برشامة العجز والتخلف
اللغة العربية عنوان هويتنا، ورمز حضارتنا، ولسان طويتنا، ودليل عروبتنا، كانت وظلت فتية قوية قرونا طويلة، أخرجت العرب من شرنقة البداوة إلى عز الحضارة، كانت لا تستعصي على لسان ولا يعز عليها بيان، ولم لا وهي لغة القرآن؟ إلى أن جاء زمان تغير فيه اللسان، وأصبحت العربية غريبة بين أهلها. فما أسباب تلك الغربة والعجمة على ألسنة المتحدثين بها؟
فعلى الرغم من الجهود المعنية بتعليم اللغة العربية، فمازال المتعلمون ضعافا في اللغة، وتتزايد الشكاوى من تدني مستواهم اللغوي، وفي المقابل نرى نجاحا مبهرا يسجل كل يوم لذلك الحرفي الذي يعلم الصبية فنون حرفته، وهنا يقفز السؤال: لماذا تفشل المؤسسات التعليمية رغم امكانياتها المادية والبشرية في تعليم الأبناء اللغة، وينجح معلم الصبية؟
إني أظن وظني ليس يكذبني، بأن معلم الصبية اعتمد في تعليمه الصبية على المهارات فنجح، وتفوق الصبية.
وحشونا عقول أبنائنا بما يلزم وما لا يلزم، فانصرف الطلاب عن كليهما، فالنحو نحوان نحو ندرسه ولا نحتاجه، ونحو لا ندرسه ونحتاجه، وأصبح الذي يعد المنهج في واد، والواقع التعليمي في واد آخر، ووضعنا العربة أمام الحصان، فثقلت على الحصان المئونة وعجز عن دفع العربة.
أيها الواضعون لمناهجنا والقاضون على مباهجنا، لقد تحول التعليم إلى مشكلة عويصة أعجزت الحكماء والعقلاء، حتى استعصى عليهم وصف الدواء. وإلا فلماذا هذا العي في اللسان؟ لماذا يكره الطلاب لغتهم؟ أقول لكم: لأننا أفرغنا التعليم من المتعة، وأنا من الآن أعلن أني أعتنق واحدا من أقدم الآراء في التعليم، وهو أنه شيء ممتع فيه قدر من البهجة والسرور، وأرى أن هذا الرأي يشدد على ضرورة أن تبقى في التعليم روح اللعب، ولا أنكر أن اللذة والألم، والثواب والعقوبة، دوافع إنسانية قوية، لكني كمتعلم ومعلم أؤيد جانب الإمتاع والسرور. فنحن البشر نميل جدا إلى تعلم ما نريد نحن أن نتعلمه، وحين نتحمل على كره منا تلك الرتابة المملة في بعض أنواع التعلم، فإن ذلك التحمل راجع إلى سببين: إما شعور بالمودة تجاه ذلك التعلم يحجب عنا تلك الرتابة المملة فيه، أو أن اللذة المتوقعة منه تجعل الملل متحملاً.
ونحن المعلمين قضينا على استمتاع الطلاب بالدرس اللغوي، حينما خلت طرائق التدريس من الجذب والإثارة، واكتفينا بحشو أدمغة الطلاب بما يقال أو يقرأ، ثم أن بعض معلمي اللغة العربية ساهموا في إبعاد الطلاب عن لغتهم، لأنهم لا يملكون ناصية اللغة وليست لديهم ملكة الحديث بها، إنهم يعلمون اللغة بالحديث عنها، ونحن نبحث عن معلم يعلم اللغة باللغة، فلكي يتعلم الطالب اللغة لابد من حمّام لغوي، يشارك فيه جميع العاملين بالمؤسسة التربوية، وليس معلمو اللغة العربية وحدهم، بل والمجتمع كله شريك في تدني المستوى اللغوي، فلله در الشاعر القائل:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه
إذا كنت تبني وغيرك يهدم
فعوامل الهدم من حولنا كثيرة قد نصبت للغة شراكا، ووضعت في طريق رقيها وتقدمها أشواكا، ومن هذه الشراك، الأغنيات الرقيعة ذات الكلمات الوضيعة، «السح الدح امبو» و «كمننا» و «ياطاطا يانانا» والغريب أن الشباب أقبل على هذه الأغنيات، وحفظها وأخذ يرددها، وكذلك معلم اللغة العربية نفسه الذي لا يجيد اللغة كتابة أو تحدثا، ومع ذلك أسند إليه تدريس اللغة، وأذكر أنه في ذات مرة جلسنا نتباحث عن سبب تراجع اللغة في مجتمعاتنا العربية وكنت قد ألقيت باللائمة على الجامعات التي تقوم بإعداد معلم اللغة العربية، فانتفض من بين الجلوس أستاذ الجامعة مدافعا وقال في نبرة تهكم وسخرية: «بضاعتكم ردت إليكم».
فهذا صوتنا يعلو مع أبي تمام « من فتى؟ والفتى من معانيها البطل المغامر الشجاع المنقذ ليعيد للغة قداستها، فهي في احتضارها الأخير تستجير: أن أعيدوا إلي ثوب عزتي، وأسندوا تدريسي لأهل محبتي، لا تتركوني لمن مزقوا أثوابي، وأفقدوني صوابي، فاللحن في اللسان يفسد الكلام.
إذا كان الأمر على ما وصفنا من خطورة فيلزمنا تقديم العلاج لظاهرة ضعف الطلاب في اللغة القومية، وهذا المقترح يتضمن إدخال التعليم المبرمج ضمن اهتمامنا بالتعليم الذاتي، والمبدأ الرئيسي الذي يستند إليه أسلوب التعليم هو «التعزيز»، فالرزمة التعليمية الجيدة تنظم المواد التعليمية فيها حيث يؤدي تعاقب الوحدات الفرعية بصورة منطقية، إلى إتقان الطالب مهارة كاملة، إذ إن الرزمة التعليمية تقدم للطالب معلومات ومفاهيم، كما تفحص تعلم الطالب مباشرة دونما الحاجة إلى حضور معلم يقوم بذلك، وسواء اتخذت الرزمة شكل كتيب، أم استعملت طرح السؤال وإعطاء الإجابة مستعينة بالحاسوب، أم احتوت مادة مرجعية، أم وفرت نوعا من الاتصال بالمعلم أثناء الدراسة، فإن البنية الأساسية للتدريس المبرمج والنظرية التي يقوم عليها تظل هي نفسها. ولا شك أن نظاما تعليميا ذاتيا أفضل عند الطالب من نظام معلموه ضعاف في موضوعاتهم.