-
جماليّات الصّورة الحسّيّة في شعر السّريّ الرّفّاء د. محمد مسعود
الملخّص الحسّ واحد من أهمّ مكوّنات الصّورة الفنّيّة، والبحث ينطوي على دراسة هذا المكوّن الأساس للصّورة من خلال تحليل البناء الشّعريّ والكشف عن عناصره ، مبيّناً آراء النّقّاد فيه، وانطوى البحث على دراسة الصّورة الحسّيّة عند السّريّ الرّفّاء وقد تفاوتتْ تبعاً للعوامل المؤثّرة فيها ،وتنوّعت بين الصّورة الحركيّة، والسّكونيّة، واللونيّة التي عكست صورة الواقع من خلال تقنيّات الفنّ والجمال، والتّوازن والتّنسيق، فخرجت في ثيابٍ جديدةٍ من التّصوير الممتع. وقد أظهر البحث إسهام الصّورة الحسّيّة في الكشف عن الحقيقة وتعميقها، وفي التنفيس الشّخصيّ عن نفس مبدعها، وفي عكس المشكلات الاجتماعيّة التي كان ينبض بها عصر الشّاعر . ويصل البحث إلى أنّ الشّاعر استطاع أن يخلّص اللون من كونه مجرّد انطباعٍ حسّيّ، ومن رؤيته الانعزاليّة حيث وضع له وظيفته داخل نطاق الكلّ العامّ فلا ينظر إليه في ذاته، ولا يحكم عليه حكماً استقلاليّاً ، فتحوّل من عنصرٍ من عناصر الشّكل إلى عنصرٍ من عناصر المعنى، ومن وضعه التّزيينيّ كحلية للزّركشة إلى وضعه الشّعوريّ كأداة للتّعبير. كلمات مفتاحيّة : السّريّ الرّفّاء – الصّورة الحسّيّة – أبو الهيجاء – هلال شوّال اللاذقيّة نيسان 2009
أهداف البحث ومبرّراته : لم يحظَ شعر السّريّ الرّفّاء – على ما نعلم- بدراسات وافية ومعمّقة باستثناء تلك المقدّمة اللطيفة للدّكتور حبيب حسين الحسني محقّق ديوانه، وإن كانت هذه الدّراسة لم ترتقِ إلى حدّ الطّموح في دراسة شعر هذا الشّاعر الكبير الذي يرقى إلى مستوى شعر المتنبّي وأبي تمّام والبحتري ، بل قد يفوق شعر المتنبّي في بعض جوانبه كما يقول أبو منصور الثّعالبيّ في اليتيمة . ومن هنا ارتأينا أن نتناول بالبحث والدّراسة بعض جوانب صوره الشّعريّة، ولمّا كانت هذه الصّور أكبر ممّا يحيط بها هذا البحث، ألزمنا أنفسنا بدراسة الصّورة الحسّيّة لظهورها الواسع في شعره سواءٌ أكانت صوراً سمعيّةً أم بصريّةً أم لونيّة أم حركيّة .
منهجيّة البحث: لقد وضعتنا الدّراسة الفنّيّة للصّور الحسّيّة في شعر السّريّ الرّفّاء أمام منهجين رأينا أنّهما سبيلنا في هذه الدّراسة وهما: المنهج الوصفيّ المتمثّل في استقراء هذه الصّور في نماذج مختارة من شعره ووصفها والوقوف عندها ،وبيان أدواتها وأساليبها. والمنهج التّحليليّ الذي مكّننا من تفكيك هذه الصّور، وبيان تقنيّاتها الفنّيّة وصولاً إلى تحديد خيوط النّسيج الفنّيّ في شعره ، ثمّ استجلاء اللمسات الجماليّة ، وبيان وظيفتها الأدائيّة، مبتعدين جهد الإمكان عن العبارات الرّنّانة والتّذويق اللفظيّ الخالي من محتواه الدّلاليّ ملتزمين لغة البحث العلميّة.
