نارام سرجون
هذه البلاد التي اسمها تركيا بلد تنتمي نخبها وثقافتها السلطانية العثمانية الى منطق الغدر .. ويستحيل أن تعقد اتفاقا مع سلطان عثماني دون أن يدس السم في أنخاب الاحتفال وكؤوس الصداقة .. يصافحك بيد وهو يمسك خنجرا خلف ظهره .. وهو يؤمن بالسمّ والغدر على أنهما جزء من الفريق الديبلوماسي العثماني .. فكثير من المجازر التي نظمها الزعماء والسلاطين الأتراك ضد خصومهم كانت تتم اثر اعطاء الأمان لخصومهم الذين ماان يدخلون نطاق الأمان العثماني ويصافحون السلطان ثم يجلسون على موائده حتى توصد عليهم الأبواب والمنافذ وتتم عملية ابادتهم وذبحهم من كبيرهم الى صغيرهم ..
ولاداعي لأن نبحث عن امثلة غائرة في الزمن لاننا لانزال على قيد الحياة وكنا شهودا على غدر السلطان أردوغان بنا الذي استقبلته دمشق وعانقته .. وأكرمته حلب وأعطته من لحم صناعييها عندما قبلوا الخسارة في سبيل علاقة أخوية فاذا به يتسلل في الليل ويحاول اغتصاب حلب في غرفة نومها وقتل عائلتها السورية فردا فردا .. أما وأبا واخوة .. قتلا وتشريدا ومنافي ولاجئين وسبايا ..
وعندما جاءت روسيا الى سورية وعد أردوغان الروس انه سيكون عونا لهم على الارهاب .. ثم انتظرهم فوق لواء اسكندرون وكمن لهم حتى اسقط لهم طائرة السوخوي في حادثة وصفها بوتين بأنها طعنة الغدر .. وعندما بدأ العقاب الروسي وتبين له أن وقعفي شر أعماله قام اردوغان بذبح وزيره الأول وحليفه وفيلسوفه الأثير داود أوغلو وقدمه قربانا على مائدة روسيا طلبا للغفران .. وتعهد ان لايكرر ذلك .. ولكنه كان يراقب تحرير حلب وطرده وهو حائر في الطريقة التي ينتقم بها على اخراجه من حلب طردا مذلا ونهائيا وهو الذي تعهد ألا يزعج الروس ويساعدهم على ضبط ايقاع الارهاب ..
ليس عند أحد منا دليل طبعا على تورط اردوغان في عملية اغتيال السفير الروسي في انقرة .. وقد سمعنا عن تفسيرات صعبة البلع منها أن المستهدف هو التقارب التركي الروسي .. وسيحاول موالوه وهم يباركون النصر العثماني كالعادة أن يدفعوا التهمة عنه بالقول انه ليس غبيا كي يفعلها على أرضه .. وكان يقدر أن يفعلها على أرض أخرى .. ومجرد أنها وقعت في تركيا فانها صك براءة له لأنه لايوجد من يضع دم الجريمة على ثيابه أو يرتكب جريمة في داره .. فيما تقول المصادر التركية أن هدف العملية هو معاقبة تركيا وروسيا على تقاربهما الأخير .. ولكن الأسئلة التي يجب على أردوغان أن يجيب عليها في غرفة التحقيق الروسية الذي سيستدعى اليها فورا هي:
1- هل مكان التنفيذ في أنقرة تحديدا هو لابعاد الشبهات عن جهاز الاستخبارات التركي أم أنه يدل على أنه قرار اتخذ بسرعة ولكن الوقت لم يسمح للتخطيط لتنفيذه خارج تركيا لأن ذلك اكثر تعقيدا ويحتاج تحضيرات لوجستية كثيرة واهمها اخفاء معالم الجريمة وازالة البصمات التركية وهذا أمر ليس متاحا خارج تركيا ؟؟ ..
