مهدي زلزلي

مهدي زلزلي – بيروت برس –
روائي عتيق هو، نصفُ إله، وكأقرانه لا يستسيغ النقد. ولكنه أذكى من أن ينزلق إلى نقاش مع الناقد الشاب الذي تجرَّأ على روايته الأخيرة نقدًا وتحليلًا وتأويلًا، فيجعل من الآخر ندَّا له بالمجَّان.
يعرف الروائي العتيق جيّدًا أصول اللعبة في مواقع التواصل الإجتماعي، ويعرف أن كلّ "ديك" على صفحته في الموقع الأزرق "صيَّاح"، وأنَّ الموقع الذي خلق بغمضة عين نجومًا من لا شيء، قادر بسهولة أكبر على تلميع نجوم أخرى مكرَّسة، وأنَّ من قلَّ شأنه هنا كمن علا شأنه، له "باقة" من المعجبين الإفتراضيين الذين قد يصلون في إعجابهم حدّ تقديسه وإن لم تتوافر فيه شروط القداسة، والجاهزين للدفاع عنه ظالمًا أو مظلومًا.
شخص عاديّ ككاتب هذه الكلمات قادر على استدراج العشرات من بين الآلاف من الأصدقاء إلى شتم شخص آخر، سواء ذكر إسمه أو لم يفعل، وسواء أيضًا أوضح الجرم المنسوب إليه أم لم يفعل، يكفي التلميح إلى افتئات أصابه منه في منشور من بضع كلمات وانتظار النتيجة. وقد يفعل الآخر الأمر نفسه على صفحته. وقد يلعب القدر لعبته فيكون بين "الأنصار الإفتراضيين" للأوَّل بعض "أنصار" الثاني وينخرط هؤلاء أنفسهم في الجوقتين كليهما دون أن يتسنى لهم معرفة سخف الموقف الذي وقعوا فيه. ألا يحدث ذلك أحيانًا؟ يحدث بين صغار الناشطين فكيف لو كنا نتحدّث عن أيقونة تحيط بها هالة من القداسة بفعل بضع شعيرات بيض، وإرث أدبي غزير، وشهرة عربيَّة وعالميَّة لا متناهية؟
ولأنَّ الروائي العتيق يعرف أصول هذه اللعبة جيّدًا، فقد قام بمشاركة رابط المقال على صفحته الفايسبوكيَّة دون أن يتورَّط في التعليق عليه بكلمة واحدة، لا أمر عمليَّات علنيّ هنا لـ"المحازبين"، ولا حاجة حتى إلى أمر عمليَّات من تحت الطاولة كما يحدث أحيانًا في مواقف مماثلة. كلّ متابع يعرف دوره جيدًا.. بالأحرى "واجباته"! وثمَّة ما يرقى بهذه الواجبات إلى مرتبة "المهمّة النبيلة".. فالروائي من طائفة، والناقد من طائفة أخرى.. و"الألتراس" أو الفئة الأشدّ حماسةً في جمهور الروائيّ العتيق تنتمي حكمًا إلى نفس طائفته.. هذا أفضل، وأضمن لشدّ العصب.. وحين يكون متن الرواية كله قائمًا على طوائف، والسرديَّات كلها تتناول طوائف، ويكون نقد الرواية قائمًا على اختزالها طائفة كاملة بفردٍ واحد وشيطنة الإثنين معًا، ويصادف أنَّ الناقد ينتمي إلى الطائفة المختزَلة نفسها، تكتمل فصول الإتهام، ويصبح الناقد الشاب فورًا حلقة في منظومة جهنميَّة تعاني من "فائض القوَّة"! ويصبح ملزمًا بالدفاع عن نفسه! لا أحد معنيّ هنا بالتقصّي عن الناقد الشاب وعلاقته الملتبسة مع طائفته وأحزابها وقوله فيهما أحيانًا ما لم يقله مالك في الخمرة.. وحتى لو وُجِد من يعرف هذا الكلام فليس من المصلحة قوله، هذا لا يخدم هدف التحشيد الإفتراضي في شيء..
حسنًا، الروائي العتيق أنهى مهمته بنجاح، أنجز روايته وقد حمَّلها الرسائل التي يريد، ما الذي يزعج مبدعًا في وصول الرسالة الفنيَّة لعمله إلى المتلقي؟ بل ما الذي يزعجه في مساعدة الآخرين له على إيصال هذه الرسالة وتأويلها على النحو الأفضل؟ لعله كان يحلم أن تصل هذه الرسالة – المطابِقة لمعايير الجودة – إلى المسؤولين عن الجوائز العربيَّة الكثيرة هذه الأيَّام، دون غيرهم؟
الناقد الشاب أيضًا أنجز ما عليه، وشرَّح الرواية بمهنيّة موصوفة، فإن أخطأ فله أجر وعلى المبدع الردّ، ولكنه أصاب وله أجران.. يمكن الجزم بذلك قبل قراءة الرواية، فنقده المعلل والمدعَّم بشواهد وأمثلة وأسماء كفيل بتوضيح كلّ شيء، ثمَّ أنَّ طريقة الكاتب في الردّ لا تقودنا سوى إلى عجزه عن الردّ بشكل آخر.
أنهى الروائي العتيق مهمَّته الثانية بنجاح أيضًا، وضع رابط المقال أمام "مريديه" وقال لهم كلمة السرّ دون أن يقولها: "اهجموا"!
"يا كايد العزّال"، "قراءة خنفشاريّة"، "تهديد"، "فذلكة"، "فلسفة"، "قلة أدب"، "بارانويا"، "كاد المريب بأن يقول خذوني".. فضلًا عن عبارات أخرى لا يتسع المقام لذكرها تحمل طابعًا تهكميَّا على طائفة بأكملها، كانت حصيلة الهجوم. وضع الروائي العتيق علامة الإعجاب على التعليقات المسيئة، لعلّ هذا التسطيح الذي أهان الرواية قبل أن يهين مقالًا نقديًا تناولها أعجبه كثيرًا ورسم على وجهه ابتسامة المنتصر..
ومنذ اليوم التالي، انصرف الروائي العتيق راضيًا إلى نغمته الأثيرة: انتقاد ناخبي بلده "الأغبياء" الذين يهتفون يوم الإنتخاب "طاب شرب الدم طاب" بدلًا من الإقتداء بهدوء العمليَّة الإنتخابيَّة في العاصمة الفرنسيَّة، و"المواطنين الذين يحوّلون موظفين رسميين يفترض أنَّهم في خدمتهم إلى أنصاف آلهة لمجرّد قيامهم بواجباتهم"، و"السياسيين الذين يصلون إلى مناصبهم عن طريق التوريث ومن ثمَّ ينادون بقيام دولة المؤسسات". ولكن، هل استطاع صاحبنا الحفاظ على مصداقيّته وقدرته على الإقناع بعد تحوّله إلى صورة عمن ينتقدهم؟
سيعرف كثيرون حتمًا أسماء الروائي والناقد والرواية، وسيكون لدى آخرين الفضول اللازم لمعرفة هذه الأسماء.. ولكن الأسماء هنا نافلة، ليست ذات شأن. سلوك الروائي العتيق وأمثاله نهج، لا حادثة!