كتب صهيب عنجريني في صحيفة "الأخبار اللبنانية" قائلا:
حكاية أسرة أبو محمّد تلقي الضّوء على كوارث الحرب من زاوية بعيدة إلى حد كبير عن مساقط الضّوء. أسرة حلبيّة صغيرة تشارك في صناعة مأساتها فاعلون كُثر ومن بينهم بعض وسائل الإعلام، شأنها شأن آلاف الأسر في حلب وغيرها. مختصر الكارثة الوطنيّة يقول إنّ عشرات الآلاف من الأطفال الذين وُلدوا في ظل الحرب في مناطق خارجة عن سيطرة الدولة لا وجود لهم على سجلّاتها، والحل الوحيد المتاح تسجيلهم «بلا نسب». في حين تصفهم بعض الأصوات بأنهم «أولاد حرام» و«نِتاج جهاد نكاح»
«الحمد لله، من كم يوم سافر ع تركيّا قبل ما يذبح أختو» يقول أبو محمّد مكفكفاً دموعَه. يتحدّث الرّجل عن ابنه الوحيد بحرقة كبيرة «ما لحقنا نتهنّى بشوفتو (برؤيته) بعد ما انحرمنا منها كذا سنة» يقول أبو محمّد لـ«الأخبار». قبل الحرب كان الرّجل الخمسينيّ يقطنُ في حي الصاخور في مدينة حلب، هو وزوجته وابنتان وابن وحيد.
حين حطّت الحرب رحالَها في حلب نزحت الأسرة مثل آلاف الأسر الحلبيّة، أسبوع في أحد المساجد التي تحوّلت إلى مقار إقامة مؤقتّة كان كافياً لاستئجار منزل صغير في حي الحمدانيّة. بعد ستة أشهر بدأت المدّخرات بالتناقص، لم يكن العمل الجديد كافياً سوى لسد المتطلبات اليوميّة. «عملنا بسطة صغيرة أنا ومحمد بالفرقان، هونيك (في القسم الشرقي) كنت أعمل في ورشة خياطة». بعد نقاشات طويلة قرّر الرجل العودة وأسرته إلى منزله القديم باستثناء بِكره محمد «كان عمرو 22 سنة وما عندو عسكرية (معفى من الخدمة الإلزامية لأنه وحيد) استلم البسطة، واتفق مع شبين يسكنو معو ويتعاونو بدفع الآجار». على هذا المنوال سارت حياتهم فترة ظنّوا أنّها لن تطول، يتواصلون هاتفيّاً طالما سمح توافر الخدمة بذلك، ويزورهم محمّد مرة في الأسبوع طالما كانت الحركة متاحةً عبر معبر بستان القصر الشهير، قبل أن تتوقف الزيارات تماماً منتصف عام 2013.
«على سنّة الله ورسوله»
في القسم الشرقي عمل الرجل في مهنته فترة قصيرة، قبل أن يبدأ في التنقل بين أعمال عدّة مع توقف معظم الورش عن العمل «اشتغلت فترة شوفير سوزوكي، بعدين بعت كم شغلة من أغراض البيت جمعت راس مال صغير وصرت أشتري وبيع خضرة». في منتصف عام 2014 ساءت ظروف أبو محمد الاقتصادية والصحيّة «صرت أشتكي من ضهري كتير، وبعدين اكتشفت إنو معي ديسك». يروي الرجل كثيراً من تفاصيل البؤس التي مرّ بها، في ما يبدو مقدّمة لتبرير «خطيئته» التي أقدم عليها بعد شهور قليلة «والله يا أستاذ لولا الويل اللي دقناه ما كنت وافقت، بس العين بصيرة والإيد قصيرة، ما بسامح حالي ليوم القيامة». أما «الخطيئة» فكانت موافقة أبو محمد على تزويج ابنته من أحد عناصر المجموعات المسلّحة. خلال عامين كان خاطبون كثر قد تقدموا لطلب ابنتيه «الصغيرة ولد (طفلة) عمرا يا دوب 13 سنة ما قبلت أبدا، الكبيرة صار عمرا 18 سنة، بس والله ما جبرتا ع شي. الشب سوري بس مو حلبي، كان اسمو أحمد أبو عمر». لم يُطلع أبو محمّد ابنه البكر على تفاصيل كثيرة، أخبره فقط أنّ شابّاً قد تقدّم لخطبة شقيقته وأنهم وافقوا بعد أن سألوا عنه وعرفوا أنه «ابن حلال». لم تكن هناك فترة خطوبة، أيام قليلة تمّ بعدها