المدن ليست أبنية وشوارع بل هي كتب تاريخية في مكتبة الزمن لها سطور وكلام مكتوب .. كل بيت فيها كلمة وكل شارع فيها عبارة وجملة طويلة فيها سردية وأسرار .. وكل الشبابيك والأبواب أشارات استفهام وتعجب .. وسر حنيننا الى مدننا ليس أنها مكان عشنا فيه وتنفسنا فيه .. بل لأنها مكتبة ذاكرتنا وسجلات تاريخنا الشخصي .. فكل شارع مررنا فيه كتب عنا قصة حزينة أو سعيدة وأرّخ للحظات فاصلة لاتنسى في حياتنا عن أحبتنا وأصدقائنا ومعاركنا مع خصومنا .. في الطفولة وفي الصبا والشباب .. وكل نافذة وقفنا تحتها ارتسمت ظلالنا تحتها كارتسام الوشوم على الأجساد .. لايزيلها المطر .. ولاتذيبها حرارة الصيف ولاقطرات العرق ..
ولذلك فان الشوارع مقدسة كما الكتب المقدسة .. وتكاد تستحق الوضوء كلما مررنا بها تكريما للحجر الذي صار دفترا للزمن .. وهي لايجب أن تحمل الا أسماء لاتهينها .. والا كان الاسم الكريه مثل النجاسة المنقضة للوضوء .. المكان يتوضأ دوما بالقداسة أو الكرامة عندما يتعمد بدم الشهادة واسم الشهيد والبطل .. ولكنه يتوضا بالبول عندما نضع عليه اسما ليس طاهرا .. ولذلك فقد فعل حسنا كل من فكر عبر هذه الاشارة الذكية (الصورة) بأن يقتلع رمزيا اللوحة التي تحمل اسم عبد العزيز آل سعود مؤسس أول مملكة لداعش (أي السعودية) .. ووضع اسم المخرج السوري نجدت أنزور من ضرب بعصاه على تمثال ملك الرمال وبدأ بتهشيمه وتهديمه ..
ولم اكن أدري انني قد أمر بشارع من شوارع دمشق يحمل اسم مؤسس مملكة الرمال الارهابي عبد العزيز آل سعود .. لأن ذلك مثير للقشعريرة لي ولحجارة الشارع وبالحاجة لغسيل الأيدي والأقدام والاستحمام كلما مررنا فيه .. وهو يعطي شعورا مذلا وجارحا للكبرياء والكرامة .. وهو احتقار للمشاعر الانسانية والوطنية .. ولاأدري ان كان التصويب في الصورة حقيقيا أو تعبيرا عن مطلب شعبي وأخلاقي بحيث يزال اسم الملك الذي يكرهه السوريون ويوضع مكانه اسم أكثر المبدعين السوريين شجاعة وأخلاقا وانسجاما مع رسالته ..
وأخشى أن تحمل شوارع أخرى أسماء كل الخونة والمجرمين والجواسيس فتخيلوا أن يكون هناك شارع باسم المستر بيف (الملك حسين بن طلال الذي كان جاسوسا) ونحن من يعرف أنه كان يطير خلسة لتحذير غولدامائير من هجوم وشيك عليها كما لو كان مستوطنا اسرائيليا يتجسس علينا .. فاذا كان لذلك الجاسوس شارع باسمه فان من حق ايليا كوهين أن يكون له شارع باسمه .. فكلاهما جاسوسان .. واحد جاسوس صغير وآخر جاسوس كبير .. لكننا نشنق الجاسوس الصغير ونكتب اسم الجاسوس الكبير على أحد شوارعنا تكريما للشارع وللجاسوس .. فأي تزوير للتاريخ نرتكب ؟؟ وأي اذلال للضمير نرتكب؟؟ فاذا كان لعبد العزيز آل سعود شارع باسمه فانني أخشى بعد اليوم أن يطالب أبو بكر البغدادي بحصة في شوارعنا .. وان يطالب عزمي بشارة بحقه كجاسوس في أن يكون له شارع باسمه ؟؟ وربما يقترح علينا محبو القرضاوي ان يكون الشارع الذي تقع فيه السفارة الاميركية باسمه كونه يحب الناتو حيا وميتا ..
