
كم أسعدني أن أتلقى قبولا راقيا من قبل أصدقاء كرد سوريون في الشمال السوري وأنا ابنة بادية السلمية ومسكني في الساحل السوري. وكم أوحّد بذلك هذا المكوّن السوري الأزلي، الذي طالما تعاقبت عليه حضارات، وارتقى بقيم إنسانية تتحدى كل فرقة بين أبنائه، ونتيجتها انتشرت مختلف العلوم في كل بقاع الأرض، إلى أن حاولت الدول الطامعة في خيراته، البشرية والطبيعية، النيل من وحدتنا، وحدة الانتماء إلى سوريا. كم يقلقني همسات الصحافة المتعبة حول تقسيم سوريا، وكم أخشى أن أفقد ثقتي بكل مقومات وجودنا الإنساني. لكن …. لا…. وألف لا لمن يريد أكثر من سوريا. هي واحدة، موحّدة، لطالما ضمت، وتضم، كافة أطياف الشعوب، إسلام، مسيحيون، يهود، أرمن، آشوريون، سريان، كلدانيون، كنعانيون ….. والقائمة تطول، كرد، عرب حتى بقايا أجانب من زمن الاستعمار…. وستبقى منارة التعددية بين كل الدول العربية، وفي العالم أيضا.
كل ماسبق شرفني وأسعدني، بل حملني مسؤولية الكلمة في زمن البندقية والرصاص، والتخلف الذي أساء للمفهوم الديني. لذا، أضع بين يدي قرائنا في الشمال السوري، وعبر مجلتكم الرائعة، محاضرة حول تربية أبنائنا، لنصل إلى جيل سوري يحمل راية التعددية، ويحترم الاختلاف، ويبني مجتمعه. لعلها حجرة في بركة ماء تتوسع دائرتها بتوسع إدراكنا لخطورة مانحن فيه.
كل الشكر لكم، وأخص بالشكر الصديق الكاتب الكردي نوشين بيجرماني على تقديمي لكم وتقديمكم لي.
الأبناء بين الأهل والمدرسة
تُشْبِهُني ……….. تلكَ التي جعلَها الشّعراءُ قِبلْةَ قوافيهم ….
تُشْبِهُني …….. تلكَ التي تَنَزّهَتْ بين ثَنايا رِواياتِ الأُدَباءِ… وحيّرتْهم… خاتمةُ مسيرتِها ….!!
تشبهُني …… تلكَ التي…. مازالَ الرسّامون يبحثون عن لوحةٍ تعبّرُ عنها … ولم يصلوا بعدُ ….
تشبهُني …….. تلكَ التي حيّرتِ الأبطالَ بقوّةِ كلمتِها … ونكّستْ سلاحَهم … اعترافاً بها …..
تشبهُني……. تلكَ التي أزاحتِ الخِمارَ… لا لتجذبَهم .. بلْ لتقولَ:
ما أمتلكُ .. كنزٌ لا يطالُه إلا منْ يستحقُّ ……
تشبهُني ….. تلكَ التي مالتْ فوقَ رفاةِ ولدِها … ورَوَتْهُ دمعاً …فاستحقّ الخلودَ ….
تشبهُني … تلك التي … أشاحتْ بوجهِها عن خيانةِ أخوتِها … وتابعتِ المسير….
تشبهُني…. أنا المرأةُ التي أنجبَتْ .. وتنجبُ .. ولنْ تيأسَ.. طالما أنَّ بعضَ أبنائِها…
يستحقُّ الحياةَ …. ( أنا المرأة السورية)
· تحية لأمي التي أوصلتني إلى بر الأمان وسلمتني مفاتيح الحياة الصحيحة.. ولا زالت تمدني بالعطاء والقوة …
· تحية إلى كل مدرّس كانت له يد بيضاء في حياتي الدراسية…
· تحية إلى أولادي يشقون طريقهم في الحياة بثقة، بما يمتلكون من قدرات….
· تحية إلى كل طالب مرّ في الصفوف التي درستها وأصبح ذا مكانة أفتخر بها….