عقد القران «جاب معو شيخ وشهود، وجوزناهن على سنّة الله ورسوله». بعد الزواج صارت لأسرة أبو محمّد مخصّصات دائمة من الخبز والمواد الاستهلاكيّة والحصص الغذائيّة بفضل الصّهر الجديد الذي قرّر بعد فترة الانضمام إلى «جبهة النصرة» وصار يُعرف باسم «أبو عمر أنصار». يُعلق الرجل على الأمر باختصار «جربت أحكي معو بالقصّة وأنصحو جاوبني: «إذا بتريد ما تتدخل يا عمّو». إش بيطلع بالإيد؟». كان الصهر «يغيب ويرجع، بغيابو تقعد البنت عندنا، وبس يرجع تروح ع بيت جوزا». في نيسان 2015 اختفى أبو عمر «ناس قالوا انخطف، ناس قالوا راح بمهمّة وما رجع، وناس قالوا انقتل»، أما الزوجة فكانت حاملاً في شهرها الثّامن.
استقبلت أسرة أبو محمد حفيدها الأوّل بلا أب له «سمّيناه محمود، أمو نشف حليبها من القهر عمرها 20 سنة وهي أرملة وعندا ولد، وأنا صرت لوم حالي باليوم 100 مرة بس الندم ما بينفع». تناقصت «الحصص» التي كانت تصل إلى منزل الأسرة تدريجيّاً، قبل أن تتوقف تماماً بعد بضعة شهور. عادت الأسرة لتعيش ظروفاً مأسوية شأنها شأن معظم سكّان الأحياء الشرقيّة «لا شغل، ولا أكل، والضرب فوق روسنا كل الوقت». في الطرف الآخر من المدينة كان محمّد يواصل حياته، وينتظر «الفرج» بدوره. كان على اطّلاع على معظم تطورات حياة أسرته بما فيها اختفاء «صهره» من دون أن يعلم حقيقة «عمل» المختفي، يتواصل مع الأسرة، يحادث شقيقته ويهوّن عليها ويعدها أن يكون أباً لابنها.
في مهب «الذبح»
مع الدفعات الأولى للخارجين من القسم الشرقي خرجت أسرة أبو محمد. كان الرجل يتحسب لردّ فعل ابنه حين يعرف الحقيقة كاملة، لم يتواصل معه فور خروجهم، تدبّر أمر إقامة الأسرة مؤقتاً عند أحد جيرانه القدامى، ثم اتصل بابنه وذهب لملاقاته. «قررت أحكيلو بالتفصيل، توقّعت كل شي، بس ما توقعت يطير عقلو ويحلف أيمان بدو يدبحها». جنّ جنون الشاب وانهال بالشتائم والسباب متهماً شقيقته بأنّها شاركت في «جهاد النكاح» ووالده بأنّه «باع شرفه». يغص الرجل بدموعه ويقول «ما كنت مستوعب اللي عم يصير، هجم علي ودفشني (دفعني) وما بعرف شو كان صار لو ما تجمعو الناس علينا». حمل الرجل أوجاعه وعاد إلى أسرته، تتالت اتصالات الابن الغاضب، حاول كثيراً معرفة مكان إقامتهم لكن الأب لم يخبره. بعد أيّام امتنع تماماً عن الرد على اتصالاته، وراح يفكر في حل للمصيبة الجديدة «صرت أشوفو بنومي عم يدبح أختو وابنها قدام عيوني». استعان أبو محمد بجاره الذي آوى الأسرة لتنفيذ الفكرة التي استقرّ الرأي عليها، تطوّع الجار لإخبار محمّد بأنّ الأسرة «هربت إلى تركيّا». قال له «راحو لعند خالك». شارك الخال في الخطّة، حين تواصل محمّد معه قال له «نعم، هم عندي، اخز الشيطان وتعال كي نحل الموضوع». الدم الذي غلى في عروق الشاب دفعه إلى السفر سريعاً، حين وصل أخبره خاله بأنّه استيقظ قبل وصوله بيوم فلم يجد أحداً «قلّو: عرفوا إنك جاي وهربوا، والله أعلم وينهم هلأ». لا يبدو الرجل سعيداً بطبيعة الحال، لكنه مرتاح لأنه تجاوز مأزقاً كبيراً «أنحرم شوفتو أحسن ما يدبح أختو وأخسر الاتنين، ما رح نبقى بحلب أكيد، يمكن يرجع ويلاقينا، ما بعرف لوين بدنا نروح لسة» يقول مجيباً على أسئلتنا الكثيرة.
