ليس من حق أحد في هذا العالم أن يسألنا إن كنا قد أصابنا الحزن لمصاب باريس .. فليس من العدل أن يسأل الجرح النازف وشفاهه تفيض دماً عن شعوره تجاه نزيف الآخرين .. وليس من الانصاف أن يسأل شخص غريق عن شعوره إزاء غريق آخر يستجير .. ولذلك ليس من حق أحد أن يسألنا عن شعورنا تجاه هجوم باريس، لأن كل شارع في سورية يكاد كل يوم منذ خمس سنوات يرى مارأته باريس .. وكل برودنا لا يديننا اذا لم نبك على الآخرين عندما لم يبك الآخرون علينا .. نحن متنا واحترقنا وفقدنا أطفالنا وأحبتنا ولم تتسابق عواصم العالم لوضع الزهور وايقاد الشموع أمام سفاراتنا ورفع شعارات (كلنا سوريون) .. بل كانوا يقولون إننا نتألم من مخاض الحرية.
ولكن كم هو صعب أن نشبه عدونا وكم هو مذل أن نجد أنه حوّلنا وجعلنا رغماً عنا نسخة منه نهلل لموت العابرين الذين يلاقيهم الموت صدفة .. ونتلذذ ببكاء الأطفال الذين يختارهم القدر صدفة ليجعلهم أيتاماً .. سيقشعر جسدي رعباً وأنا أحس أنني صرت أشبه أعدائي .. فماالفرق بيني وبينهم عندما يصبح قلبي بلا رحمة؟؟ .. وماذا يعني أن كانوا هم من أكلوا قلوب البشر وأكبادهم وأنا من صرت بلا قلب؟؟ كأنهم أكلوا قلبي أنا وتركوا صدري فارغاً إلا من العظام وصرت أمشي بجسد بلا قلب .. وماذا يعني أن كانوا هم من قطعوا رؤوس الضحايا وفصلوها عن أجسادها ولكني بسبب وحشيتهم لم أعد أحس أنني أحمل رأسا بل تركوني جسداً بلا رأس؟؟ .. ماذا يعني أن أنتصر بجسدي عليهم وقد أخذوا منه قلبي وعقلي وعواطفي وجوارحي وانفعالاتي؟ .. تباً لهذا النصر وتباً لهذه الحرب التي سأكسبها وقد خسرت فيها قلبي وعقلي وصرت جسداً مفرغاً من أحشائه وحشاشاته كالمومياء .. وصرت مثل مثقفي الثورات النفطية .. أن نصري سيكون مخضباً بالهزيمة الأخلاقية.
إنني أحمد الله أنني لاأنتمي إلى مدرسة الإسلاميين الحديثة التي ترى في موت الأغيار شفاء لآلام الروح .. وأحمد الله أنني لاأنتمي الى فقه الكراهية الذي يشربه المعارضون الاسلاميون وقد أدمنوا عليه كما الإدمان على المخدرات .. تلك المدرسة التي ترى أن قتل الموالين في شوارع حمص وفي دمشق وحلب فيه مسرّة للضمير .. وأن قتل المارة في أسواق بغداد الفقيرة وشارع المتنبي مدعاة للحبور والرضى وراحة النفس .. والتي ترى أن قطف حياة العابرين على أرصفة الضاحية الجنوبية يشبه قطف العسل .. والتي انتشت وقرعت الأنخاب لموت المسافرين الروس وتناثر أطفالهم في الصحراء .. انها مدرسة الكراهية التي تنتصر عليك وتأكل لك قلبك .. وتتركك مجرد نسخة مماثلة مثل نيغاتيف صورة ضوئية مطابقة لهم وتتعاكس معهم في ألوانها السوداء والبيضاء فقط.
