
ولد ميخائيل يورييفيتش ليرمنتوف في الثاني ( الرابع عشر ) من شهر تشرين الأول من عام 1814 عند البوابة الحمراء لمدينة موسكو في عائلة ضابط متقاعد . بعد وفاة والدته باكراً ( في عام 1817 ) قامت بتربيته جدته لأمه الغنية بعيداً عن والده . و قد قامت جدته بكل ما يلزم تجاه حفيدها الوحيد و المحبوب ، و لم تبخل بالمال على تعليمه و تربيته . فقد تلقى تعليماً منزلياً ممتازاً : صار منذ الطفولة يجيد اللغتين الفرنسية و الألمانية ، و كان يجيد الرسـم و الـعزف على البيانـو و علـى الكمان .
و بسبب قلقها على صحة حفيدها الضعيف قامت الجدة برحلات مرهقة إلى القفقاس ( 1818 ، 1820 ، 1825 ) بهدف العلاج بالمياه المعدنية . و قد تركت تلك الزيارات في ذاكرة ليرمنتوف آثاراً مدى الحياة و وجدت انعكاساً لها في أشعاره الباكرة : " القفقاس " 1830 ، " أحييك ، يا جبال القفقاس الزرقاء ! " 1832
انتقل في عام 1827 للعيش في موسكو ، حيث تابع تعليمه في واحد من أفضل المراكز التعليمية في روسيا – بانسيون خيري تابع لجامعة موسكو .. و هناك بدأ كتابة الأشعار و قد أدرك أن الشعر – رسالته . في هذه الفترة يظهر تأثير بايرون على أشعاره ، فيكتب عدة روايات شاعرية " بايرونيـة " ( " الشركـس " ، " الأسـير القفـقاسـي " ، " المجـرم " ، " الأخوين " ) ؛ و في عام 1829 ينوي البدء بملحمة " المارد " ، التي سيتسمر في العمل عليها طول حياته .
في عامي 1830 – 1832 تابع تعليمه في فرع السياسة و الآداب في جامعة موسكو …. و لما لم يجد في محاضرات الأساتذة ما يرضيه ، و بسبب إجاباته غير المُوقِرة للأساتذة ، فقد تقدم بطلب استقالة و استقال من الجامعة في عام 1832 .
1830 – 1831 هي مرحلة الذروة في إبداع ليرمنتوف الشاب . إذ كان يعمل خلالها بوتيرة عالية جداً : فقد جرّب على مدى عامين جميع الأجناس الشعرية : الرثاء ، الرومانس أو الأناشيد ، الإهداءات … الخ . كما راح الشاعر يتطلع و يدقق في عالمه الداخلي محاولاً أن يعكس بالكلمة مكبوتاته الروحية غير القادر على التعبير عنها . بالإضافة إلى أنه لامس المسائل العامة للدنيا و الحياة الجمالية للشخصية . إن دراما " الإنسان غريب الأطوار " هي بمثابة المحور في موتيفات السيرة الذاتية لشعره الغنائي في تلك الفترة .
و لكن كان واجباً عليه أن ينهي تعليمه .. و قد خطط لأن ينجز ذلك في جامعة بطرسبورغ ، إلا أنه كان سيضطر لأن يبدأ من جديد من السنة الأولى ، باعتبار أنهم لم يكونوا ليحتسبوا له دراسته في موسكو نظراً لكونه مفصولاً من الجامعة ، و لأنه لم يرد أن يخسر عامين فقد غير خططه بشكل حاد .
لذلك انتسب في أكتوبر من عام 1832 إلى مدرسة ضباط الحرس الملكي . حصل في عام 1834 على رتبة ضابط -حامل العلم في فوج الخيالة .. الذي كان يتمركز في القرية القيصرية . إلا أن ليرمنتوف ، و بعد أن شعر بنفسه طليقاً ، كان يقضي أغلب أوقاته في بطرسبورغ . و قد كانت ملاحظاته و نتائج مراقبته لحياة الطبقة الأرستقراطية هي الأساس ، الذي نشأت عليه مسرحيته " حفلة تنكرية 1835 و التي خطط لها أن تكون كالتالي : " مسرحية هزلية على شاكلة و ذو العقل يشقى " ، مع التركيز على النقد الحاد للأخلاق السائدة في تلك الفترة . و لكنه عندما اقتنع بأن مسرحية " ماسكارا " لن تجتاز الرقابة ، فقد عاد إلى النثر : بدأ يكتب رواية " النبيلة ليغوفسكايا " ، حيث يظهر اسم بيتشورين لأول مرة . و قد ارتبطت اللحظات من السيرة الذاتية في الرواية مع النبيلة فيرنيكا لوبوخينا ، التي حافظ الشاعر تجاهها على مشاعر عاطفية عميقة طوال حياته .