«بلا نسب»
لم تتوقّف مشكلات الأسرة عند مخاطر «الذبح» التي تجاوزتها مؤقّتاً. حين سأل أبو محمد عن طريقة تثبيت زواج ابنته وتسجيل حفيده في السجلات الرسميّة علم بالمصيبة الأكبر: ورقة الزواج التي في حوزتها لا تُثبت شيئاً، فهي خاليةٌ من أي بيانات تخصّ الزوج باستثناء اسم شهرته «أحمد أبو عمر»! يقول الرجل إنّ أحد مسيّري المعاملات أخبره بأنّ الفرصة الوحيدة هي تسجيل الطفل في السجلات «بلا نسب»، ويضيف «يعني ابن حرام». الصيغة المتاحة مرفوضةٌ تماماً عند كل أفراد الأسرة، ما الحل؟ نسأله، فيجيب «عم نفكر سجلو على إسمي، يعني بيصير عند الدولة أخو أمّو. مع إني صرت سائل 3 شيوخ وكلهم قالوا هالشي حرام، بس أنا متأكد إنو عند الله مو حرام».
كارثة وطنيّة
قصة أبو محمّد ليست سوى واحدة من قصص كثيرة تختلف في حيثيّاتها، وتتشارك في نتيجة واحدة: «أطفال بلا آباء». وعلى امتداد قرابة أربعة أعوام خرجت فيها الأحياء الشرقيّة عن سيطرة الدولة السوريّة حصلت عشرات آلاف الواقعات الاجتماعية (زواج، طلاق، ولادة، وفاة) من دون توثيق رسمي. ولم تفكر مئات «الهيئات» المعارضة بما فيها «الائتلاف» وسلفه «المجلس الوطني» ولا «الحكومة المؤقتة» نفسها عناء التفكير في طريقة لتوثيقها بشكل منهجي. كانت كل حالات الزواج تتمّ «عرفيّاً» بحضور شيخ وشاهدين اثنين والزوج وولي أمر العروس. وفي كثير من الأحيان لم تتضمّن أوراق «عقد النكاح الشرعي» بيانات الزوجين كما وردت في الوثائق الرسميّة (الاسم والكنية مع اسم الأب والأم، الرقم الوطني، الخانة.. إلخ). كما كان كثير من المشايخ يقومون بإجراء «عقد النكاح» شفهيّاً ومن دون كتابة أي ورقة. وعلاوة على ذلك ثمّة أوراق كثيرة دوّنت فيها شهرة الزوج لا اسمه (مثل «أبو سارية الأنصاري» «أبو حذيفة المهاجر» «أبو إسلام دبّابات».. إلخ)!. مع عودة المدينة بكاملها إلى سيطرة الدولة السورية بدأت الكارثة بالتكشّف: أعداد كبيرة من الأطفال مع أمهات فقط، أما الآباء فهرب بعضهم وقُتل بعضهم واختفى بعضهم.