أستطيع ان أفهم أن هناك شارعا في الكيان الصهيوني يحمل اسم أنور السادات .. أو اسم الملك حسين .. أو يوسف القرضاوي فهؤلاء خدموا اسرائيل وخلصوها من أدق مآزقها فالأول أخرج اسرائيل لأول مرة من صفوف العدو والثاني عاملها كصديق وفي والثالث ترجم الآية التي تقول (واذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) .. ووضع ايران والشيعة مكانها .. ولكن أن نمشي في شوارع تحمل اسماء قاتليها فهذا يحيل شوارعنا الى شوارع تشبه شوارع تل أبيب وعواصمنا أشبه بمستوطنات اسرائيلية .. تخيلوا أن يأتي جيل من السوريين ويمر بشوارع دمشقية وحلبية عليها اسماء مثل حمد بن خليفة وحمد بن جبر .. وابو محمد الجولاني ورجب طيب أردوغان .. وابو بكر البغدادي .. أو شارع السافل خالد مشعل .. أو مثلا شارع البطل "برهان غليون" .. والبطل "ميشيل كيلو" .. أو جامعة معاذ الخطيب .. أو مدرسة البطلة مرح أتاسي .. أو مدرج فيصل القاسم في الجامعة .. ان المكان عندها سيضربنا وستقع جدرانه على رؤوسنا عقابا لنا وسترتمي مآذنه على أجسادنا لتسحقنا تحت أقدامها وهي ترتجف غضبا منا .. فكما يقول نزار قباني (وللمآذن كالأشجار .. أرواح) .. وأرواح المدن لن تغفر لنا .. وستنتحر وترمي نفسها في خطوط الزلازل أن أهنّاها ..
منذ اليوم سأنتبه الى أسماء كل الشوارع في مدينتي لأقتلع اللوحات التي تحمل أسماء تهين الشوارع وتذل الشبابيك وتنكأ جرح الذاكرة ويسيل منها بول البعير او زيت الكاز أو زيت الجنس .. لأن تصويب التاريخ لايكون الا بتصويب الحقيقة على الأرض .. وتزوير التاريخ يبدأ من تزوير التفاصيل على الأرض وتزوير أسماء الأزقة والحارات والشوارع حين نمنح ملكيتها لمن لايستحق .. فتزوير التاريخ واحد وهو لايختلف بين اغتصاب اسم شارع ومنحه لملك خرب مع عائلته كل شوارع الشرق وبين اقتلاع اسم فلسطين ومنح تلك القطعة من الأرض للصهاينة ليكون اسمها اسرائيل .. فالقبول باسم ملك الارهاب في شوارعنا يعني القبول باسم ملكة الارهاب اسرائيل بدل فلسطين .. فهذا تزوير وذاك تزوير .. تماما كما أن الجغرافيا زورها سايكس وبيكو وأطلقا على شوارع الشرق أسماء مزورة ليكون هناك شارع اسمه الأردن لصاحبه الملك عبدالله الأول .. وشارع اسمه لبنان ليكون ملكا لشركة فرنسية .. وشارع اسمه فلسطين منح لدواعش اليهود ليسموه اسرائيل ..