منذ ما ينوف عن تسع وعشرين عاما، دوّت صرختي أرجاء الشيخ بدر (منطقة في الجبال المطلة على الساحل السوري) وأنا أرتقب حملي الأول بعد أحد عشر شهرا من زواج كان واعدا بالأمل….. كنت لاأزال بثوب الزفاف الأسود، ومكياجي الذي بثته روحي من داخلي، فالتمع الكحل الأحمر بعينيّ، واكتست شفتاي زرقة البرد والسماء. أما ابنتي، التي احتمت بحبل السرّة، خبأت صرختها لحين الولادة، وما بعدها.
تأملت وجه طفلتي القادمة للحياة، وصارعتني الأفكار…. إما استسلام، أو تطلع لمستقبلها القادم…. فكانت بداية علاقتي بالتربية والأمومة.
فالأم هي عماد التربية. وهذا ما دفعني لتربية ابنتي، وإعدادها تربة صالحة لبذور قادمة.
كثيرة هي المقولات في التربية الصالحة. ولو بحثنا الانترنت، لوجدنا ما يفيض عن طلبنا في هذا المجال. لكن الميدان هو الذي يعلمنا، من خلال مسيرتنا التربوية والتعليمية.
من مقولات للعيادة النفسية الاجتماعية:
"الأفضل من الصعود إلى أعلى قمة في العالم، النزول إلى الواقع كي ترفع المجتمع."
وكيف يرتقي المجتمع إلا بأبنائه! وإعداد الفرد مسؤولية ليست بالسهلة، أو القليلة. فهي تقع على عاتق الأهل خلال السنوات الست الأولى، والمدرسة إضافة للأهل في السنوات الست اللاحقة، ومن ثم سبل الاطلاع الكثيفة المتاحة إضافة للأهل والمدرسة في السنوات الست التالية، حتى يصبح الفرد بسن الثامنة عشرة، وهو سن الاستقلال عن سلطة الأهل ودخول الجامعة، حاملا معه زاداً يختلف من شخص لآخر. وهنا مربط الفرس، كما يقولون.
في قول للإمام علي، (كرّم الله وجهه): "ربّوهم ست، وعلموهم ست، وصادقوهم ست."
أي قسّم هذه المراحل التربوية التي تعدّ الفرد للمجتمع إلى ثلاثة مراحل. وبناء على نظريات علم النفس، كان سن دخول المدرسة هو السادسة من العمر. يحمل الطفل كل مقولات أهله، وموروثهم، وطباعهم..
لنبدأ من السنوات الست الأولى، وباختصار.
فالطفل يربى كما الشجرة. نسيّج جذعها كيما يقوى، ونحصنه بما يمنحه قوة مواجهة الرياح، لكن نترك الأغصان حرة لتنتج أوراقها بحرّية، وبتغذية الجذع ومتانة الجذر، لتصبح شجرة مثمرة نستمتع بقطافها ثمرة تعب، وطيب جنىً.
*يمتلك البشر أربع طاقات تشكل اندماجاً للوصول إلى أداء متميز:
-الطاقة الروحية.
-الطاقة العاطفية.
-الطاقة العقلية.
-الطاقة الجسدية.
ولو دققنا في هذه المكونات لشخصية الفرد، لوجدنا أهمية إيلاء كل منها الانتباه كي تتوازن مع الأخرى، وتندمج لتشكل شخصية الطفل. فالطفل الذي ينشأ مشبعا بالروح والعاطفة، ويمتلك طاقة عقلية وجسدية سليمة، سوف يؤدي دورا سليماً عند بلوغه سن المدرسة. وهنا أعطي الأهمية للسنوات الست الأولى من عمره. فأي مسؤولية تقع على كاهل الأهل في هذه المرحلة !!!
*الإصغاء:
-هو من أهم سبل التواصل مع الطفل. عندما تصغي جيدا للطفل ولا تزجره، بسبب وبلا سبب، تعرف كيف يفكر، وماذا يريد. وهذا هو جوهر التواصل مع الأبناء، ( ذهن متفتح، عقل منفتح، عاطفة سخية) ولن يصدّق الأبناء حتى يشعرون بالأمان، وبجو من الثقة. معظمنا يربّي بفعل الأمر… وينسى أهمية المكوّن النفسي للطفل… فيريده كما هو شاء، لا كما يشاء الطفل استجابة لقدراته.