لا تشريعات مرنة
حتى الآن لم يجد المُشرّع السوري حلولاً مرنةً للكارثة التي تتطلب إيجاد تشريعات استثنائيّة، لا سيّما في ظل تكرار مرتقب لهذه الكارثة الوطنية في مناطق أخرى على رأسها إدلب والرقة. وبرغم أن مجلس الشعب السوري كان قد ناقش أخيراً تعديلاتٍ على قانون الأحوال المدنيّة، غير أن هذه التعديلات لا تُقدّم للأطفال أكثر من «ديكورات» مثل تغيير تسميتهم من «لقطاء» إلى «مجهولي نسب» مع بعض أشكال الرعاية ولكن دائماً في إطار كونهم «مجهولي النّسب». وفي ظل التشظي الحاد الذي يعيشه المجتمع بفعل الحرب علت أخيراً أصوات كثيرة تحتج حتى على منح هؤلاء الأطفال الجنسية السورية.
يتحدث البعض عن 20 ألف طفل من «مجهولي النسب» في مدينة حلب وحدها. لا إحصائيّات دقيقة حتى الآن، وليس من المتوقّع الوصول إليها في المدى المنظور بسبب ضخامة الكارثة وتراكم الحالات وصعوبة حصرها. مبادرة العائلات إلى البحث عن تسوية لهذه المشكلات ما زالت في حدودها الدنيا، لا سيّما بالنسبة إلى الأطفال الذين لم يبلغوا سن الالتحاق بالمدرسة. وتعمل الأمانة السورية للتنميّة ممثلةً بفريق «برنامج الدعم القانوني» (الممول من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين) على إجراء مسوحات ميدانيّة والبحث عن حلول قانونيّة، لكنّ حجم العمل المطلوب يبدو أكبر بكثير ممّا تم إنجازه خلال الفترة الماضية.
بالأرقام
باشر فريق برنامج الدعم القانوني عمله بتاريخ 17 كانون الأول 2016، عبر فريق مكوّن من 26 محامياً وإداريّاً. ووفقاً لبيانات تلقّتها «الأخبار» من البرنامج فقد شمل المسح مراكز جبرين المؤقتة، مساكن هنانو، الأرض الحمرا، الصاخور والشعار. تم الوصول خلال عملية المسح التي امتدت من 17/12/2016 وحتى 21/12/2016 إلى ما يقارب 1240 شخصاً، وأغلب الحالات القانونية التي تمت مواجهتها هي: نقص في الوثائق الشخصية كالبطاقات الشخصية والعائلية وحالات تسجيل الأطفال وحالات تثبيت الزواج والنّسب. يقتصر عمل البرنامج على ما تتيحه التشريعات النافذة، وحتى الآن لم يُثمر سوى عن تسجيل 63 طفلاً (أعمار 21 منهم دون السنة، و42 فوق السنة) علاوة على توزيع 214 هوية شخصية و40 بطاقة عائلية.
(بعض) الإعلام شريكاً في «الجريمة»
منذ ظهور «فتوى جهاد النكاح» المزعومة عبر صفحة مزوّرة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» وجدت فيها بعض وسائل الإعلام مادة رائجة! أُعدّت عشرات التقارير التي تتحدث عن تفشي الظاهرة في مناطق سيطرة تنظيم «داعش» (ولاحقاً في مناطق سيطرة مجموعات أخرى). وإذا كانت أهداف تلك الوسائل تتراوح بين حشد التأييد لأحد أطراف الحرب وتشويه صورة «داعش» (وكأنّ صورته الحقيقيّة ليست مشوّهة بما يكفي) فالواقع أنّ هذه «اللعبة» قد أفرزت ازدياداً في الاستقطاب السياسي والمناطقي، ووضعت كل النساء اللاتي وجدن أنفسهنّ يعشن في مناطق خارجة عن سيطرة الدولة السوريّة في مرمى الاتّهام وتشويه صورتهنّ ونعتهنّ بـ«مجاهدات النكاح»، الأمر الذي ينسحب بطبيعة الحال على أطفالهنّ. فيما تقول المتابعة الدقيقة للحياة في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة وشهادات عديد من السكّان إنّ الزواج يتمّ فيها بصورة تطابق شكليّاً المعمولَ به لا في سورية فحسب، بل في كل الدول الإسلاميّة: شيخ، شاهدان، زوجٌ ووليّ للزوجة، مهرٌ، إيجاب وقبول «على سنة الله ورسوله» لكن بلا توثيق رسمي.