فتح جسد الحكاية الكتاب على آخر استسلام للصفحات ؛ قبل أن يتأهّب ذلك الهواء ليداعب كل سطر فيها, وليدلق عليها سيولاً من أحبارٍه ؛ حين يخترق تفاصيل موته القادم .. عينا الحكاية مغمضتان والعينان الباقيتان ؛ متحفزّتان كلصّ يبحث عن ممرات الدخول والهروب ؛ كانتا كعيني الصارف ؛ مفتوحة على حكايات العناق وموسيقى التأوّهات .. متعباً وصل هناك ؛ بتثاقلٍ كان ينتزعُ خطواته من قدميه المتوحّدتين مع اسفلت الطريق , الشوارع بائسة حزينة , الشمس لم تأتِ اليوم , البرد يلفُّ الأرصفة ,الثياب تمضي جيئة وذهاباً , إيقاع الوجع يعلو متدرجا كأغنية فلاحة تقف على رأس الحقل , وبيدها منجل من ذكريات .. ! ألقى روحه المتعبة على تلك الخشبات المتوازية تحت ذلك الغصن العاري هناك ؛ أخرج أول سيكارة مع أول نسمة برد فوضوية عابرة .. كانت الأشجار المنحوتة التي تنظر إليه وهو جالس على الفراغ , تسخر من وحدته ؛ أخذ نفساً جديدا من السيكارة السادسة إلا ربع .. ونظر إلى يمينه فجأة , تراءى له أن ثمة صوت يناديه ؛ كان ذلك الصوت يقول له تلك الشجرة النبيذية , حزينة هذا اليوم .. ترك حقيبته الزرقاء ومشى أمتارا إلى تلك الشجرة ؛ هل حقا أنت حزينة ؟ سألها ! انتفضت الأغصان العارية , صرخت بوجهه , وهي ترشقه بقطرات من دموعٍ إلهيةٍ] حملتها الغيمات التي كانت فوق رصيف الكهف منذ مدة ؛ وجاءت بها هنا .. بلل ذلك الماء وجهه حين قفل عائدا لحقيبته الزرقاء .. أمسك بها ودفعها وسادةً ؛ إلى حيث تراءى له طيفها .. حمل قدميه المتعبتين من قصص الشوارع والأزقة , ووضعهما على يمين دخان السيكارة العاشرة , ومن ثم ألقى برأسه على الحقيبة تحت ذلك الغصن العاري .. كان ثمة قطرات تسيل من على وجنتيه يمينا وشمالا , حين شاهد فوق رأسه خيطاً زهرياً مربوطا إلى ذلك الغصن العاري ؛ كان يتطاول شيئا فشيئاً , وهو يرقص فوق وجهه .. أغمض ما تبقّى من فتحات الضوء بين جفنيه على ذلك الخيط الطائر , حين تأكد أن شيئا كان يتسرّبُ منه ببطء شديد , شعر بخدرٍ في طرفه الأيسر .. وقعت السيكارة المشتعلة تحت المقعد , لم يكن قد أخذ منها إلا سحبتين بالعدد .. ما هذا الثقل الذي يشعر به على صدره ؛ قال عنه ذات يوم إنه يشبه قاسيون ؛ لكنه لم يعد يدرك شيئا بعد ذلك .. كان ضوءا أبيض لم يعرف مثله من قبل ..ونسمة باردة تمر على الوجنتين المتحمّمتين بنهرين من ماء بارد مالحٍ , نبعا من محجري عينيه .. بينما شيءٌ شفيفٌ مربوطٌ إلى طرف ذلك الخيط الزهريّ مُنْتَهٍ على الغصن العاري ؛ قبل أن يقول ما أجمل الموت بك يا خيط الشال .. ……….. من مجموعته / ( الولادة من جديد )