و لكن خبر مقتل بوشكين هزّ كيانه ، فكتب في اليوم التالي قصيدته " في مقتل شاعر " ، و بعد أسبوع – كتب الأسطر الستة عشر الأخيرة من تلك القصيدة ، التي جعلته مشهوراً على الفور ، و التي راح " الجميع " ينسخونها و يحفظونها عن ظهر قلب .. على أثر ذلك و بتهمة " نشر و كتابة أشعار ممنوعة " تم اعتقال ليرمنتوف في 3 آذار من عام 1837.. و هو قيد الاعتقال قام بكتابة مجموعة من القصائد " السجين " ، " الجار " ، " صلاة " ، " أُمنية " . و بناء على أمر القيصر تم نفيه إلى القفقاس في الأول من نيسان . و في طريقه إلى المنفى توقف ليرمنتوف لمدة شهر في موسكو ، حيث كانت تجري الاستعدادات للاحتفال بالذكرى الخامسة و العشرين لمعركة بورودينو .. و هنا يدقق الشاعر في قصيدته " ساحة بورودينو " .. لتظهر في النهاية قصيدة " بورودينو " ، التي ستنشر في مجلة " المعاصر " في عام 1837 .
في المنفى تعرّف ليرمنتوف على الديسمبريين ، الذين كانوا ينفذون عقوبة النفي أيضا . و هناك ، إلى جانب الشعر ، راح ليرمنتوف يمارس الرسم المائي ، و يرسم بالزيت كاشفاً عن نفسه كفنان تشكيلي موهوب .
عملياً ، إن كل ما كتبه ليرمنتوف في الفترة بين النفي الأول و الثاني ، إنما هو مرتبط بشكل رئيسي بالقفقاس ؛ فقد وجدت موضوعات و صور القفقاس انعكاساً في إبداعه : في أشعاره الغنائية ، و في رواياته الشعرية ، و في روايته " بطل من هذا الزمان " 1838 . بل و في الكثير من رسومات و لوحات ليرمنتوف – الفنان التشيكيلي الموهوب بحق .
في عام 1838 و بفضل جهود جدته و شفاعة جوكوفسكي تمكن ليرمنتوف من العودة إلى بطرسبورغ ، حيث راح يزور المسرح بشكل يومي تقريباً . كما أنه أقام علاقة صداقة مع جوكوفسكي . و في هذه الفترة ظهرت للعلن بدون توقيع قصيدته " نشيد عن القيصر ايفان فاسيلييفيتش… " ، التي لم تسمح الرقابة بنشرها من قبل .
و في عام 1839 يتقرب من هيئة تحرير مجلة " أوراق وطنية " و بالتدريج يدخل في حلقة أدباء بطرسبورغ ، حيث يزور أمسيات شعرية و يلتقي مع تورغينيف و بيلينسكي . و تتطلع إليه الأوساط التقدمية على أنه أمل الأدب الروسي . " لقد ظهرت في روسيا موهبة أدبية عظيمة – ليرمنتوف " – أعلن بيلينسكي .
و لكن في عام 1840 و على أثر مبارزته مع ابن المبعوث الفرنسي تم نقل ليرمنتوف إلى كتيبة المشاة المشاركة في الأعمال العسكرية في القفقاس . و قد شارك في المعارك و قام " بتنفيذ المهمة الملقاة على عاتقه بشجاعة نادرة و بكل دم بارد " في بداية شباط 1841 حصل ليرمنتوف على إجازة لمدة شهرين و جاء إلى بطرسبورغ و في نيته تقديم استقالته من الخدمة و البقاء في العاصمة . و لكنهم رفضوا لـه ذلك كما رفض القيصر نيكولاي الأول الاقتراح بمنحه وساماً و ذلك بالرغم من الشجاعة ، التي أبداها ليرمنتوف في معركة نهر فاليريك . بل أكثر من ذلك ، طُلب منه أن يغادر بطرسبورغ في مدة أقصاها 48 ساعة و ليلتحق بكتيبته في القفقاس .
و في طريق عودته إلى القفقاس ، تقدم ليرمنتوف بطلب السماح لـه بالتوقف في مدينة بياتيغورسك من أجل العلاج . و قد كتب هناك في دفتر يومياته آخر قصائده : " الجدل " ، " الجلمود " ، " الورقة " ، " الحلم " ، " اللقاء " ، " النبي " ، " وحيداً أخرج إلى الدرب " و غيرها .
و يشاء القدر أن يلتقي هناك بأصدقائه القدامى و من ضمنهم زميله في الكلية العسكرية ن . مارتينوف . و في إحدى الأمسيات و بعد المزحة المهينة التي رماها ليرمنتوف لـه ، فقد دعاه مارتينوف إلى المبارزة . و قد تمت المبارزة في 15 حزيران من عام 1841 . " لقد أصابت الأدب الروسي المسكين خسارة عظيمة جديدة " – كتب بيلينسكي . لقد قتل الشاعر .
تم دفن ليرمنتوف في مقبرة بياتيغورسك . و لكن فيما بعد و بناء على طلب جدته ، تم نقل الرفات إلى مقبرة العائلة في بلدة تارخانا .
*****
محمد عزوز–
من موقع …روسيا اليوم