
راحلون في الذاكرة
يذهب بعض المهتمين بحياة الأعلام الجزائرية ، الذين قصدوا المشرق العربي ، إلى التركيز على فترات زامنت الوجود الفرنسي بالجزائر ، ويربطونها بواقع مؤلم ألم بشعب هذا البلد ، وفعلا هذه الحقبة الاستعمارية اضطرت عائلات كثيرة إلى شد الرحال نحو المشرق ، خصوصا مصر ،الشام ،الحجاز ، بغداد ، واستقبل الشام حسب إطلاعي أعداد هائلة ، لا تقارن بجهات أخرى من البلدان العربية ، وهناك حقيقة يجب جهرها للأجيال الصاعدة ، وأخص بالذكر خريجي الجامعات ليتناولوا الموضوع في مذكرات تخرجهم ، لما يحمله من أهمية تاريخية وعلمية واجتماعية ، تبرز طبيعة العلاقة بين الشعبين الجزائري والسوري ، التي كانت في مجملها أخذ وعطاء في كل الميادين ،منذ فجر الإسلام وقبله أيضا ، كما نؤكد بالمناسبة أن الهجرة من المغرب إلى المشرق ليست حديثة كما يظنها البعض ، فهي قديمة تعود إلى أزمنة بعيدة جدا ، سنحاول الوقوف على محطات منها مستقبلا من خلال ما ننشره على موقع نفحات القلم " ركن راحلون في الذاكرة " كل أسبوع ، وفي الوقت ذاته نركز على الهجرات التي انطلقت من الجزائر نحو الشام في كل الأزمنة ، أملين التوفيق في مسعانا هذا .


العفيف التلمساني 610 ه – 690 ه
أشهر علماء الصوفية بالجزائر… قصد المشرق العربي
( مصر والشام )
عفيف الدين التلمساني ، والد "الشاب الظريف " ، اختلف الدارسون لحياته في تحديد تاريخ ميلاده ، أورده الباحث مصطفى مجاهدي من مركز الأبحاث الأنثربولوجية والاجتماعية الثقافية بوهران الجزائرية ، حوالي 610ه ، وأكده الدكتور يوسف زيدان ، الكاتب والباحث المتخصص في التراث العربي والمخطوطات، ب 610 ه ، وذكر تاريخ وفاته باليوم والشهر والسنة الذي هو 05 رجب ¬¬690 ه ، اسمه الكامل هو : أبو الربيع عفيف الدين سليمان بن علي بن عبد الله ابن علي بن ياسين العابدي التلمساني ، نسبة لمدينة تلمسان بالغرب الجزائري ولها تاريخ عريق ، كما ينسب تارة إلى "الكومية " ، القبيلة الأمازيغية التي ينتمي إليها ، وهو ما ذهب إليه مصطفى مجاهدي إذ يقول ، لقبه العابدي نسبة لمكان مولده ، أين يوجد ضريح الولي الصالح أبي مدين الشعيب ، أما الكومي فتلك نسبة إلى قبيلة الكومية التي ينحدر منها أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ، وهي إحدى فروع قبيلة الزناتة الأمازيغية ، وتقع بالقرب من مدينة تلمسان منازلها بساحل البحر المتوسط ، أخذ علومه الأولى ببلدته وفيها كان صوفيا ، ثم سفر إلى المشرق العربي وتعرف على كبار المتصوفين ، قال عنه القاضي شهاب الدين بن الفضل ، لم يأت إلا بما خف على القلوب وبريء من العيوب ، وبمحطته الأولى بمصر التقى شيخه صدر الدين القونوى ، وكان لهذا اللقاء ثماره في علم التصوف والفقه والفلسفة وعلم الكلام ، ومنه عرف ابن العربي الذي مع أنه لم يلتقي به ، فتوطدت العلاقة بينه وبين شيخه ابن القونوى ، إذ لازمه طويلا وأخذ من تصوفه الكثير ، وصاحبه في رحلات عديدة ، كما التقى العفيف بمصر أيضا بالصوفي الأندلسي محمد عبد الحق بن سبعين ، واجتمع به رفقة شيخه ، ولما سئل بن سبعين عن زائريه ،قال عن القونوى أنه من المحققين ، ومعه شاب أحذق منه وهو عفيف الدين التلمساني .