*لا تنكر نباهة ولدك، ولا تستهزئ بمشاعره أو شخصيته. قم بوصف تصرفاته، لا بوصف خصائص شخصيته .. استعمل التوجيه بدلا من النقد. صرّح عن المشكلة والحل الممكن لها. تعلّم أن تقول "لا" بأقل تسبب للأذية النفسية. وحاورهم فيما يمكن وما لا يمكن، وما له ضرورة، وما ليس له ضرورة. اسمح لهم بالاختيار، والتعبير عن آرائهم.
يزدهر الأولاد فقط حينما تخصب طرق التربية بالاحترام والتعاطف. فهذا النهج يكون حساسية أعمق للمشاعر، واستجابة أكبر للاحتياجات، في العلاقة التي تثير نوعا من التحدّي بين الأهل والأبناء.
فالتربية إذن تبدأ من إطلاق اسم للطفل…. ثم طريقة الأم في جعله منظما.. أو منضبطاً بتلبية احتياجاته الضرورية، وإعطائه الوقت الكافي لينعم بحنانها، وكذلك حنان الأب، وبثه هذه المشاعر مجتمعين، يكونان قدوة جميلة أمام عينيه. فيرقد هانئا، ويكبر مشبعا بالعواطف السليمة، غير محتاج ليبحث عنها في سن آخر، ومن مصادر أخرى. فالأهل هما القدوة الأولى، ومصدر دعم الطفل وتشجيعه للمحاولات المتكررة. عدم التركيز على فشله، وبالتالي إحباطه. فالطفل معرض للفشل، أو الخطأ، عدة مرات ومن ثم النجاح. في حالة الفشل أو الخطأ يجب عدم تأنيبه لدرجة الإساءة، أي شعوره بأنه سيء. وهنا لابد من اللجوء لأساليب أكثر جدوى، وذلك بالاطلاع على أساليب التربية الحديثة. وعند نجاحه بأية خطوة، مهما صغرت أمامك، بالنسبة له تكون إنجازا. فعلينا الاحتفاء به، وتشجيعه لتحقيق المزيد.
*يشير العالم الياباني كينيتشي فوكوي الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1981، إلى أن الأخطاء البحثية العديدة التي ارتكبها، جعلته يغير مسار أبحاثه حتى وصل إلى نتائج مبهرة جعلته ينال أعلى الجوائز العالمية.
من ناحية أخرى، دع الطفل يختار ألعابه، وكن فقط موجها لهذا الاختيار. لأنك من خلال اهتماماته بالألعاب تستنتج قدراته وميوله. وعندها عليك التركيز على تطوير ما يحب، وليس ما تحبه أنت أو تريده أن يكون. والاهتمام بلعبة الطفل المميزة بالنسبة له، هو اهتمام بشخصيته بشكل غير مباشر، وإعطائه قيمة لما يمتلك من مشاعر. تقبله كما هو، دون مقارنته مع غيره. لأنك عندما تقارنه بأي طفل آخر، أولا تسبب العداوة بينهما وثانيا أنت تتعامل مع كل الأطفال كنسخة مكررة، دون الاهتمام بخصوصية كل منهم.
ومن هنا تبدآ عملية فرز أفراد المجتمع، كل حسب قدراته العقلية والبدنية وهواياته وميوله.