2- لماذا تم التخلص من القاتل لاخفاء الجهة التي دفعته وكان من الواضح أنه يمكن اصابته اصابة غير قاتلة واعتقاله لمعرفة القوى التي جندته؟ .. وقد كان من الواضح أيضا أن القاتل يتحضر للاعتقال لأنه لم يغادر مكانه فورا كما يفعل من ينفذ هذه الاغتيالات بل ألقى خطبة طويلة وهو لايبرح مكانه .. فحتى امام الجامع الذي اغتال الشهيد ناهض حتر لاذ بالفرار حالما اطلق النار رغم أنه متدين ويريد الشهادة من أجل الله ولم يخطب ولم ينتظر الكاميرات ليقول كلمته .. والملاحظ أن لاأحد أطلق النار على القاتل التركي للسفير الروسي رغم انه في هذه الحالات فان رجال الأمن الذين يفترض أنهم يراقبون محيط السفير سيباشرون اطلاق الرصاص في ثوان بمجرد مشاهدة شخص يطلق الرصاص الا اذا كان الأتراك يريدون ان يقولوا لنا بسذاجة بأن سفيرا لدولة عظمى في حالة حرب صريحة مع حلفاء تركيا ومع تركيا بشكل مباشر في قلب الأزمة السورية التي تنخرط فيها تركيا .. هذا السفير كان يتنزه دون حرص رغم أن وزارة الخارجية الروسية وجهت تعليمات صارمة لكل رعاياها في تركيا أن يتوخوا الحذر من عمليات انتقامية منذ أن أعلن عن التدخل الروسي ثم أسقطت السوخوي وتم التحريض على روسيا .. بل مايلفت النظر أن القاتل التركي بقي في مكانه وكأنه ينتظر أن يعتقل وكأن من أرسله وعده أنه آمن وسيدخل السجن فقط ويتعرض لمحاكمة وقد يخرج بذريعة ما انه مضطرب نفسيا كما تمت تبرئة ألب آرسلان قاتل طيار السوخوي الروسية .. ويبدو أنه صدق ذلك بسذاجة .. ولكن عملية تصفيته كانت أهم من تصفية السفير الروسي بالنسبة لمن ارسله .. كما تمت تصفية قاتل جون كينيدي كيلا يقر بمن أرسله ..
3- ان على أردوغان ان يجيب عن سهولة توفر معلومات عن تحرك سفير دولة عظمى لأفراد صغار يعملون لمنظمات ارهابية ويقدمون على تنفيذ هذه الجريمة .. لأن هذه التحركات لاتتاح لفرد مثل شرطي عمره 22 عاما .. بل هناك لاشك جهة استخبارية تتابع تحركات السفير وبرامجه وتعرف أنه سيكون في الصالة .. وكانت بانتظاره بشرطي سابق كلف بالاغتيال ..
4- ثم هل أراد أردوغان بهذا الاغتيال الانسحاب من اتفاق وتعهدات للروس تحت ضغوط غربية ولكنه كان يفضل أن ينسحب الروس بأنفسهم بدل ان يظهر هو منسحبا؟؟ فاختار الرسالة الديبلوماسية الدموية التي ستفهمها موسكو وهي تعلم أنه من جديد يتحداها كما تحداها في لواء اسكندرون باسقاط السوخوي .. أي سيكون غضب موسكو كافيا لايقاف التنسيق معه بشأن سورية .. فيعود حرا من اي تعهدات للعب بذيله .. أم هل يتهم أردوغان حلفاءه الأطلسيين بأنهم نفذوا الاغتيال على أرضه لارغامه على التريث في جنوحه نحو روسيا ..
5- هل سيقول أردوغان في التحقيق أن هناك عناصر غير منضبطة في جهازه الأمني والسياسي موالية للغرب تريد تخريب خطواته نحو روسيا والانتقام منه ومنها؟؟ وبكلمة اخرى هل هناك انشقاق في الصف الأول الحاكم التركي والذي يرفض الاقتراب من الروس وهو تمرد داخل الحزب الحاكم والمؤسسة الأمنية؟؟ ان قال هذا فانه لاشك سيزيد الشكوك به .. لأن التذرع بالعناصر غير المنضبطة هي دوما وسيلة للهروب من المسؤولية .. الا اذا كان هذا يعني أنه يقترب من النهاية عبر مراكز قوى محسوبة على الناتو غير راضية عن اتجاهه ..
