"صديقتي اليهودية" للروائي العربي: صبحي فحماوي..
تناولات مباغتة للمعنى والدلالة على اليقين..
النمسا ــــ طلال مرتضى
بالواقع المحسوس نقرّ أن أي منجز, هو حامل لرسالة, وقد نثقل كاهله من آن إلى أخر نأخذه إلى أقاصٍ بعيدة من المراد..
وبالعودة إلى أدبيات الأسلاف ومما اجترعوه من علوم لا بدّ من التوقف عند أدب الرحلات, وهو مجال قيل فيه الكثير..
إيجازاً وبتصرف يدعي أنيس منصور تعريفاً, بأن الرّحلات هي أن تسافر أو أن تقرأ كتبها.
ومنجزها ــــ الرحلة ــــ يصاغ بأسلوب أدبي راق وشائق, وهذا يحتاج إلى عدّة حوامل يتمثلها الرحالة, وهي أن يتمتع بشخصية نافذة الرؤية, عميقة التحليل تسلب لبّ متلقيه عبر غواية الوصف الذي صار باهتاً بعد أن أصبحنا في عصر الصورة الفاعلة..
محمد السويدي/ ناشر يقول: إن جلّ أهداف الرحلات هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكَّل عن طريق الرحلة, فأدب الرحلات ثروةٌ معرفيَّةٌ كبيرةٌ، ومخزنٌ للقصص والظواهر والأفكار، فضلاً عن كونه مادة سرديّةً مشوّقةً تحتوي على الطريف والغريب والمُدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفسٌ تنفعل بما ترى، ووعي يلمُّ بالأشياء ويحلِّلها ويراقب الظواهرَ ويتفكَّرُ بها".
"صديقتي اليهودية" مروية الأديب صبحي فحماوي حملت الرقم "9" في سلسلة رواياته السابقات.. تبدأ الحكاية عندما ينظم المهندس قاسم لرحلة معدة مسبقاً عبر حافلة إلى دول أوربا مع مجموعة من السياح القادمين من دول عدّة, وشاءت المصادفة أن يكون العربي الوحيد, والمتعارف عليه أن العربي يحمل إرثه التاريخي على ظهره..
من لندن كانت الانطلاقة, حين وقفت دليلة الرحلة تعرّف بآخر الواصلين قاسم العربي, فكانت الصدمة عندما سمع همسات الاستهجان لوجوده بينهم, حتى أنه سمع إحداهن تنعته بصدام حسين..
لربما هي المصادفة حين جلس في مقعده المخصص والذي تشاركه فيه فتاة جميلة تبين فيما بعد أنها قادمة من المكسيك, وعلى الرغم من جفافها معه استطاع بحشريته المعهودة أن يكسر جليد صمتها بافتعال بعض الأقاصيص والأقاويل عن السفر والطريق..
وبَطُلَ عجبه عندما عَرف السبب وذلك من اسمها اليهودي "يائيل", لتبدأ المماحكة عندما عرف أنها تنتظر على مضض تخرّج ولديها من الجامعة كي تقوم بإرسالهما إلى "أرض الميعاد" فلسطين, الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية والرحلة في أول ساعاتها..
يفتتح قاسم مزاد المحاجّة بالسؤال البديهي: هل أنجبت وعملت وتعبت لترسل أبناءها إلى الموت, فتكون النتيجة الحتمية أما أن يكونوا قتلة أو مقتولين, مرجحاً الخيار الأول؟. لكل سؤال جواب, من البديهي يا عزيزي أنه وطنهم وهذا واجب.
الحكاية سجال وحسب القائل: الحجّة على من ادعى و البيّنه على من أنكر. الحجج كثيرة لكن أقواها أن تقدم لخصمك دليلاً من إرثه وثقافته وهذا الطريق الأمثل لكسر قناعات الند, وهذا ما كان عندما أدلى قاسم بدلوه في شرح متواتر مسند على مدار أيام الرحلة, بأن فلسطين لأهلها وهم ضحايا الصهيونية المفتعلة, بل إن العنصر اليهودي منبوذاً أوربياً مما جعل الدول الأوربية تزجهم في هذه المعمعة للتخلص من تسلطهم من خلال تعميم أن أرض فلسطين هي " أرض ميعادهم"..
في الخلاصة انتهت بقناعة تامة بأن "يائيل" لن ترسل أبناءها إلى الموت بل ستدفعهم لأجل البحث عن حياة وسلام.
وأنت تطوي الكتاب جانباً, لربما ستقهقه ملء شدقيك مصرحاً: من الطبيعي أن يقنع قاسم يائيل بعد مضاجعتها وإنعاشها بفحولته التي لن تفارقها لذّتها, ومن السذاجة أن نتوقف عند هذه النقطة بالتحديد لنصل إلى قناعة ملموسة وهي أن الطفل اليهودي منذ ولادته يشبعونه ويملؤه بالأفكار العدائية للعرب وتصويرهم بأنهم قتلة, أما بالنسبة للأوربي فالعربي كما جسدّه رسّام عالمي في لوحة اشتراها قاسم خلال الرحلة, يظهر فيها بدوي يجر خلفه جمل في صحراء يتلمس طريقه بين كثبان الرمل ودليله شعلة لهب تنير من بعيد الصحراء ناتجة عن مصفاة لبئر نفط..
أنا اعتقد أن العرب سوف يضيعون عندما تنطفئ هذه الشعلة, وبالفعل هذا ما تلمّسه قاسم من يائيل التي لا تعرف الحقيقة.
الفحماوي في سهله الممتنع وبأسلوب سردي شائق يشي بكثافة رؤاه, مرّر الكثير من الوثائق المهمة التي لا تتقبلها لغة السرد بسلاسة متناهية كاشفاً عن مضمراتها بمخيال ثر متماه مع علائق المروية والطريق, أتى صادماً في آن وأخر متناغماً مع الحالة للوصول إلى غاية السؤال: كم نحن مقصرين في تقديم أنفسنا.