مع بداية سن الدراسة، ودخول الطفل فعليا إلى المجال العملي الأول في حياته، تتوج ما قدمته لابنك في السنوات الأولى، طبعا معظم الأطفال دخلوا الرياض قبل المدرسة. وهناك تم تأهيلهم مبدئيا للانفصال عن الأهل. لكن مرحلة الرياض هي فقط لصقل شخصية الطفل بين أقرانه، وكذلك تعليمه المفاهيم الحياتية عن طريق اللعب، وتعويده على الاندماج خارج نطاق الأسرة. وهذا مطلب من دور الحضانة والرياض، التي انتشرت مؤخرا في بلادنا كظاهرة، في شكلها لمصلحة الطفل، لكن بممارستها الواقعية هي أبعد ما تكون عن التربية الصحيحة. فهمهم هو المكسب التجاري على حساب تربية وتنشئة الطفل بشكل سليم. ومن خلال ملاحظاتي في أكثر من روضة، في الميدان، وجدت كوارث تربوية. الطفل في حبيس كقن الدجاج، غالبا. المهم أنه " مضبوب " التعبير الدارج، في غياب أهله، أو حتى أحيانا تكون الأم غير عاملة، وتضع ابنها في روضة، على أمل أن تتكون وتتطور شخصيته بين أقرانه. وأحيانا لمجرد أن تستريح من صخبه ومتطلباته. لكن ما يحدث هنا غالبا هو التأثير السلبي على شخصيته، كونه لا يمارس حقه في اللعب، هذه الطريقة الأمثل لتعليمه مفاهيم حياتية بلا تلقين. بل تلجأ الكوادر الموجودة في الرياض، وغالبا غير مختصة، إلى القراءة والكتابة، كطريقة وحيدة للسيطرة على حركته، والمسطرة بيدها، من جهة أخرى. لا توفر حركة تخويف وهشٍ كما تهش القطيع. والنتيجة تصبح كارثية. كون الطفل قد انتقل من حضن أمه إلى سجن اسمه الروضة. وهو الشكل الأول للإحساس بعدم التمتع بالحرية.
ينتقل بعدها إلى السجن الأوسع، وهو ما سمي بالمدرسة… وهنا حديثي ذو شجون وقد يزعج الكثيرين، وربما يشجع الكثيرين بالمقابل على إبداء آرائهم بجرأة والمطالبة بحقوق أبنائهم في التعليم السليم.
في الصف الأول الابتدائي، يخضع الطفل لممارسات قمعية لتعليمه القراءة والكتابة. ويحمل معه كيسا من الواجبات المنزلية بدلا من سندويتشات الطعام التي زودته بها أمه كي يتغذى. ويعود بغذاء أهم لعقله وفكره. ما يفاجئ الأهل أن الكيس الذي فرغ من طعام الطفل قد امتلأ بواجبات تثقل كاهل وعقل الطفل، فلا يجد متسعا من الوقت للعب. وبذلك تبقى طاقاته الحركية المخزنة عبئا على نفسيته، بدون تفريغ، فيسعى لتفريغها بطرق غير سليمة. تنعكس سلبا على تقييم تصرفاته. فينعته الأهل والمحيطين، ربما بالفاشل، أو الفوضوي، أو المخرب، أو المشاكس المعاند لأهله، أو الرافض للمدرسة….. ترى أين مكمن الخطأ هنا؟؟ وعلى من تقع هذه المسؤولية؟؟؟
أسئلة مشروعة وهامة جداً، تطرح نفسها أمام الأهل الذين يتمنون لأولادهم التحصيل العلمي الأمثل.
أولا، من ناحية الأهل، هناك مسؤولية في طريقة توجيه الطفل للتعلم. فمعظمهم يفكر في العلامة التامة، على حساب المعلومة. وهذا هو لب المشكلة. دون الاكتراث بقدرات التلميذ، والفروقات الفردية بين الأطفال، وميولهم التي تميز كل منهم عن غيره. من ناحية نجد أن الأهل معذورون بطريقة تفكيرهم هذه. فمهوم المكانة الاجتماعية انطلق من درجة الشهادة التي يحملها الشخص، لا من نجاحه في أدائه في مختلف مجالات الحياة. وهي المعادلة التي استلمها تجار العلم، وسيطروا على عقول الأهل باستنزاف نقودهم في سبيل نيل العلامة التامة. نتعلّم كي نختزن زادا فكريا يرقى بنا. ولا يحدد هذا الزاد نوعية الشهادة التي نحملها، بمقدار ما نكون منسجمين مع العمل الذي نقوم به بموجب هذه الشهادة.