الغاية من اغتيال سفير روسيا هي اضافة ثقل معنوي للموقف التركي والتركي ضد روسيا .. وتركيا مع حلفائها الغربيين لم يكونوا راضين حتما عن الهزيمة المجلجلة لهم في حلب ديبلوماسيا وعسكريا التي ظهر فيها الروس منتصرين على الجميع وألحقوا اهانة بكل الديبلوماسية والعمل الاستخباراتي الغربي .. وهي رسالة غربية تريد ان تزعم بأن روسيا استفزت العالم الاسلامي بتدخلها في سورية وعليها أن تدفع ثمن تجاهلها لرغبات الغرب .. الذي يقدمها الآن على أنها تدفع ثمن سياستها التي أغضبت الناس الى الدرجة التي يعبرون فيها عن سخطهم باستهداف مصالح روسيا بشكل دموي .. وهو اغتيال يصب في خانة الدعاية ضد روسيا أكثر من محاولة ايقافها .. وهو محاولة التأثير على موقف الرئيس بوتين داخل روسيا بسبب موقفه من الأزمة السورية لأن القاتل تحدث كما يقال عن حلب وكان يكبّر وكأنه يخاطب الشعب الروسي .. والرسالة التي تركز عليها وسائل الاعلام الغربية اثر الاغتيال هي أن ماحدث في حلب تسبب بجلب العار على روسيا والنقمة عليها لأنه موقف مشين .. وهو استعمال خبيث لحادثة الاغتيال أو استعمال الاغتيال لتبرر الدعاية السوداء ولاستكمال عملية تلويث اسم روسيا في العالم لأن المطلوب هو أن يبقى اسم روسيا مرتبطا بمزاعم الجرائم ضد الانسانية فلا يكفي الكذب والدعاية السوداء بل لابد من دليل دموي يمثله الاغتيال ليقول بأن الكيل قد طفح وأن الناس أصيبوا بالهستيريا بعد جريمة روسيا في حلب وصاروا يهاجمون روسيا وقد فقدوا عقولهم وينتقمون منها لأنها تقتل الأبرياء .. وستلاحظون بعد الاغتيال اعادة بث وانتاج للصور والمزاعم عن المجازر الروسية في حلب أو نشر الفبركات لعمليات قتل واعدامات تنسب زورا للجيش السوري بدعم من الجيش الروسي .. وهذا واضح في ماقاله القاتل الذي بدا وكأنه على مسرح ومنصة ببطولة واحدة لتصل الرسالة كاملة الى المستمع دون اي محللين أو مفسرين ..
غالب الظن أن المدرسة البوتينية الروسية في الأزمات ستتعامل مع الأمر بدهائها المعروف .. فهي مدرسة ذكية جدا وغير انفعالية وتجيد الانغماس بين صفوف العدو الى أن تصل الى يقين وقرار وتوحي له انها استدرجت الى اللحظة الحاسمة التي تضرب فيها ضربتها .. ولم أستغرب أنها تردد الخطاب الذي يردده الأتراك الذين يتشدقون به عن أن استهداف السفير الروسي يراد به ايقاف التقارب الروسي التركي .. لأن هذا القول سيفيد الروس في هذه المرحلة ويخفف عنهم ضغطا دوليا يراد به أن يتحول الى ضغط داخلي ليستغله خصوم بوتين بالقول ان سبب الجريمة هو "تورط روسيا في سورية" .. ولذلك انغمس الخطاب الروسي في الخطاب التركي المعسول عندما أكدت تركيا أن السبب هو التقارب الروسي التركي وسيقبل الروسي هذا التفسير ظاهريا .. ولكن في الكواليس سيبحث الروس عن الفاعل والقاتل بالمجهر وسيشكون بكل تصريح تركي وسيكون الاسلوب الروسي في التعاطي مع الأمر مختلفا في الكواليس ..