-
مقدّمة: مادّة الصّورة هي جزئيّاتها التي تكوّنها ، وتحدّد معالمها، وتوضح خصائصها. وللصّورة الفنّيّة مكوّنات يمكن معرفتها من خلال فحص الصّورة، فإذا قلنا مثلاً: محمّد كالأسد . فإنّنا قد أبدعنا صورةً فنّيّة وكوّنّاها من عناصر واقعيّةٍ يمكن إدراكها بالحسّ ، فالمشبّه (محمّد) محسوس، والمشبّه به (الأسد) محسوسٌ أيضاً لأنّ كلاًّ منهما داخل تحت حاسّتي البصر واللّمس. والحسّ كثير الاستعمال في النّثر وفي الشّعر ؛ وذلك لتعدّد مجالاته،وهو واحدٌ من أهمّ مكوّنات الصّورة الفنّيّة، وقد تتمازج موادّ الصّورة المختلفة في هيكلها. فالصّورة الفنّيّة التي تقوم على المتخيّلات لا تستغني عن الحسّ ؛ لأنّ الإنسان لايمكنه أن يتخيّل ما لا يحسّه حيث « تؤلّف العناصر الحسّيّة في تشكيل الصّورة عند أيّ شاعرٍ قاعدة الانطلاق.ذلك لأنّ الحسّ أساس المعرفة» ( ). والشّعر معنىً يُبنى بنيةً معقّدةً ، وعناصره المكوّنّة له عناصر دالّة فهي عبارة عن إشارات إلى مضمون معيّن « فالشّعر كأيّ خلق آخر نسجَ خيوطَه الإحساسُ والعاطفةُ والفكرة، وعلى الرّغم من أنّ الخيط الأوّل أو العنصر الأوّل هو أهمّ هذه الخيوط أو العناصر إلاّ أنّ أيّ تحليل للفنّ يجب أن يقوم في ضوء العلاقات والارتباطات المتداخلة الملتحمة بين الخيوط المشكِّلة للنّسيج، والّتي لا يمكن لها أن توجد منفصلة بعضها عن بعض، وبالتّالي فلا يمكن لها أن تدرس بصورة إعلائيّة منفصلة» ( ). ولسنا مع من يذهب إلى أنّ: « العمل الفنّيّ لا يبرز كانعكاس لشيءٍ آخر وإنّما كبنية منغلقة في ذاتها» ( )، لأنّ الأعمال الأدبيّة شأنها شأن بنية الظّواهر الاجتماعيّة الأخرى، لا يمكن اختزالها إلى توازنٍ بين الأشكال الصّرفة ومن ثمّ فإنّ العلاقة البنيويّة لا تمسّ الشّكل وحدَه بل المضمونَ أيضاً، ونتيجةً لذلك فإنّ بنيته لا تحمل طابعاً منغلقاً ومنعزلاً عن العالم الحقيقيّ وعالم الفنّ بل تقع على تماس مع مادّة الواقع ومع ظواهر الأدب والفنّ الأخرى ( ). من هنا نرى أنّ لغة القصائد تستطيع أنْ تجعلنا نرى تفاعل جملةٍ من العلاقات، وهذا القول مرنٌ وعميقٌ لدرجة أنّه يمكن أن يكون حافزاً لتقبل أيّة نقطة بداية في تحليل البناء الشّعريّ والكشف عن عناصره، حتى وإن سلّمنا بالقول الذي يعني أنّ ميزات المجموع تتجاوز حاصل جمع ميزات العناصر( ).