كم يحتاج أحدنا في فواجع الآخرين إلى طاقة عالية ليكتم نداء الثأر فيه وليخمد نار التشفي .. وكم جاهدت قلبي بالأمس وأنا أراقب شوارع باريس ليتوقف عن رغبته في أن يكون مثل قلوب المعارضين الذين يقطفون العسل من أجساد شهدائنا في الشوارع .. ويغزلون أناشيدهم من أنين أمهاتنا وتوجع الآباء .. في أحداث باريس لن أبحث عن براءتي من البربرية ولن أقدم من داخل قلبي وثائق تثبت أنه على ماأقول شهيد .. ولكن مأساة باريس .. ذكرتني أنني بشر .. وأن لي قلباً وعقلاً .. وأنني لن أشبه من أكره ومن أحارب .. ولكنها ذكرتني أيضاً أنني إنسان وأتلذذ بذل الأشرار لأنني بصراحة تلذذت بإذلال فرانسوا هولاند وهو يرى أن مشروعه في سورية أوصله إلى نهاية الطريق السياسي وأنه سينضم إلى قائمة الذين انتهت أيامهم قبل أيام الأسد .. وأعتقد أنه صار في ضمير كل فرنسي يتحمل ذنب من قتلوا في باريس وهو يصر على صداقة أمهات الدواعش.
ليست التفجيرات في المدن طريقة لكسب الحرب .. ولكن الشوارع التي تتفجر دوما تكون بمثابة صناديق بريد .. وأما الانتحاريون والمنفذون فهم سعاة البريد الدموي ومثل كل سعاة البريد الذين يوصلون الرسائل ولايعرفون المرسل ولا فحوى الرسالة .. وكل المتفجرات رسائل وطرود بريدية .. يدفع ثمنها أبرياء ولاذنب لهم .. وبعد كل تفجير يعنى المحققون بكل تفاصيل الانفجار .. هل هي بانتحاري أم سيارة مفخخة؟؟ .. وماهي المادة المتفجرة؟؟ .. وماهي هوية المنفذين؟؟ .. وكم زنة القنبلة ووو ؟؟.. ولكن الأدمغة السياسية ترمي بكل هذه التفاصيل ولايهمها كثيرا ساعي البريد الجاهل بل تحاول أن تعرف هوية المرسل وعنوانه .. وأن تقرأ الرسالة المشفرة بدقة وحرفاً حرفاً.
السعودية هي أكثر الدول التي ترسل الطرود البريدية القاتلة إلى شوارع بغداد ودمشق عبر سعاة البريد المتمثلين بجبهة النصرة وداعش وجيش الاسلام وغيرهم .. واستانبول أرسلت بدورها مئات الرسائل البريدية التي حملها نفس سعاة البريد .. أي داعش والنصرة وكل التنظيمات الاخوانية والاسلامية إلى شوارعنا .. ونحن كنا نعرف المرسل وعنوانه .. واخترنا أن نقتل سعاة البريد اليوم .. وغدا نقتل أصحاب الرسائل.
لاأزال غير قادر على قبول الأشياء دون أن أمررها على أسئلتي التي تحقق معها وتسألها .. فاذا كنا نقول بأن داعش هي صناعة تركية سعودية وفق تصميم غربي جرى فيه استعمال ضباط الجيش العراقي الذي بناه الرئيس صدام حسين بعد قرار بول بريمر بتسريحهم وصاروا بلا عمل ولا مال حيث تسلمتهم المخابرات السعودية واستغلت نقمتهم على أبناء جلدتهم القادمين على متن الدبابات الاميريكية .. ولذلك نجد أن داعش تقاتل بحرفية عالية لأن كثيراً من الجنرالات السابقين للجيش المنحل العراقي والحرس الجمهوري يقودون ويدربون المتطوعين في عملية ثأر واضحة ولكنها تستخدم من قبل الغرب لتنفيذ مشروع تفتيت سورية والعراق .. فكيف يصح أن نقبل أن داعش تضرب العواصم التي ترسل لها الحليب والرصاص والمجاهدين ومجاهدات النكاح ؟؟ وقادة الدواعش يعلمون أنهم لايريدون مزيدا من الاعداء .. ونحن نعلم أن تركيا هي التي كلفت من قبل الغرب برعاية داعش وزراعتها .. ونحن نرى ان الاتراك يقولون علنا انهم عقدوا معهم صفقة عدم اعتداء .. فلماذا يضرب الدواعش أقرب حلفاء تركيا التي ترضعهم وهي باريس؟؟ فهذا سيقلب عليهم اتفاق تركيا معهم؟