ولأن يقيني هو أن مملكة تكره الحرية لايمكن أن تمجد ابطال الحرية .. فان السؤال الذي يخطر ببالي هو كم شارعا في السعودية يحمل اسم أبطال استقلال سوريا مثل سلطان باشا الاطرش وابراهيم هنانو والشيخ صالح العلي؟؟ أو كم شارعا يحمل اسم زكي الارسوزي أو حافظ الأسد أو أنطون سعادة أو عمر المختار أو عبد القادر الجزائري أو جمال عبد الناصر كي يعطي بعضنا اسم شارع ويهبه لاسم الملك عبد العزيز ملك الارهاب والسبايا وخادم دولة اسرائيل من المهد الى اللحد؟؟
أخشى أن تكون الشوارع العربية عموما مغتصبة وملأى بأسماء الخونة والعملاء والقتلة والمجرمين والجواسيس والأعداء ونحن لانكترث بتصويب التاريخ .. وقد سمعت أن الثوار الليبيين مثلا هدموا نصب عبد الناصر ولاأدري تمثال من سيحل محله .. هل هو تمثال برنار هنري ليفي أو شيمون بيريز؟؟ .. وماهي أسماء الشوارع الجديدة في ليبيا ؟؟
تصويب اسم الشارع في الصورة ليس مجرد عمل رمزي أو تصويري لكنه اعلان ثورة أخلاقية على التاريخ المزور .. وتصويب التاريخ تذكروا أنه يبدأ من الحجر والشجر والزقاق والحي .. و سيتبعه حتما تصويب الجغرافيا .. وعندما تقول الأرصفة والنواصي والأحياء الحقيقة سيصوب التاريخ كل الحقيقة المشوهة والمزورة .. وستصوب الجغرافيا الخلل وتعيد المسروقات .. وعندما يسقط اسم عبد العزيز آل سعود عن الشوارع والذاكرة أو يدعى اليه في أفكار الشباب وابداعاتهم .. فهذا يعني اعلان البداية لسقوط مملكته الرهيبة .. ويعني أن اعادة الاعتبار للتاريخ الحقيقي وللأخلاق الوطنية سيعني اعادة اسم فلسطين للجغرافيا بدلا من اسرائيل .. وأن رحيل سايكس بيكو وكل دويلاتهما الى الجحيم .. ليس ترفا .. فكل البحار الكبيرة بدأت من القطرات الأولى .. والمطر بدأ يسقط .. والسيول ستتجمع يوما .. وسيكون هناك بحر هائج ..
وأنا في الحقيقة لم أنتبه يوما الى أسماء الشوارع التي أمر بها في دمشق .. لأنني في كل شارع أمر به لااعترف بالأسماء التي يحملها كالنياشين على صدره الا أسماء الشهداء والعظماء .. بل أطلق على كل شارع يحمل اسما رخاميا لملك أو بلد الاسم الذي يستحقه وبقدر ماأعطاني هذا الشارع من ذكريات لتاريخي الشخصي كما لو كانت دمشق مملكتي أنا .. فهذا شارع الحب وذاك شارع الحزن وتلك جادة اللقاء الروحي مع الله.. وذلك مقهى فريديريك نيتشه .. وذلك هو جسر الألم والهزيمة وذلك الدرب هو درب الآلام … وذاك هو رصيف الأمل .. وتلك الناصية هي ناصية النصر ..
ولكنني منذ خمس سنوات وأنا أمرّ على شوارع مملكتي وأغير لها أسماءها القديمة .. ومنذ خمس سنوات وأنا أتخلى عن كل اقطاعات مملكتي واقتلع اللوحات التي زرعتها ذاكرتي القديمة .. وأضع مكانها لوحات جديدة لذاكرة جديدة .. لأنني صرت أخجل من ذكرياتي الجديدة المضمخة بعطر الشهداء من الأصدقاء والجيران والأحبة الذين سمعت قصصهم وقرأت عنهم كل يوم وفي كل شارع قديم كان يحمل رائحة ذكرى قديمة .. وقد صرت أمنحها أسماء كل الشهداء وكل الجرحى .. وكل الأحداث الأليمة .. والانتصارات .. وانباء النصر .. وامنحها لكل الأبطال الذين سمعت قصص استشهادهم وجراحهم وبطولاتهم ومعجزاتهم وسمعت بكاء أمهاتهم في الوداع واللقاء والاشتياق .. وأنا أسير بين أزقة المدن وعلى أرصفة الالم السورية لاأتوقف عن استبدال اللوحات القديمة ..
ولكن الحقيقة أن من ابتدع تلك الرمزية (سواء في الحقيقة أو عبر الفوتوشوب) في طرح ازالة اسم ملك التزوير وملك من رمل أو دعا اليها رمزيا .. ليضع مكانه اسم ملك حقيقي من رخام وابداع فني نهضوي قد أعطى لثورتي على ذاكرتي بعدا آخر .. وأحسست أن في فم المستقبل انباء سارة .. بدأت بسقوط اسم ملك على شارع في ذاكرة .. وستنتهي بسقوط كل المملكة .. مملكة الشر ..
==================
الصورة رمزية وهي تعبير عن رغبة شعبية في تصويب التاريخ