وبمصر طاب المقام حين من الدهر ، إلى أن رزق بمولود في العاشر من جمادي الثاني سنة 661 ه، سماه شمس الدين محمد ، ثم توجه إلى دمشق ليتولى منصب تحصيل رسوم الخزانة ، ونال الناس من علمه وفضله وزهده ، واشتهر كواحد من أهل الصوفية يقول عنه ابن شاكر ، كان حسن العشرة كريم الأخلاق له حرمة ووجاهة ، في حين نشأ الشاب الظريف بهذه الديار الطيبة عزيزا مكرما ، أنشد هو أيضا أشعاره ، نال محبة الناس وقيل فيه الكثير من معاصريه ، من أشعاره :
للعاشقين بأحكام الغرام رضا فلا نكن في الهوى بالعدل معترضا
روحي الفداء لأحبابي وان نقضوا عهد الوفي الذي للعهد ما نقضا
قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا
رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا فرام صبرا فاعيا نيله فقضى
فقد العفيف ابنه الظريف في 688 ه ، وهو في 27 من العمر ، رحل ذالك الشاب الذي ملآ الحياة حوله بهجة ، ورثاه الأب وأخا له اسمه محمد أيضا ، ويبدوا من خلال هذه الأشعار أنه جد متأثر ، إذا نجد يجمع كل الأحزان التي ألمت به في هذه الأبيات :
مالي بفقد المحمدين يد مضى أخي ثم بعده الولد
يا مار قلبي وأين قلبي أو يا كبدي لو يكون لي الكبد
يا بائع الموت مشتريه أنا فالصبر مالا يصاب والجلد
أين البنان التي إذا كتبت وعاين الناس من خطها سجدوا
أين الثنايا التي إذا ابتسمت أو نطقت لاح لؤلؤ نضد
ما فقدتك الإخوان يا ولدي وإنما شمس أنسهم فقدوا
محمد يا محمد عددا وما لما ليس ينتهي عدد
وللعفيف ما لمعاصريه من الصوفية ، إنتاج غزير لا يمكن حصره في هذه المساحة ، وهم الذين وهبوا حياتهم للعمل والزهد والرفق بالناس وخدمتهم ، لذلك اتسم تراثهم بالغزارة وملأ رفوف المكتبات في كل الأزمنة ، فإذا اعتبرنا حياة الشاب الظريف قصيرة جدا ، لم ينفذه إلى علوم التصوف ، فان للعفيف الأب ما يجعله بين الأجيال حيا يذكر اسمه في كل زمان ، وهو الذي كان شغوف بالنصوص الصوفية ، من أثاره " ديوان شعر مخطوط بدار الكتب الظاهرية بدمشق ، " حققه ودرسه الدكتور يوسف زيدان ، شرح النصوص لابن عربي ، وشرح المواقف للنفري ، وشرح منازل السائرين ، والكشف والبيان في علم معرفة الإنسان ، وشرح عينية ابن سينا ، وكتاب في العروض مخطوط ، انتقل إلى جوار ربه في الخامس رجب 690ه ، سنتين بعد ولده الشاب الظريف
.
المراجع :
– عادل نويهض – معجم أعلام الجزائر – مؤسسة نويهض الثقافية للتأليف والترجمة والنشر – بيروت 1980م
– الدكتور يوسف زيدان – ديوان عفيف الدين التلمساني – دار الشروق – مصر 2008م
– مصطفى مجاهدي – مجلة حوليات التراث – مركز الأبحاث الأنثربولوجية وهران -2010م
– أبو القاسم محمد الحفناوي – تعريف الخلف بالسلف – موفم للنشر الجزائر – 1991م
– الدكتور بوزياني الدراجي – أدباء شعراء من تلمسان – مؤسسة دار الأمل الجزائر – 2011م
– الدكتور سعد بوفلاقة – أوراق تلمسانية – منشورات بونة للبحوث والدراسات عنابة الجزائر 2011م
– الدكتور التجيني بن عيسى – معجم أعلام تلمسان – دار كنوز للنشر والتوزيع تلمسان الجزائر –2011م