إذا من هو المرسل الذي حمّل ساعي البريد (داعش) الرسالة الباريسية؟؟
وبريط الأشياء يبدو أن من أرسل الرسالة الباريسية عبر داعش هي المخابرات التركية – غالباً دون تنسيق مع المخابرات الفرنسية – وكما دفعت بأمواج المهاجرين هي التي دفعت ورتبت لعملية باريس لأن تركيا ستكون قادرة بعدها على التبرع للناتو وللشعوب الاوروبية بفكرة انها هي التي ستحارب بجيشها وتجتاح داعش وتدمر عاصمتها في الرقة .. وتحصل على تفويض الناتو ودعم شعبي غربي .. فيدخل المخلص القبضاي أردوغان الى سورية ويطرد الدواعش نظريا ولكنه فقط سيغير اسمهم .. ولباسهم وعلمهم ليكون علما معتدلا !! .. ويؤيد هذه الفرضية أن هجوم باريس حدث بعد فترة وجيزة من عودة أردوغان للحكم الفردي في تركيا .. وكذلك تصريح أردوغان منذ أيام قبل الهجوم على باريس من أن "حلفاءه يقتربون من فكرة إقامة منطقة عازلة في شمال سورية" .. وأنه جهز آلاف الجنود قرب جرابلس للتحرك حسب بعض التقارير. ولكن هذا الافتراض يغفل وجود الروس الذين لم يأتوا الى سورية ليصبح الناتو شريكا لهم فيها ولاتركيا وهو أيضا يطيح بنظرية الروس المفضلة بأن الجيش السوري وحده هو المخول بالقتال على الارض .. ودخول تركيا برياً الى نطاقهم الاستراتيجي هو اعلان حرب عالمية في نظر الروس .. دون نقاش .. لأنه يعني أن السيطرة الناتوية على جزء من سورية ستؤسس لدولة متطرفة معادية للروس في جزء من سورية ستلاحقهم مستقبلا حتى سيبيريا ..
إذا تبين أن الأتراك هم الذين يتلاعبون بعمليات داعش لغاياتهم السياسية فان عليهم أن يخشوا شيئا واحدا فقط هو الانتفام الروسي وليس الفرنسي .. فاذا ماثبت أن الطائرة الروسية قد أسقطت بتدخل تركي لتوجيه رسالة قاسية الى روسيا بسبب دورها في سورية .. فالروس معروفون أنهم يجيدون رد الدروس القاسية لمن يتلاعب بأمنهم .. ويحاول ابتزازهم بأمنهم فهم قد انتحروا على وقضوا على ثلث سكانهم من أجل اسقاط الرايخ الثالث والوصول الى مكتب هتلر لأنه أراد أن يلقنهم درسا .. أما التنظيمات الارهابية وأجهزة المخابرات التركية فعليها الحذر بشدة من غضب الروس لأن لهم وسائل لاتعرف الرحمة في الرد .. وذكر البعض مثالا على قسوة الروس على أي محاولة للتلاعب بأعصابهم وابتزازهم بأن البريطانيين عندما اختطف القس "تيري ويت" في بيروت في الثمانينات أوعزوا الى احدى الفصائل اللبنانية باختطاف ديبلوماسي روسي لاستعماله كرهينة ليضغط بسببه الروس على السوريين الذين سيضغطون على حلفائهم للاسراع بتحرير تيري ويت لأن القناعة كانت لدى البريطانيين أن السوريين هم من يملك القرار باطلاق تيري ويت .. ولكن الروس عندما وجدوا أنهم يواجهون هذه المعضلة والابتزاز ردوا بطريقة قاسية جدا .. اذ أن الكي