هو الهوية هو الذاكرة التي لا يعرف ملك الموت إليها طريقا كيف تستمر …؟
كثيرة هي الدراسات والأبحاث التي تناولت هذا الموضوع
في هذه الدراسة نقف عند أهم ماجء في محاضرة الأستاذ
مهتدي مصطفى غالب .
التراث ذاكرة و هوية ثقافية
إعداد الأستاذ: مهتدي مصطفى غالب
المقدمة: هل نبش الماضي و التعرف عليه يفيدنا في هذا الوقت و العصر الذي يكتشف في كل ثانية من ثوانيه شيءٌ جديدٌ و مهمٌ في تطور و تقدم المجتمعات البشرية و في تكوين ثقافة عالمية متجاورة و متقاربة هي ثقافة العولمة التي تجاوزت كل الحدود المعرفية و الثقافية و حتى الجغرافية … بحيث تحاول أخذ كل المكونات البشرية إلى بوتقة واحدة تصهرها فيها لتعيد صبها في قالب يناسب هذه الثقافة .. من حيث المبدأ و الرؤية الخارجية لهذه الثقافة المعولمة فهي تتيح كلَّ المنتجات المادية و غير المادية لكلّ مكونات المجتمعات البشرية … هذا إذا أخذناها بكلّ سذاجة و بساطة ..لكن القضية ليست هنا القضية هي في أن ثقافة العولمة هذه لماذا كانت و ما هي غاياتها .. و لأجل ماذا نتجت ؟؟ … و لكي نجيب على هذه الأسئلة علينا البدء بالبحث عن تفتحات العولمة الأولى التي بدأت مع نشوء الشركات المتعددة الجنسيات التي بدأت بإزالة الحواجز الاقتصادية أمام نشاطاتها … و انطلقت بنهم لالتهام كلّ ما يمكن التهامه …فوجدت عوائق تعيق اندفاعاتها لالتهام الكون ألا وأهمها تراث الأمم التي ستدخل إليها ، فحاولت عن طريق مؤسسات اقتصادية أن تتسلل إلى هذه المجتمعات لكن هذا التسلل كان بطيئاً جداً … بحيث بدأت تفكر في التهام الهوية الثقافية لهذه المجتمعات و استبدالها بهوية ثقافية استهلاكية إعلامية تجعلها هي التي تطلب عولمة الاقتصاد … فغاية العولمة بصيغتها المطروحة هي أولاً و أخيراً فتح الأبواب لالتهام كلّ مكونات المجتمعات البشرية و من أهمها ثقافتها التي تعطيها خصوصيتها الحضارية … و هذه الثقافة هي عبارة عن تراكمات فكرية زمانية و مكانية أنتجتها الشعوب كلٌّ حسب مكانه الجغرافي .. هذه الثقافة المعبرة عن هوية الأمم هي التي سنتعامل معها هنا ك ( تراث ) و لكي لا تفقد هذه الأمم ذاكرتها الثقافية التي يعبر عنها التراث بكل مكوناتها و حيثياتها و تصبح مغسولة الدماغ و أرضيتها الثقافية جاهزة لاستقبال ثقافة الاستهلاك و الالتهام … كان من الضرورة أن تحافظ هذه الأمم على هويتها من خلال محافظتها على تراثها و قراءته بشكل تتكون لدى البشرية تعددية ثقافية تتحاور و تتبادل المعارف فيما بينها في حراك يخلق الحضارة الإنسانية التي هي بالتأكيد ليست حضارة الاستهلاك و الالتهام.
مفهوم التراث: التراث عبارة عن الصيغ الفكرية و المادية ، سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو جمالية أو شعورية و التي تركها لنا من سبقنا كتراكم و ورثناها مطبوعة أو مخطوطة أو مبنية أو .. أو .. و أضحت تاريخنا و ذاكرتنا و جزء مهم من وعينا الجمعي مكونة بذلك منظومة عقلانية تجسّد قوانين الحياة و علاقتها مع الإنسان ضمن نظام مترابط داخلياً وحيث تنعدم إمكانية الفراغ.
