جوع:
وطّنتُ نفسي – مُذ وعيتُ غايتي منَ الحياة ، وغايةَ الحياة منّي – على نبذ العادة والتقليد ، وكلّ ما يألفه ويخضعُ له الناسُ .. إلا عادةً واحدةً لا أختَ لها – ربما ورثتُها عن والدي – وهي عادةُ تسوّق ضروريات العيش ، وحاجيات البيت والعيال ..!
إلا أنني ، ومنذ مدّةٍ ليستْ بالقصيرة عمدتُّ إلى إرسال هذه العادة إلى عند أخواتها ، وبتُّ خالي الوِفاض منْ عادات الناس مجتمعةً ، وما ذلك إلا لأنني عايشتُ كلّ ذاك السعي المحموم – لدى أبناء بلادي وشركائي في العيش والوطن – إلى اللقمة ، والهلع من مجرّد التفكير بفقدانها ، وضلالها لطريقها إلى بطونهم وفروجهم ..!
وأتساءلُ برغم ذلك كلّه .. أيّهما أشدُّ ضراوةً ، وأكثرُ إلحاحاً على ابن آدم ؛ أهو الجوعُ إلى رغيف العيش ، أمْ الجوعُ إلى رغيف الحقّ !؟
فأمّا الجوعُ الأول فهو – بلا ريب – منْ أضرّ ضروريات الجسد الذي أوجدتْه الحياة ، ثم تكفّلتْ له برغيفه ، وما يُقيم أودَه – وما أحيلاهُ من قولٍ كهذا " لجبران خليل جبران " :
(الفرق بين أغنى الأغنياء ، وأفقر الفقراء يوم جوع ، وساعة عطش !)
وأمّا الجوعُ الثاني ؛ أي الجوع إلى رغيف الحقّ ، فهو أشدّ ضرورةً وأسمى غايةً في عين أبناء الحياة ، لأنّه الحنينُ الأصيلُ والشّوقُ القديمُ الذي بذرتْه كفّ الحياة الكريمة في أعماق الإنسان ، وهيّأتْ له كل السُّبل والوسائل الكفيلة لإنبات بذرته ، واشتداد عودها ، كيما تؤتي أُكُلَها ثماراً يانعةً تحرر الإنسان من كلّ أطماعه وأحقاده وهواجسه وهمومه ومخاوفه ، وعلى رأسها خوفه منَ القادم المجهول ولو كان الموت ..!
إلا أنّ الأكثريّة منْ أبناء بلادي ، قد اعتادوا أو عُوِّدوا على عدم الاعتراف إلا بجوعٍ واحد لا ثانيَ له ؛ ألا وهو جوعُ الجسد والنّفسُ الشهويّةُ الجاهِلةُ إلى كلّ ما هو زائلٌ وزائفٌ ، مما تعطيه الحياةُ بسماحةٍ ، ولا تبخلُ به حتّى على البهائم !!
من كتاب (مملكة الإنسان)
رامز محمود محمد