في منهاج اللغة الإنكليزية في الثمانينيات، كان الدرس الأول حول "مهنة المستقبل" فكرة طرحها مدرس اللغة الإنكليزية للنقاش. ماذا تحب أن تكون مهنتك المستقبلية؟ وليس، ماذا يفضل أهلك أو المجتمع أن تكون؟ بعد أن استغرب التلاميذ التغير في أسلوب مدرسهم الكلاسيكي إلى طريقة الحوار والنقاش، طلب منهم تقسيم الصف إلى أربع فئات: الياقات البيض… الياقات الزرق…. العمال…. عامة الناس من فئات خدمية…
وعندما وجد التلاميذ متسعا من الحرية لإبداء آرائهم، كانت النتائج مذهلة. تغيرت نظرتهم للمهنة المتاحة والتي تناسب قدراتهم، إلى المهنة التي تفرضها القيود المجتمعية والشروط العامة ورغبات الأهل على حساب قدراتهم وميولهم الشخصية.
وكذلك الشروط الاقتصادية وفرص العمل المتاحة لتحقيق الغاية من العلم، وهي توظيف القدرات في مكانها المناسب، وليس توظيف الأشخاص أيا كانوا ولأي مبرر كان، سواء الحاجة للعمل، أو استيعاب البشر في كونتونات عمل، تتراكم الموارد البشرية فيها على حساب الأداء الوظيفي. وأخطر هذه الظواهر، هو المجال التعليمي التربوي. هناك كم هائل من المدرسين الحائزين على المؤهل الجامعي بلا مؤهل تربوي. وهنا لا أقصد شهادة دبلوم التأهيل بالمعنى الوثائقي كشهادة. إنما هو إخضاع من يُقبَلون في وظيفة التدريس لدورات تدريبية جادة، ليكونوا أمينين على تحمل مسؤولية إعداد الجيل.
أعود لدور الأهل بالدرجة الأولى:
نرى الكثير من الأطفال خاضعين لتوصيف أهلهم لهم، ويتربون تحت هذا التوصيف، وكأنه لزاما عليهم. تقول الأم، أو حتى الأب، مثلا: أنا أريدك أن تصبح طبيباً. لاحظ ابن الجيران، أو ابن عمك، او ابن أي كان … لأنه دكتور عنده مال كثير والناس تحترمه وما إلى هنالك… من تفخيم لمكانة هذا الشخص. قد يكون التوصيف صحيحا، لكنه لا يناسب كل شخص. فليس كل طبيب ناجح مهنيا واقتصاديا واجتماعيا. وبالمقابل لو أصبح الكل أطباء، من يكون في المهن الأخرى!! ومن يكون المرضى…!! ولا أقصد بالتحديد مهنة الطب. بل مجرد مثال على التوصيفات الاجتماعية التي ترفع من شأن مهنة على حساب المهن الأخرى.
نعود إلى المدرسة، ونسلط الضوء على دور المدرس/المدرّسة، والذي يشكل خطورة أكبر. لأن الطفل يثق أو يتقبل كلامهم أكثر من الأهل. فنجد في ثناءات المعلمة مثلا على دفتر التلميذ:" أحسنت يا طبيب المستقبل…. ثابر يا دكتور …. وآخرها شكرا يا طيار المستقبل … و ربما يا شهيد المستقبل.." وما إلى هنالك من توصيفات تزرع في ذهن الطفل قيمة على حساب القيم الأخرى. من ناحية أخرى نجد مدرساً مثلا يتأفف من مهنته أمام تلامذته: " أتمنى أن لا تفكروا بمهنة التدريس المتعبة وغير ذات جدوى، بمعنى تمضون عمركم فقراء. أو يقول لا تتغابى مثلي وتصبح مدرسا تطحنك المهنة بلا جدوى…. " وهذه من أكثر التعليقات سلبية على نفسية الطفل. فمن كان قدوته غبيا أو سلبيا، لن يقوده إلى الطريق الصحيحة في خياراته أو في حياته. من ناحية أخرى، ثقافة المدرس التي تقتصر على دراسته الجامعية، ولا يثري طلابه بمعارف ثقافية تحثهم على البحث، وتشدهم للقراءة ينهلون منها غذاء لعقولهم بعيدا عن المناهج المدرسية المفروضة عليهم، والتي غالبا لا تفي بثقافة كافية لصقل شخصية التلميذ وتزوده بقدرات كافية لأداءٍ مميز مستقبلا. وهنا أقول الحديث عن المناهج له شجون أخرى ويحتاج لمحاضرة خاصة، أو ربما ندوات مكثفة وإسعافيه في ظروفنا الحالية، وذات بعد تربوي مسؤول.
