زينب عقيل

زينب عقيل – بيروت برس –
بعد خمسة عشر عامًا من محاولات الهيمنة والسيطرة على "الشرق الأوسط" بالقوة، تارة تحت عنوان الدفاع عن حق الشعوب بالديموقراطية، وأخرى بحجة حماية الأمن القومي الأمريكي. والتنظير لمشاريع تقسيم مثل "الشرق الأوسط الجديد" الذي بدا مدروسًا منذ العام 1993 عندما تحدث شيمون بيريز في طرحه حول "الشرق الاوسط الكبير" فقال "لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذًا". وهي السياسة التي تبناها الحزب الجمهوري الحاكم حينها في الولايات المتحدة، ودارت السياسة الاميركية في رحاها. بعد كل ذلك غطت "حمامة السلام" باراك أوباما على شرفات البيت الأبيض، حاملة معها الديموقراطية "المطاطة" على حجم الواقعية السياسية فيما يسمى "عقيدة أوباما".
كاد أوباما أن يخرج من فترتين رئاسيتين دون أن يشكل له عقيدة "doctrine" تحدد الخطوط العامة لسياسته الخارجية كما اسلافه، حتى تقرر أول اعلان لها في نيسان من العام الماضي. عندما نشرت نيويورك تايمز مقابلة صحفية تحت عنوان "عقيدة أوباما وايران"، صرّح أوباما فيها " انّ أميركا ستتفاوض وتتفق مع الدول التي تخالفها، وإن قوة أميركا تؤهلها لأن تتخذ خطوات محسوبة".
وتجاه حلفائه الذين وصفهم حينها "بالمذهبيين" قال "جزء من واجبنا هو العمل مع هذه الدول وشرح كيف يمكننا أن نبني قدراتهم الدفاعية ضد التهديدات الخارجية" وأضاف "أعتقد أن أكبر التهديدات التي يواجهونها قد لا يكون غزوًا من جانب إيران. بل إنها قد تنتج عن عدم الرضا داخل بلدانهم". وما انفكت المملكة السعودية كلما سمعت من ذلك الكلام، تنتابها نوبات هستيرية على من حولها، على قاعدة "ما فيك للقوي بتفش خلقك بالضعيف".
ثم جاءت المقابلة الثانية أمس، أجراها أوباما مع مجلة "أتلانتيك" الاسبوعية، دعا فيها الى "سلامٍ باردٍ" بين طهران والرياض، واصفًا حلفاءه الخليجيين بأنهم "قوى جامحة تتهيأ لحضورنا واستخدام قوتنا العسكرية في مواجهة حاسمة ضد إيران، بيد أن الأمر لا يخدم المصالح الأمريكية، أو مصالح الدول الإقليمية". داعيًا الرياض الى تقاسم النفوذ في "الشرق الأوسط" مع ايران. مفتخرًا باللحظة التي قرر فيها التراجع عن العمل العسكري ضد سوريا عام 2013.
في كتابه "عقيدة اوباما.. الاستراتيجية الأميركية اليوم" علّق الباحث في السياسات الخارجية الأميركية كولن دويك أن "تلك العقيدة التي تقوم على تلطيف الوجود الأمريكي في الساحة الدولية، وانتهاج سياسة الاستيعاب للمنافسين والخصوم من شأنها أن تجعل العالم أكثر أمنا، وأميركا أكثر ازدهارا".
الا ان الواقع الذي لا يحتاج الى كثير تأمل، ان هذه العقيدة "المتحولة" جاءت بمقتضى الحاجات الامريكية الاستراتيجية الجديدة، وأن "التغيرات على مستوى موازين القوى في العالم اقتضت إحداث مثل هذه الانعطافة" كما يؤكد مراقبون. وهي إقرار صريح بالدور الكبير لايران في المنطقة والتأثير الوازن لها. كما أن مجرد الحديث عن اقتسام نفوذ أو اقتسام أدوار هو خسارة للسعودية التي لم تستوعب بعد أن الولايات المتحدة الاميركية تتحرك وفق مصالحها، بالرغم من التصريحات الواضحة والمبطنة بخصوص ذلك.
وفي السياق عينه، بعدما انتهت الولايات المتحدة من اتمام صفقات التسليح مع السعودية بمليارات الدولارات، واستفادت فرنسا من ذلك في الطريق، حان وقت انزال السعودية عن الشجرة اليمنية، خاصةً بعدما اتضح أن المملكة تريد الخلاص، وهي ذاهبة الى مفاوضاتٍ مباشرةٍ مع الحوثيين، فقد نقل عن مصادر خاصة أن حركة أنصار الله أرسلت وفدا إلى المملكة العربية السعودية للتفاوض حول وقف العمليات العسكرية على الحدود مع اليمن. فيما جزم المستشار بمكتب وزير الدفاع السعودي أحمد عسيري لقناة العربية أنها "مجرد وساطات قبلية". وسواءٌ كانت مباشرة أو مجرّد وساطات، فإن هذه الخطوة بحدّ ذاتها تعتبر تراجعًا عن عاصفة الحزم التي لم تعرف أهدافها الاستراتيجية مذ عصفت، اللهم الا اذا كانت متعلقة بالازمة الاقتصادية الاميركية وتصريف السلاح الأمريكي.
وهكذا يكون أوباما قد مارس عقيدته بدعم "قدراتهم الدفاعية ضد التهديدات الخارجية". ثم أدى قسطه للعلى السعودي بحفظ ماء وجه "الحليف" في المنطقة، وحافظ للسعودية على بعض المكتسبات والنفوذ، التي باتت مهددة كليًا، مع اي تهوّرٍ جديد.
أما بخصوص الدعوة الى "سلام بارد" بين الرياض وطهران، فقد يكون تفكيك مضمون العبارة، في المقاربة التي وردت في سياق حديثه العَقَدي عن مصالح أمريكا عندما أكّد "أن الاتفاق مع ايران هو المكان الذي يجب أن نبدأ منه". بعدما ثبت لديه ان نظام العقوبات على ايران لم يجدِ نفعًا طيلة السنوات الثلاثين ونيف الماضية، ولا الحروب بالوكالة. وأثبتت ايران انه لا يمكن استبعادها من المشهد الإقليمي.
لم يوقع أوباما مبادئه في السياسة الخارجية في وثيقة ادارية كما فعل أسلافه. الا أنه وقع الاتفاق النووي مع ايران. ومع اقتراب الاستحقاق الرئاسي الأمريكي، يتوقع دويك في نهاية كتابه "أن من سيتخلى عن سياسة أوباما قبل الجمهوريين هم الديمقراطيون أنفسهم حتى لا تكون سياسته سببا في خسارة حزبه الحكم في العام 2016" . فهل سيحسم توقع الباحث المسألة؟ أم أن التحولات التي ستشهدها الساحة الاقليمية على أثر الاتفاق النووي هي التي ستحسمها؟