وفي تحليلنا للصّور الشّعريّة عند السّريّ الرّفّاء سنحاول من خلال استقراء النّماذج تنظيم زمر من الأشكال نستطيع من خلالها الولوج إلى نواحٍ من العمل الأدبيّ تصل وتوثّق معاً المركّبين القديمين المنقسمين: «الشّكل» و«المضمون». وإذا كانت الدّراسة الشّكليّة والتّطوّريّة للصّورة أقلّ مخاطرَ وأكثرَ أهمّيّة فإنّ أيّ شاعر يحاول أن يقدّم دلالة أو وجهة نظرٍ أو مضموناً، لا يستطيع أن يصل إلى ذلك عن طريق الشّكل فحسب دون الإشارة إلى غرض العمل والقصد من ورائه، إنّ البناء الفنّيّ يتأثّر ويؤثّر بما يحمله من قيمٍ ومعطيات ، «ونحن نعتقد أنّه سواء أردنا أن ندرس الصّور للوصول إلى فنّ الكاتب وتطوّره، أم للوقوف على شخصيّته، أو فرديّته أو حياته، فلا بدّ من أن تتعاون الأخبار ومعطيات الصّور، شكلها وتطوّرها، بناؤها ونماؤها، الخارجُ والداخلُ فيها حتّى نكون أقربَ ما نكون من الصّحّة والسّلامة والحقيقة التي نتلمّسها ونسعى إليها جميعاً » ( ). توجد العناصر والخصائص الجماليّة وجوداً موضوعيّاً في ظواهر الطّبيعة وأشيائها وأحيائها وفي ظواهر المجتمع وعلاقاته وأنماط سلوكه ومثله العليا، والبشر ـ في كل طور تاريخي اجتماعي ـ يقع وعيهم على عناصر وخصائص وصفات جماليّة في الواقع الطّبيعيّ والاجتماعيّ، ويرتبط هذا الوعي الجماليّ بالتّقويم الجماليّ الذي يتغيّر من طور إلى طور. إنّ التّطوّر الذي لحق بالحاسّة الرّوحيّة المتذوّقة وبالشّعور الجماليّ لدى الإنسان، كانت حواسّه الخارجيّة ـ البصر والسّمع والشّمّ والذّوق واللّمس ـ قد تهذّبت خلال النّشاط العمليّ، فقد صقل العمل حواسّ الإنسان وانتقل بها ـ عبر ملايين السنين ـ من ضيق الحاجة العمليّة الخشنة إلى ثراء الحالات الشّعوريّة والإحساسات الإنسانيّة، فإذا كان النّشاط العمليّ للبشر مصدراً لثقافتهم وخبرتهم، فإنّه في الوقت ذاته أساس لتطوّر حواسّهم من صورتها الغريزيّة البدائيّة إلى صورتها الإنسانيّة الرّاقية، فلقد أصبحت حواسّ الإنسان الأوّل حواسّاً (إنسانيّة) عندما اكتسبت، بوصفها وسائل للإنسان في صلته العمليّة بعامله الطّبيعيّ والاجتماعيّ، رهافة ومقدرة بتقديم تلك الصّلة وتطوّرها ( ). والسّؤال الآن: ما دور الحسّيّة في الصّورة الشّعريّة…؟ لقد اختلفت الآراء، وتباينت وجهات النّظر حول هذا الموضوع، فحين يقول فريق من النّقّاد: البناء الشّعريّ بناء حسّيّ وتجسيديّ، ينفي فريق آخر هذا الأداء ويبدو أنّ الرّأي السّائد يميل إلى تأكيد ظاهرة التّجسيم والتّمثيل الحسّيّين، فالشّعر عند كوفن يمثّل «…. أوضح الصّور الفنّيّة، وأكثر الأشياء المرئيّة ثباتاً بالذّهن… أشياء كتلك التي نستطيع أن نبصرها ونلمسها ونسمعها ونتذوّقها ونشمّها» ( ). أمّا عند «بيري» فهو «.. التّصوير الفنّيّ للتّجربة الحسّيّة وما التّصوير الفنّيّ سوى أنْ تمرّ التّجربة بالذّهن فينقّيها ويعدّل من بنائها ويحوّلها إلى صورة فنّيّة قويّة الأثر تهب الشّعر عمقه وأثره الفعّال…» ( ). ويرى الدّكتور اليافي أنّ « ريكيرت » « تتّفق في موقفها إزاء