و لا بد لنا من الإشارة إلى أن التراث يتضمن كل الموروث الشعبي المخزون في ذاكرة الشعوب والأمم و الجماعات و حتى الأفراد : مع الانتباه إلى أن هذا الموروث الشعبي ليس هو التراث بل هو جزء بسيط و مهم من هذا التراث ، فليس مثلاً الغناء الشعبي بكل أشكاله الفنية و الجمالية هو فقط تراثنا كمكون اجتماعي في هذه المنطقة فنحن جزء من أمة و تراثها تراثنا و أستغرق مثلا أن يرفض أحدهم أن تكون مثلاً الموشحات أو الأشكال الغنائية و الموسيقية الأخرى جزءاً من تراثنا الغنائي و هو تراث الأمة و بالتالي هو يشملنا … فسيد درويش و فريد الأطرش و محمد عبد الوهاب و أم كلثوم جزء مهم من تراث الأمة و بالتالي هم جزء مهم من تراثنا فنحن ننتمي لهذه الأمة .
فمفهوم التراث مفهوم شمولي و كلي لكل أمة الجزء الأكبر و الأهم التي يعطيها ملامحها كهوية ثقافية حضارية شاملة ، و مع ذلك حين نتحدث عن تراث إنساني فهو يشمل كل تراث البشرية على مدار العصور
و لنا فيه كأمة حصة تعادل ما قدمناه لهذا التراث ..
أهمية التراث: تنبع أهمية التراث أنه هو الذاكرة الجمعية لمجتمع من المجتمعات و هذه الذاكرة تحتوي كل حيثيات التكوين الفكري و الثقافي لهذا المجتمع. مما يجعله يحمل إلينا الهوية الاجتماعية و الفكرية للكتلة البشرية التي تكون هذا المجتمع …فالتراث هو الذاكرة و الهوية الناتجة عن تراكم الفعل الإنساني بكل مكوناته على مدار الأمكنة و الأزمنة …
مكونات التراث: لا بد لنا قبل أن نتعمق في قراءتنا للتراث من أن نتعرف على مكوناته و هناك عدة رؤى لمكونات التراثية أهمها :
تقسيم مكونات التراث حسب ماهية الموروث فهناك ( التراث المادي) و ( التراث اللامادي : الروحي أو الفكري) …
و تقسيم آخر حسب المكونات البشرية: ( تراث إنساني)- (تراث الأمم) – (تراث منطقة جغرافية أو تضاريسية أو بيئية معينة ) – ( مجموعات بشرية ذات معتقدات و مكونات فكرية خاصة )(تراث الأسرة) و ( تراث الأفراد) و كلها حلقات متداخلة فراغيا و متبادلة بين مستوياتها و من الصعب فك الارتباط بينها نهائياً و ممكن دراسياً كما نفعل .
قراءة التراث: إن قراءة التراث لا تعني مجرد قضايا فكرية يختلف حولها المفكرون بل هي مشروعٌ ثقافيٌ يحمل وعياً جديداً لأبنائه وبمعنى أخر هو استحضارٌ لعناصر الوعي الجمعي لبناء رؤية عقلية بالوضوح العلمي و العمق الفلسفي
و لقراءة التراث أنماط مختلفة أهمها:
أ- قراءة التراث حسب موقع القارئ من التراث :
1- قراءة خارجية : هي القراءة التي يقدمها الآخر لتراث ما فيراه كما هو يرغب و يتقدم في تحليله على أساس هذه الرؤية الخارجية لتراث ما … كما قرأ الغرب و قدم لنا رؤيته للتراث العربي و الإسلامي بأشكال و أنماط تحمي رؤيته الثقافية المنغلقة على ما أصبح بديهيات ما عُرف بحروب الإفرنجة على جغرافية أمتنا فكانت حروباً على التراث الإنساني لهذه الجغرافية حيث قدمت رؤية للتراث تناسب مصالحها الفكرية و الاقتصادية و حتى العسكرية .. بمعنى أن هذه القراءة تتأثر بما لدى القارئ من مكونات فكرية … التي تؤطرها بعض الرؤى التعصبية فمجمل القراءات الغربية للعرب و الإسلام تعاطفت مع رؤيتهم الفكرية و لا يخلو الأمر من بعض القارئين الذين يتمتعون بخلفية فكرية حضارية و إنسانية قدموا قراءات فيها بعض الموضوعية.
و مع ذلك لهذه القراءة الخارجية أهمية من حيث أنها تعلمنا أن نستنفر وعينا لقراءة تراثنا فهي تساعدنا على استكشاف ما لم تستطع هي استكشافه فهي قد تشكل جسراً أو أداة لقراءتنا الشخصية أي قراءتنا الداخلية .