أعود لأطراف التربية المعنية والأخطر ربما، لسوء استخدامها. وهي وسائل التواصل الاجتماعي، ومنتجات الحضارة الحديثة، والتي ناجت الغرائز قبل العقول. والسبب الرئيسي في ذلك هو التابوهات المتعددة بين الأطفال وأهلهم، والبعد في طريقة التفكير بين الأجيال. عدم تقبل جيل الأهل للحضارة، خوفا من تفتح ذهن الطفل، وبالتالي تكثر أسئلته، ويعجز الأهل عن السيطرة عليه، كون مفهوم التربية عندهم هو بقبضة اليد على مفاتيح حياته، بدلا من أن تكون منتجة لقدراته ومحفزة وموجهة لرغباته.
من خلال الأجهزة الحديثة تفتحت مدارك الأطفال، واتسعت رؤيتهم للحياة، وأصبحت تساؤلاتهم أعقد، وغالبا ما تفوق قدرات الأهل أو حتى المدرسين، فيجدون الإجابات عبر الإنترنت. هذا العالم الحديث الذي فرض نفسه في كل بيت ولدى كل طفل. فما هي الطريقة الأمثل للتعامل معه، كي لا يشكل خطورة على الأطفال ومستقبلهم؟
من هنا أبدأ.. رغم أن مداخلتي في نهايتها… توجيه الطفل لاستخدام هذه الوسائل بدلا من منعه. ومشاركته الرأي بما يحاول أن ينقل لك عبر هذا العالم الساحر، بدلا من رفضه… اقتراح نشاطات مشتركة بين الأهل والطفل عبر هذه الشاشة الساحرة. مثلا، اطلب من ابنك أن يعلمك كيفية الاستخدام ولا تخجل … اسأله أن يبحث عن فكرة تناقشوها معا لتجدوا الحكم بينكما من مصادر عبر الإنترنت… صادقه على الفيسبوك بلا رقابة واضحة تجعله يخفي عنك، بل توجيه بمعنى التحبب والإطراء على أشياء قد يحبها، حتى لو لم ترق لك…. قلل من المحرّمات وناقش معه كل أمر بروح رياضية، وبلغة يتقبلها ويفهما، وليس بفعل الأمر. ارفده بمواقع وأفلام هادفة حسب فئته العمرية. وهنا أترك باب النقاش مفتوحا معكم كوني لا أريد أن استأثر برأيي. قد أكون على خطأ… جاهزة للمناقشة… وآسفة للإطالة.. لكنه أمر يستحق ندوات وليس لقاء واحد … وشكرا لحسن متابعتكم، وتقبلكم ما أوردت. هي وجهة نظر بعد 35 عاما من العمل في هذا المجال.
————————————————————————————————————————
*وردتني التساؤلات التالية عبر صفحة الفيسبوك عندما طرحت فكرة المحاضرة للنقاش، وقد لا يستطيع أصحابها الحضور لأسباب متعددة، كل حسب ظرفه:
*د. سلمان محمد: صحيح مهم كتير عدد المدارس بالبلد لكن الأهم ماذا تدرّس في مناهجها …
من أين وكيف "نبَقَت" في وجوهنا هذه الأجيال الوهّابية التكفيرية في سورية ؟
التربية أهم من التعليم , مدارسنا مازالت تعلّم القراءة والكتابة، لكنّها فشلت في تربية الشباب السوري تربية مدنية وطنية صحيحة …..
-أقول نعم. المناهج لدينا قاصرة عن التربية الوطنية الصحيحة.. وذكرت في مداخلتي أن هذا يحتاج لندوات مسؤولة وأكثر تخصصا. وقد أتطرق لهذا الموضوع، ضمن حدود إمكانياتي، في لقائي المفترض أن يكون في 18/12 في المركز الثقافي في طرطوس الساعة الخامسة مساء.
