ديمُقراطية " :
ـ ـ ـ ـ بقلم ايمن سليمان ـ ـ ـ ـ ــ ـ
كنتُ قد تجاوزتُ مرحلة تَعلّمِ الحروف، وتهجئةِ الكلمات، وحِفظ جدول الضرب، وأناشيد سليمان العيسى، إلى التعرّف إلى النباتات، والأزهار، وأشجار الســـنديان، والبلوط، والجوز، والدلب المُحيطة ببيتنا الريفي، وبَنيتُ صداقاتٍ مع النمل، والنحل، والغربان، وعصافير الدّوري….
ولم أُصادفها، ولم يُخبرنِ أحدٌ عن شكلها، ولا كيف يُمكن لألثغٍ مثلي (آنذاك) أن يُهجئ حروفها لأنطق بكلمةٍ قد تَزنُ طَناً……"دي مق راطية".
والدي المشغولُ بلقمةِ عيشنا، المشغُوفُ بعشقِ أشجار الزيتونِ في سفحِ الجبل، وسقاية أشجار الرمان، والخوخ في أرضنا القريبة، وإلقاء نظرةَ الوداعِ الأخيرةِ على الراحلين في قبورهم، بعد أن يُهيئ لهم المكان بأفضل ما يُمكن، ويُوسدُهم التراب، ويوصيه بأن يكون حانياً عليهم، و يودعهم بكلماته الطيّبة، وببعض دموع الرجولة التي كُنا لا نراها، لكن أنينهُ في الليل كان يبوحُ لنا بوجعٍ يتعمدُ دوماً ألّا يُظهرهُ لنا…
ربما لم يَســمَع باسمها الجميل، لذلك لم يُحدثني عنها يوماً بشيء…
"عرُوس" الزعتر و الزيت التي كانت تضعُها أمي بعناية بين كُتبي، فيها من طيب المذاق ما يجعُلها خَيارِي المُحببِ الدائم، بصرفِ النظرِ عن إمكانيةِ توفر خياراتٍ أُخرى…
والحريّةُ الكاملةُ لي بالنومِ بجوار الحائطِ الطيني اليســـاري، أو اليميني، فلم يكّن أحداً ليمانع حتى لو سحبتُ فرشتي المحشوة بكراتٍ من القطنِ (الّذي بات صُلباً كالحجارة مع مرور الزمن) إلى السطحِ في أيام الصيف الحارّة، أو إلى وسطِ بيتنا الريفي الحاني، المُشرَّعةُ دوماً أبوابه الخشبية العتيقة للشمس، والناس، وللهوا الغربي، والشرقي، و لريحِ الشمال الباردة حصةٌ فيه أيضاً…
ولم اُصادفها، لم يُحدثني أحداً عن حُسنها، وسحرِ حضورها، وبركات خيرها…
رفاقُ ذاك الأمسِ القريب البعيد، ووجوهُ الجيران الطيّبة، ورائحةُ خبز التنور، ونكهةِ اليانســـون المجبول بأقراص العيد، تَعبقُ في زواريب الحارة، التي كانت عالمي الفسيحُ، المسكونُ بالألفةِ، المترامي الحدود إلى الحرّيـــــةِ الحُــلم…..
كان الزّمن يُومها مَطلع ثمانينات القرن الماضي، ولم يكن قد مضى وقتٌ طويلٌ على حدوث الانقلاب الكبير، يومَ أُنيرَت تلك القُرى التي نَسيّها " اللهُ " من زمنٍ بعيدٍ بالكهرباء (المعجزة)، وتَغيرت بشكلٍ مُتسارعٍ الملامحُ، والعاداتُ، والوجوهُ، والاحتياجاتُ، والمفرداتُ مع دخول التلفزيون (رمز التحضُّر آنذاك) كضيفٍ مرحبٍ به، ولا غِنى عنه في كلّ البيوت…
وفي لحظةٍ مفصليةٍ فارقة من ذاك الزمن الطيّب، وبمتابعةِ المدهوشِ لضيفنا الجديد، الذي احتلّ بسرعةٍ مكاناً مرموقاً في صدر البيت، (وبالطبع لا أتَذكرُ المناسبة، وعمّا كان ذاك الجَمعُ المُحتفلُ في التلفزيون يتحدث) إلّا أن أحدُهم ذَكَرَ اسمها المُثير، الغريب، الفريد، التقطتهُ أُذناي بشغفٍ، وأعادت تهجئة الحروف "دي مق را طية"….
بدايةً لم أحُسنْ لفظها بشكلها الصحيح، وموسيقاها الرّخيمة….. وأنا ألثغُ بحروفٍ ثلاث (من بينها الرّاء)، وسَرحتُ بخيالي الفتي مُتسائلاً عن ملامحها، أهي طويلةٌ أم قصيرة..؟؟ ســمراءُ أم شقراءُ..؟؟ سوداءُ أو بيضاءُ ..؟؟ طيبةٌ أم لئيمة، حانيةٌ أم قاسية……..؟؟
لماذا لم أتَعرفُ بها، ولم أُصادفها، ولم يحدثنِ أحدٌ عنها…؟؟
أتُرى لأنّي كُنتُ ألثغُ بتلك الحرفِ، ومنها الرّاء ركيزتها ؟؟
أم أنّها كانت رفيقتي بالفطرة، ولازمتني بحنوٍ في تلك الأيام التي عشتُها في ذاك الزمن الجميل، وذاك العالم المُتسامي، المُتسامح، المُتسع لكلّ الخيارات، المسكُونُ بالحب…؟؟
… وإلى الآن لا أدري .
ـــــــــA.SULAIMAN