جي بي اختطف خلال أيام شقيق قائد الفصيل اللبناني المرتبط بالمخابرات البريطانية .. وفي اليوم التالي أرسل الكي جي بي إلى قائد الفصيل اللبناني صندوقاً وضعت فيه خصيتا شقيقه مع رسالة تقول بأنه سيتلقى كل يوم قطعة من جسده اذا لم يطلق سراح الديبلوماسي فوراً .. ومن الأفضل أن يصل الشقيق حياً إلى أهله .. وبالفعل أطلق سراح الديبلوماسي الروسي على الفور .. ولم يكرر أحد هذا الابتزاز مع الروس. واذا اعتقد أحد أنه سيمكنه ابتزاز الروس بالارهاب فعليه أن يحاذر على خصيتيه !!! والكلام هنا لاردوغان ومخابراته التي تحاول استعمال داعش بأن الروس لايشبهون الفرنسيين وأن عليه أن يحتاط في اللعب مع الروس بالارهاب حفاظا على خصيتيه .. وهذه النصيحة يمكن تعميمها على كل القادة الخليجيين الذين يعتقدون أن داعش أو الارهاب عموما سيقدر على تغيير خطط الروس. الأيام القليلة القادمة ستكشف عن هوية المرسل الحقيقي للرسالة الباريسية .. من خلال تصرف الغرب وسلوكياته الاعلامية .. ولكن لفت نظري اليوم أن البي بي سي البريطانية نقلت ولأول مرة تنديد الرئيس السوري بشار الأسد بالعملية دون أن تنال منه أو تلومه .. وبدا الخبر وكأنه اعتراف لأول مرة بأن الأسد جاد في محاربة الارهاب وأن رأيه مهم في هذا الشأن ويجب أن يكون له دور فيه. ويبدو أن، مزاج أوروبا صار يميل مع المزاج الروسي منذ فترة وازداد التقدير للدور الروسي بعد هجوم باريس .. وتظهر اللعبة التركية الاستخباراتية غبية جداً وسيدفع ثمنها المعارضون السوريون والتنظيمات المسلحة الاسلامية التي سيبدأ العالم كما ورد في مباحثات فيينا في أبعادها وتصنيف معظمها إرهابية والابقاء على هياكل قديمة متآكلة للجيش الحر كما تروج روسيا أنه يتعاون معها في تزويدها بمعلومات .. تمهيداً لجعله وهو ضعيف ممثلاً عن القوى المعارضة وهذا ماسيضعه في مواجهة قوى التكفير التي ستكون كفيلة باضعافه أكثر .. وسيتولى الروس اضعاف هذه التنظيمات بدورهم .. لاطلاق المشروع السياسي الذي رسموه مع القيادة السورية مع بقايا معارضة مسلحة لاتقدم ولاتؤخر.
مما سبق نجد أن، الغرب صار يدفع ثمن سكوته عن نمو الإرهاب في سورية، لأن داعش كذراع لأجهزة المخابرات الغربية صارت تستعمل حتى في عمليات لي الذراع والألعاب الخطرة بين السياسيين .. ومن هنا يمكن فهم تحذير الرئيس الأسد وتشريحه للحقيقة بأن الارهاب الذي يغض الغرب النظر عنه سيرتد عليه حتماً .. سواء تمرد هذا الإرهاب وشب عن الطوق أم دخل كأداة في الصراعات السياسية وعمليات الابتزاز المتبادلة بين السياسيين وأجهزة المخابرات .. ولذلك فان الروس أيضاً قلقون من أن نجاح تجربة الأذرع الاستخباراتية قد تكون سييا في تسليطها على روسيا .. ولذلك فإنهم قرروا الدخول لقطع الذراع .. وسترسل روسيا كل يوم قطعة من أجساد وأعضاء وأذرع التنظيمات الاسلامية في صندوق .. إلى مكاتب المخابرات الراعية لها .. اللسان والعين والأاذن والأاصابع والقلب .. و.. أشياء أخرى ستصل تباعاً في صناديق .. لاتشبه صناديق البريد .. |