*المدرسة ريما عباس: المراهقة وكيفية تعامل الاهل مع الابناء في هذه المرحلة من جميع النواحي..
وتعامل المدرس مع الطلاب المشاغبين او المستفزين.
-أولا المراهق يحتاج لصديق. الأب صديق للإبن والأم صديقة للبنت… معالجة مشاكلهم بالحوار وليس بالفرض مطلقا. المراهق يعتدّ بشبابه وعنفوانه يصم أذنيه عن فعل الأمر. لذلك الأولى أن يكون معدا منذ السنوات الست الأولى لأن يمارس نشاطا معينا أو موهبة يحبها، وإشراكه في نوادي هادفة كالكشافة وهيئات المجتمع المدني الإنساني إن توفرت. أيضا يمكن أن نشاركه الرأي في أمور المنزل والأسرة الخاصة بين الأب والأم والأخوة الأصغر أو حتى الأكبر منه. بحيث يشعر بقيمة رأيه ومشاركته. بمكن أن نستجيب لرغبته في فسحة معينة أو نزهة عائلية مشتركة حتى لو لم نحبها.. ونقبل رفضه لزيارة أشخاص معينين، قد يكون الأمر لمجرد الرفض وهو نوع من إثبات الذات. نناقشه فيه في ظرف نفسي مناسب. لا نلحّ على أمر يرفضه بعنف، بل ننتظر هدوء ثورانه ونناقش الأمر معه.
أما الشق الثاني من الاستفسار، فهو يقع في نفس الخانة لكن بمنظور آخر. أشغلي التلميذ بشيئ محبب أو مسلي، كأن يساعدك في تحضير أشياء الدرس أو السبورة أو قد يمتلك مهارة معينة لا تتقاطع مع معايير الجودة والسلبية الكلاسيكية المألوفة. قد يجيد الرسم أو الحركة. دور المدرس هنا اكتشاف مالدى الطفل، وما هو سبب شغبه والعمل على ذلك. لذلك ورد في مداخلتي ثقافة المدرس أهم من شهادته، وخاصة اطلاعه على علم النفس.
*سامر سعيد: ما مدى اهمية دور المدرس والاهل في تقوية وتحفيز واستحضار الطاقة الايجابية عند الطالب في جميع المراحل الدراسية؟؟
-في جميع المراحل الدراسية، يحتاج الطفل إلى اهتمام بما يمتلك، وليس فقط مانرغب أن يؤدي. فيختلف أداء كل طفل أو تلميذ عن الآخر.. ونحن نقودهم بنفس العصا إن صح التعبير
*ما مدى اهمية معرفة المدرس والاهل بالميول العلمية والفنية والادبية عند الطالب وتسييرها ودعمها.؟؟
-من خلال اللعب في طفولته والتعليم عن طريق اللعب واختياره لألعابه نكتشف ميوله وقدراته ونعمل عليها.
*ما اسباب الفشل والتدني الفكري و الاخلاقي والسلوكي عند معظم الابناء والطلاب والطالبات في جميع الاعمار ؟
-هو التدني في مستوى الإعطاء وطريقته لهؤلاء الأبناء أو الطلبة، بسبب التدني العام للشعور بالمسؤولية تجاههم. فلا ندرك خطورة ذلك إلا بعد فوات الأوان. كنت قد ركزت على التربية في السنوات الست الأولى، ومدى أهميتها على البناء الأمثل لشخصية الطفل أو الطالب من كل النواحي، الفكرية والسلوكية والأخلاقية.
*المهندسة سلام حمود: دفع اﻷبناء الى الحياة وهم واقفون …. صرف اﻷموال على بناء عقولهم لا على ميراثهم ..
-نعم ….. كثيرون هم من يعتبرون أن مايورثونه لأبنائهم من بيوت وعقارات قد تحميهم من الحاجة مستقبلا، وغالبا ما يكون ذلك على حساب التفرغ لتربيتهم وتأهيلهم بشكل يجعلهم قادرون على قيادة حياتهم ومستقبلهم بأنفسهم.
بقلم المربية الشاعرة لبانة الجندي