مهما قيل عن الاغتيال ومهما حرفت الحقيقة عمدا فان تركيا أو الناتو اسقط طائرة روسية ثانية انما فوق أنقرة هذه المرة وتمثلت باغتيال مدبر بدقة للسفير الروسي .. وكل من يقول بأن المقصود هو تخفيف اندفاع تركيا نحو روسيا عليه ان يتريث في اطلاق هذا التفسير لأن الروس يعلمون أن الأتراك ليسوا أصدقاءهم بل أعداءهم التاريخيين وبينهما تاريخ من الحروب واللاثقة .. كما ان تركيا أطلسية ولاتكن الود لهم منذ خمسين سنة .. والأتراك ليسوا أحرارا تماما في الاندفاع دون ضوابط ناتوية في هذا الاندفاع .. وهناك عشرات المكابح التي تفرمل اردوغان عندما يشط في الابتعاد عن الناتو .. ولذلك فان هذا الاغتيال ليس مقصودا منه لجم أردوغان عن الارتماء في حضن روسيا .. لأن اردوغان لايحب روسيا ببساطة .. وارتماؤه في حضنها ليس بخيار منه بل بمراوغة واضطرار مؤقت سينتهي عاجلا أو آجلا .. وأردوغان هو رجل الناتو الأول الذي أوصله الى حكم تركيا في صفقة شهيرة بين التيارات الاسلامية والسي آي ايه الامريكية التي قررت استخدام الاسلام السياسي في مرحلة باراك أوباما بعد ان أطلقها جورج بوش بالبدء بالحرب السنية الشيعية من العراق ..
لاندري كيف يمكن لبلد مثل روسيا أوقفت مجازر بدأها الغرب كيف لها أن تتعرض للانتقام في المنطقة وكيف أن بلدا مثل تركيا ينجو سفراؤه ومسؤولوه من الاغتيالات وهم مسؤولون عن ملايين الجرائم عبر التاريخ منذ المرحلة العثمانية وحفلات ابادة العلويين والأرمن وابادة سكان بلاد الشام في حملة السفربرلك .. وفي السنوات الخمس الأخيرة أعادوا انتاج عصر الجرائم العثمانية بكثافة .. وجرائم الابادة بحق بضعة شعوب .. من السوريين والعراقيين والليبيين والمصريين واليمنيين وأطلقوا الكلب المسعور داعش والكلبة المسعورة جبهة النصرة وباقي القطيع الاسلامي المسعور .. وبسبب تركيا كان هناك ملايين المشردين وآلاف الغرقى والمفقودين وآلاف المدن والبلدات المحترقة في الشرق .. وآلاف الرؤوس المقطوعة .. وآلاف المغتصبات والسبايا .. ومئات آلاف الأميين .. وكل ماتركه الأجداد من ثروات وكنوز .. وبسببهم تم تحطيم كل الاقليات وايقونات التسامح الشرقية .. ومع هذا يستطيع العالم أن يغطي كل هذا وتتمكن الدعاية السوداء أن تخفيه وتزيفه ولايرى الا مايراه الفيسبوك والتويتر من نسج خيال مكاتب التزوير عن مجازر روسيا ..
اذا كان هناك شعب غاضب ومن حقه أن يلاحق سفراء تركيا جميعا ويطلق الرصاص عليهم فانه الشعب السوري .. واذا كان هناك شعب من حقه أن يمارس الاغتيالات السياسية بحق الساسة الأتراك فهو الشعب السوري .. لأن مالدينا من ضحايا ومخطوفين في تركيا ومشردين بسبب تركيا وايتام بسبب تركيا وثروات ومصانع وآثار مسروقة في تركيا ومدن محترقة بسبب تركيا وفظائع بسبب تركيا ونساء مغتصبات بسبب تركيا وووو .. مالدينا من كراهية لساسة تركيا واسلامييها يكفي ويبرر لشعبنا ان يقتل كل سفراء تركيا في العالم ..
مايلفت النظر في قراءة التاريخ العثماني أنه تاريخ يقوم على الغدر الأقصى لم ينج منه في القصور العثمانية الأخ والشقيق والأب والزوجة .. ولايكاد سلطان عثماني وصل الى الحكم الا على جثث اخوته أو أبيه وعيون أشقائه المقلوعة وعبر مؤامرات القصر ودسائس الوزراء والنساء .. وهو جزء من ثقافة النخب السياسية التي تحكم قصور استانبول حتى اليوم فقد اطاح اردوغان بخصومه عبر الدسائس وتلفيق الاتهامات ..
ولكن اذا كانت الثقافة العثمانية تعشش في رؤوس السلاجقة فان في الكرملين تعيش روح ليو تولستوي وبوشكين وشاغال .. وروح فيدور ديستويفسكي .. الذي كتب الجريمة والعقاب .. والجريمة في العقل الروسي لاتمر من دون عقاب .. واذا تبين هذه المرة للقيصر أن السلطان يلعب مع الروس لعبة قذرة .. فعلى السلطان أن يستعد لتلقي العقاب ..