2- قراءة داخلية: و هي القراءة التي يقوم بها أبناء هذا التراث و لقد بدأت القراءة الداخلية للتراث العربي بدءً من ما اصطلح على تسميته عصر النهضة إلا أن هذه القراءات شابها الكثير من الانغلاق الفكري و التكرار و التأثر بالموقف المسبق لهذا التراث من بعض معضلات الحياة.
فقدم محمد عبده رؤيته للتراث و دوره في تطور المجتمعات في قراءاته الفكرية المتعددة ( طبائع الاستبداد) و ( أم القرى) و تتابع النهضويون في تقديم قراءتهم النهضوية للمجتمع بما فيه تراثه ..إلا أن هذه القراءات لم تتجاوز عتبة الحنين إلى الماضي ، لمجابهة الغرب الزاحف فجاءت كأنها محاولة لتقديم التراث بمكياج خارجي شكلي .و هو حنين مسطح لأنه يريد الإحياء و ليس القراءة النقدية الهادفة إلى تقديم رؤية حضارية لهذا التراث … فولَّد هذا الانكفاء رد فعلٍ عنيف ليقدم وجهاً أخر للقراءة و هي القراءة التي تقارب القراءة الخارجية للتراث لكن من داخله فجاءت هذه القراءات هجينة متخبطة في رؤيتها.
فمثلت هاتان القراءتان القراءة طفولة القراءة الداخلية للتراث أو أنها ( وليد صغير ) حسب تعبير طيب تيزيني ، و أدت إلى حدوث (انفصام )ثقافة/ مجتمع) حسب تعبير عبد الله العروي.
ب- قراءة التراث حسب موقف القارئ منه:
يقودنا ما قلناه إلى الذهاب إلى التقسيم الثاني لقراءة التراث ، حيث يقرر الموقف الفكري و الثقافي للقارئ قراءته للتراث التي تتمثل في القراءات التالية:
1- قراءة تقديسية(نقلية) تعتبر أن كل ما جاء به التراث مقدس و علينا ألا نحاول حتى التفكير به ..بل علينا أن نطبق كل رؤيته على واقعنا المعاصر و المعاش فكل ما جاء به السلف صالح لكل عصر و أوان ، فتحول التراث إلى تمثال صنمي ممنوع نحته.
2- قراءة إلغائية (نقلية ) متؤربة: و هي أتت كرد فعل على القراءة السابقة حيث ترى انه لا يوجد مكان لكل ما جاء به التراث في هذا العصر ، و لا يصلح لنا إلا كل ما أنتجته الثقافة الغربية من فكر و اقتصاد …إلخ ..
القراءة الأولى تحاول أن تقدم التراث ضد الثقافة الأوربية و الثانية تحاول أن تقدم الثقافة الأوربية ضد التراث …. ؟؟ و الأساس البنيوي لهاتين القراءتين هو النقل و ليس العقل ؟؟!!
3- قراءة تلفيقية ( توفيقية) : و هي قراءة تحاول أن تجمع بين النقيضين تهدف إلى ( الجمع بين ثقافتنا الموروثة و ثقافة هذا العصر الذي نحياه) زكي نجيب محمود / هي محاولة لتقديم ما يُرضي الماضي و الحاضر معاً … فبدت هذه القراءة عملية دمج لا منطقي عن طريق حشر الحاضر في الماضي متناسية احتياجات الحاضر الثقافية ، كما أنها تتجاهل طبيعة الماضي و تحضره ليجيب عن أسئلة الحاضر التي لم يعشها لا زماناً و لا مكاناً فظلمت الحاضر و الماضي سوية. و هي قراءة لا تاريخية.
4- القراءة العقلية: التي تقر أنه لا مستقبل دون قراءة التراث كي نستخلص منه النتائج الأساسية التي تفيدنا في حاضرنا ..فالتراث بالنسبة لها هو : كائن حي متحول بصيرورة دائمة هي صيرورة الحياة / حسين مروة
خطوات قراءة التراث العقلية:
1- جمع التراث و أرشفته ( إحياء التراث): المهم في هذا الجمع أن يكون لكل حبة تراب أو حرف أو نفس أو آهة صدرت عن أي كائن عاش و تفاعل مع محيطه البشري و الطبيعي و ألا يترك أي شيء دون النظر إلى أهميته أي شمولية الجمع لكل مكونات التراث بعيداً عن الانتقائية .
2- معرفته : لمعرفة ما هو ضروري و ما هو ضار أو غير ضروري حيث تتيح هذه المعرفة المقدرة على التفريق بين ما هو ضروري في زماننا و مكاننا و ما هو غير ضروري لهذا الزمن و المكان.
