غسّان القيّم.
…………………..
سبع وثمانون عاما مرّت على بداية التعرف على موقع أوغاريت الأثري ( رأس الشمرة ) وبالرغم من كل الاكتشافات المذهلة التي تمت خلال هذه السنوات مازالت هذه المدينة العظيمة تدهشنا بجدية
اكتشافاتها . حبي لأوغاريت والكتابة عنها لم يأتِ من فراغ فأنا أشرف على هذا الموقع الأثري الهام منذ أكثر من خمسة و عشرون عاما كنت أعيش فيه شجونه ونجاحه وابداعاته ومتابعة أهم مكتشفاته الأثرية وبالرغم من كل الاكتشافات المذهلة التي تمت فيه .. مازلنا لانعرف إلا النذر اليسير من عناصر قوة أوغاريت وازدهارها وحيوية شعبها وعلاقتها مع دول العالم القديم في الألف الثاني ق.م . ما آثارت دهشتي مؤخرا مجموعة من الدراسات الحديثة قرأتها عن أوغاريت بأقلام نخبة من علماء الآثار في العالم تتحدث عن علاقات أوغاريت الدولية ودورها في التجارة الدولية . فعلاقاتها مع إبلا ( تل مرديخ ) بدأت منذ منتصف الألف الثالث ق.م وعلاقاتها مع ماري – تل الحريري قرب البوكمال على الفرات بدأت في الألف الثاني ق.م وعلاقاتها مع بلاد مابين النهرين نشأت منذ ذلك التاريخ . وفي منتصف الألف الثاني ق.م شملت علاقات أوغاريت أرجاء مختلفة من العالم القديم من كريت واليونان وآسيا ومصر وبلاد ما بين النهرين إضافة إلى ممالك الداخل السوري ومملكة الحثيين . وتشير هذه الدراسات التي تعتمد على المكتشفات الأثرية في بياناتها ومعلوماتها إلى أن جماعات مصرية وحثية وحورية وآكادية قبرصية وكريتية وغيرها كانت تعيش إلى جانب الأوغاريتيين وقد قدمت هذه المدينة في عصر ازدهارها المديد , ثقافات مختلفة نتج عنها ابداعات مختلفة كانت فيها الثقافة الأوغاريتية هي الأقوى والأكثر تأثيرا وتفاعلا وديمومة .
جديد هذه الدراسات مايتعلق بشؤون التعليم فتخبرنا الوثائق المترجمة عن نصوص مسمارية عن كيفية اعداد الكتاب . ففي الحي الارستقراطي وجد في منزل » العارف بالقراءة والكتابة « » منزل رابعانو« على مجموعة من النصوص السومرية والآكادية والأوغاريتية لم ينشر منها سوى الجزء اليسير وكان هذا العارف يدير مدرسة عليا لتعليم الكتابة والقراءة ويصقل معارف الطلاب بمهارات جديدة في الكتابة . وتعليم اللغة في هذه المدرسة قد انحصر في حفظ الرموز عن ظهر قلب واكتساب مهارة الترجمة وكتابة النصوص المتعارف عليها ونقلها , إلى هذه النصوص ينتسب ( نص الصلاة ) التي كان الطلاب يقرؤونها للآلهة , طالبين من الآلهة المساعدة في امتلاك ناصية فن الكتابة والحساب في أسرع وقت وكان يتوجب على الطلاب أن يتعلموا الآكادية إلى جانب لغتهم الأم .ونشير في هذه السياق إلى مجموعة من الكتب التطبيقية والنصوص الأدبية والوثائق التجارية والمراسلات الدبلوماسية تضم معلومات عن مختلف المواد والظواهر وتطبيقات في علوم اللغة الأوغاريتية . ومن النصوص الأدبية الطريفة التي وجدت في أوغاريت نشرت دراسة عنها لنص يتضمن مناجاة انسان بريء معذب يروي لنا معاناته كيف هجرته الآلهة وتخلت عنه , انه يتعرض لملاحقات أقاربه وهم يعدون العدة لدفنه .رغم مايتعرض له يبقى وفيا للآلهة التي تعيد اليه في نهاية المطاف الطمأنينة والسعادة الدائمة . ونذكر أيضا رقيما غاية في الأهمية لأنه يحتوي على مايبدو نوعا من الموسوعة الشاملة وجدنا فيه تعداداً لأنواع من الأسماك والطيور و النباتات والمنسوجات والأقمشة والأحجار الكريمة والأوعية … الخ هذا دليل على أن الباحثين في المدينة كانوا يريدون أن يجدوا في متناول أيديهم الوثائق التي كانت توفر لهم كل المعلومات اللازمة. واكتشف أيضا بعض النصوص ذات صفة طبية مع مراعاة ان الطب في ذلك الوقت كان على ارتباط وثيق وتداخل كامل مع السحر ..
ألم أقل إن أوغاريت مازالت مثيرة للدهشة والإعجاب يدفعنا ذلك إلى زيارتها للتعرف على مكتشفاتها وحضارتها العظيمة . هذه المدينة ستبقى تحتفظ بمكنونات ألقها وسرمديتها إلى أمد طويل وجزءا مكملا للحضارة السورية في النصف الثاني من الألف الثاني ق.م ..
عاشق أوغاريت ..غسّان القيّم..