الصّور مع « بيري » حين ترى في الشّعر نتاجاً ذهنيّاً لا يقدّم المعنى العامّ للتّجارب العاطفيّة، وإنّما يقدّم التّجارب العاطفيّة نفسها في كلمات مثل حواسّ البصر والسّمع واللّمس والذّوق والشّمّ » ( ) . ومن الباحثين من يؤكّد على قيام الصّورة على أساس حسّيّ « فمدركات الحسّ هي المادّة الخام التي يبني بها الشّاعر تجاربه، ولا تعني الانحصار في إطار حاسّة بعينها، ولا تعني محاكاة الإحساس بشكلٍ عامّ، فهذا يجعلها أشبه بالمحاكاة الروتينيّة، إنّما هي محتوىً لفكر يتركّز فيه الانتباه على خاصّيّة حاسّة ما، فالصّورة ليست نسخة ماديّة، أو انعكاساً حرفيّاً لشيء من الأشياء» ( ) . وتتعدّد الصّور الحسّيّة في تصنيفات علماء الجمال، فليست هناك فقط صور ذوقيّة وشمّيّة بل توجد أيضاً صور حراريّة، وصور ضغطيّة من أصل جماليّ لمسيّ، مشتقّة من التّقمّص الوجدانيّ، « وهذا ما يؤكّد أنّ المخيّلة ليست بصريّةً فقط » ( ). وفي دراستنا للصّورة الحسّيّة عند السّريّ الرّفّاء يجب ألاّ ننسى أنّ ما يعطي الصّورة فاعليّتها ليست حيويّتها كصورة بقدْر ميزتها كحادثة ذهنيّة ترتبط نوعيّاً بالإحساس، وثمّة تمييز مهمّ بين المخيّلة الثّبوتيّة والمخيّلة الحركيّة أو الدّيناميّة فقد يكون استعمال اللّون رمزيّاً بشكل شائع أو خاصّ، وقد لا يكون. وما ينطبق على اللّون ينطبق على الصّوت والذّوق والشّمّ.. الخ. من هنا قد نجد ضمن الصّورة الواحدة نماذج من الصّور، وذلك تبعاً للعلاقة الدّيناميّة بين الشّاعر والواقع، هذه العلاقة التي تفرز تشكيلات فنّيّة متباينة من حيث درجة الفعاليّة الخياليّة. وهنا نتساءل: ما هي الصّورة الحسّيّة التي ننوي دراستها؟ هل هي الصّورة السّكونيّة التي لا تتعدّى شكليّة الأشياء، فتقتصر على المحاكاة الدقيقة والتفصيليّة لتلك الأشياء والظّواهر، أم هي الصّورة التي تمثّل الكيفيّات المكانيّة النّفسيّة؟… إنّ الصّورة الشّعريّة الحسّيّة وظيفتها التّمثيل الحسّيّ للتّجربة الشّعريّة، ولما تشتمل عليه من مختلف الإحساسات والعواطف والأفكار الجزئيّة، فإنّه لا يصحّ الوقوف عند التّشابه الحسّيّ بين الأشياء، من مرئيّات أو مسموعات أو غيرها دون ربط التّشابه بالشّعور المسيطر على الشّاعر في نقل تجربته، وكلّما كانت الصّورة أكثر ارتباطاً بذلك الشّعور كانت أقوى صدقاً وأعلى فنّاً، ولهذا كان ممّا يضعف الأصالة اقتصار الشّاعر ـ في تصويره شعوره ـ على حدود الصّور المبتذلة التي تقف عليها الحواسّ جميعاً، التي هي صور تقليديّة كتشبيه الخدّ بالتّفاح أو بالورد مثلاً..» ( ). والصّورة الحسّيّة عند السّريّ الرّفّاء تتفاوت تبعاً لعوامل كثيرة هي التي تحدّدها وتوضّح معالمها وترسم أطرها، فالثّقافة بكلّ صورها ومنها الفنّ والأدب انعكاس للعالم، واللّغة ناقلة لهذا الانعكاس، وهي (أداة الأدب) تختزن سياقاً تاريخيّاً واجتماعيّاً أكثر من أيّة أداة فنّيّة أخرى ( ). وعلى هذا سنحاول دراسة الصّورة الحسّيّة عند السّريّ الرّفّاء من خلال متحوّلة نامية.
منشورات مجلة جامعة تشرين 2010