني رميتكم هذه الرمية وأنني انتزعتكم من بساتين اللغة وحقول الكلام وأن وقتاً من حياتكم سيموت بلا فائدة وانْ كان بالثواني… ولكن اعتبروها كمن يتلقى لقاح الكوليرا أو الملاريا أو داء الكلب… يتألم صاحبه وقد ترتفع حرارته ولكن لا شك تزيد مناعته ضدّ عضّ الكلاب وبعوض الملاريا الثورية…
البناء- الإعلام تايم نارام سرجون
|