3- إصلاح علاقتنا به و ليس إصلاحه فهو كما هو.. و ليس كما نريده أن يكون.
4- تجاوز شكل التراث إلى ما يقدمه من رؤى تفيدنا في معرفة الحاضر و المستقبل.مثلاً : حين نقرأ قصيدة شعر عربية فهل نقرأها عروضياً … أم نقرأها شعرياً و جمالياً ؟؟ ما يفيدنا أكثر هو القراءة الجمالية و الشعرية أولاً ثم نتطرق لقراءة التركيبة الشكلية للنص .
5- نقد القراءات السابقة (النقلية) و الانتقائية و …و … و …
6- التخطيط لقراءته المنطقية و العقلية ليس الهدف القراءة فقط بل كي ننجز المشروع الثقافي المرتقب الذي لا ينجز إلا بانخراطنا فيه انخراطا عقلياً واعياً يكسبنا وعياً تراثياً يمنطق رؤيتنا للحياة و يعطيها معناها الفكري و المستقبلي ، و يكشف عن عبقريتنا المجتمعية التي من خلال حراكها الفكري و التعددي تستطيع أن تستكشف رؤيتنا المستقبلية و مستقبلنا الحضاري و التعددي الذي يتسع لكل مكونات المجتمع الاجتماعية و الفكرية و الاقتصادية …
و لكي تكون هذه القراءة عقلية تماماً علينا أن نأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية:
1- (شمولية القراءة) : أن تكون شاملة لكل مكونات تراثنا مع الإقرار بالتعددية المجتمعية و الفكرية و بالتالي النظر إلى هذا التراث بكلية محتوياته بحيث لا تكون قراءتنا انتقائية لمكون دون أخر بحيث نعزل و نرفض أحد مكونات هذا التراث لأسباب لا عقلية و لا منطقية بل لأسباب تتعلق بما يحمله الدارس من فكر انتقائي رافض للأخر.
2- ( قراءة وظيفية) : أن تكون هذه القراءة موظفة لترفد بنتائجها الطريق نحو المستقبل ،المستقبل الحاوي و المحيط لكلية المجتمع و لتراث كل مكوناته المجتمعية.
3- (قراءة مستقبلية) : ألا تُغيب هذه القراءة مكونات الحاضر التي هي مكونات التراث المستقبلي للمجتمع و بقدر ما نقدم هذه القراءة العقلية للحاضر نقدم التراث بكليته العقلية.
4- (قراءة حضارية) : أن تركز هذه القراءة على المضامين الحضارية لتراثنا بحيث نشرب من ينابيعها استنتاجاتنا التي تسهم بكل قوة في استثمار نتائج هذه القراءة.
الخاتمة
من هنا نخلص لنتيجة أن التراث هو تعبير حامل لهوية المجتمعات بتفاصيلها كافة و بمكوناتها كافة ..و إن كان البعض يشعر أن أزمته هي في تجاهل التراث و البعض الأخر يراها في التمسك التقديسي في التراث … و من يرى أن التراث في حالتيه السابقتين حجر عثرة في طريق مستقبل المجتمعات .. فهو بالتأكيد لا يمكن أن يعيش دون ذاكرة و بالتالي لا يستطيع أن يعرف مكوناته الفكرية و الثقافية و المجتمعية و لا يستطيع أن يفهم كل ما يدور حوله و في بيئته .. فهو سيكون نابتاً في الفراغ الفكري إلا إذا عبأ ذاكرته بثقافة أخرى قد تحتلها و تأخذه إلى ذاكرة أخرى منفصلة عن بنيته المجتمعية و الأخلاقية و السلوكية … و يفقد أدواته في التواصل مع المجتمع الذي يحيط به فيبدو معزولاً فاقداً لذاكرته ينظر إلى حركة المجتمع و هو غارق في عزلته أي في عدم كينونته .. هكذا هو الإنسان الكائن الاجتماعي العاقل و لا يمكن أن يكون عاقلاً دون ذاكرة ترسم هويته الفكرية و المكانية و الزمانية فالتراث هو أرضية الحاضر الذي يكشف لنا سماء المستقبل.
بعض المراجع :
– التراث و إشكالية القراءة – محمد علي الكبسي – الفكر العربي المعاصر –ع29
– دراسات نقدية – د. حسين مروة
– الإسلام بين العلم و العلمانية – محمد عبده – دار الهلال
– تجديد الفكر العربي – زكي نجيب محمود
– من التراث إلى الثورة – طيب تيزيني