
فهم العلاقة بين المسيحية والإسلام ينطلق من عدة مبادئ وكذلك كلمة التعايش والعيش المشترك وغيرها من المصطلحات التي يتم تداولها مؤخراً قد لا يعيها البعض ولتسليط الضوء على هذه القضية وسواها كان لنا هذا الحوار مع المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي الجمهورية العربية السورية :
س: سورية بلد التعايش الطائفي من الطراز الرفيع، كيف يمكن لنا أن نصل إلى هذه المرتبة من التعايش في منطقة أقل ما يقال عنها إنها مشتعلة طائفياً؟
ج: أولاً: يجب فهم العلاقة بين المسيحيين والمسلمين انطلاقاً من مبدأين: فمن جهة أولى، بصفتنا مواطنين في بلد واحد ووطن واحد، نشترك معاً في اللغة نفسها والثقافة نفسها، وكذلك في أفراح وأحزان بلادنا. ومن جهة ثانية، فنحن مسيحيون في مجتمعاتنا ومن أجل مجتمعاتنا.
ثانياً: اسمح لي أن أرفض كلمة التعايش، لأن التعايش في السياسة هي حالة لا اعتداء، وهي كلمة لا تُعبر عن الواقع الفعلي الذي نحياه في سورية بشكل خاص، فالمواطن العربي السوري – بشكل عام -لا يَنظر مطلقاً إلى اختلافات أخيه المواطن من الناحية الدينية، (ولا شك في أن المُشتَرَك والاختلاف الديني أمران مهمان جداً)، إلا أن ما يُنظر إليه هو مدى صلاحيته للوطن وللمجتمع بشكل عام وللآخرين بشكل خاص.
لقد بدأت شعارات "التعايش"، و"العيش المشترك" و"العيش معاً"، و"العيش الواحد" تنطلق -خصوصاً خلال الأزمة السورية – مع الدعوة إلى محاربة الطائفية على أشكالها المختلفة، لاسيما السياسية المجتمعية منها.
في سورية، الوضع مختلف، فنحن لا نتعايش أو نتسامح أو غيرها من الكلمات، إننا نحيا، وهي الكلمة الوحيدة التي نفهمها، سواء كنا مسلمين أو مسيحيين أو غيرهم إن وُجد، إننا نفهم كلمة الحياة وليس العيش، والأخوة وليس الرفقة، والانصهار وليس الاختلاط، وعندما ترى شعباً بهذه الصفات فلا تسأله عن انتمائه الديني أو المذهبي أو الطائفي، لأنك تُصغِر من شأنه.
والشعب العربي السوري هو عربي قبل أي انتماء سياسي آخر.
في سورية لا تستغرب أن يتم التحدث حول أشياء يتم الحديث عنها في العالم، ويتم عقد المؤتمرات والندوات وأخذ الصور الجذابة لشيخ مسلم يُقبِل رجل دين مسيحي، وينادي هذا العالم لتعميمها، والمواطن السوري يقف مشدوهاً من كل هذا، لأنهم – باعتقاده – يريدون أن يعيدوه إلى الوراء، إلى مراحل تجاوزها هو بكثير، بحجة التعايش.
ولأستطيع إيضاح فكرتي، سأنقل إليكم مقطعاً من كتاب فضيلة الشيخ د. محمود عكام مفتي حلب في تهنئته للأساقفة بمناسبة أحد أعياد الميلاد الماضي إذ يقول في المقطع الأخير: "ولنتعاهد على الوفاء لقيمنا ووطنِنا وتراثِنا وإنسانِنا في كل الأرض لأن الإنسان – في النهاية – هو غايتنا، فلنرحمه ولنصُن دمَه وعرضَه وكرامتَه".
لأجل ذلك نحن في سورية عندما نضع الإنسان كغاية مثلى، لا نعود نسأل هل هو إنسان مسلمٌ أو مسيحيٌ أو من طائفة أخرى؟ ولا نتكلم بعدها عن التعايش بل عن الحياة.
س: ما هي خصوصية أن يكون مستشار المفتي العام مسيحياً … كيف تفسر وترى هذا الأمر؟ وماهي المنغصات التي تلقاها؟
ج: إن بعض الباحثين غذوا فكرة أن الإسلام دين لا يمكن أن يتكيف مع معطيات العصر ولا أن يقبل التعايش مع الحداثة والديمقراطية، لذلك فإن دور العرب المسيحيين أن يدلوا بشهادة عن حياتهم على هذه الأرض المعطاء بجانب إخوتهم، وهذه الشهادة يجب أن تضع الأمور في سياقها الطبيعي، لا أن تُجامل أو تُخفي الحقائق.
وأنا كمسيحي شرقي أعيش في مجتمع غالبيته مسلمة، رأيت من الواجب أن أقول شهادتي، إضافة إلى ما أعلمه عن حقيقة الإسلام، خاصة أنني – أنا المسيحي – كنت سابقاً – كما حالياً – أقوم بحضور دروس إسلامية في المساجد أو أماكن أخرى، لأنني مقتنع تماماً أن هناك طريقة واحدة لفهم الإسلام بشكل صحيح، هي أن تعرفه كما يعرفه المسلمون.
ولأن الشرائع السماوية (ومنها الشريعة الإسلامية والشريعة المسيحية) تنبع من معين واحد مصدره الوحي الإلهي، وهو دين إبراهيم عليه السلام وتهدف إلى تحقيق غاية واحدة هي تكريم هذا الإنسان المستخلف في الأرض، رأيت أن وجودي القريب من سماحة مفتي سورية يساهم في إضافة لَبِنة صغيرة في بناء الحياة المشتركة في سورية، وأستطيع القول مؤكداً: إن وجودي كمستشار مسيحي مقرب من المفتي العام للجمهورية يتم النظر إليه بعين الرضا من قبل المرجعيات السياسية العليا والمرجعيات الدينية المثقفة، وأحب أن أضيف: إنني لا أرى نفسي غريباً أو حَرْفاً غير ذي أهمية في وجودي بالقرب من مرجعية إسلامية مهمة، إلا أن وجود بعض الأشخاص الذين لا يستوعبون ذلك ولا يعرفون أن النبي محمد (ص) قد أدخل بيته مسيحية ويهودية وصارتا من أمهات المؤمنين، هم الذين لا يستوعبون ما قام به سماحة المفتي، وهؤلاء أشكر الله أنهم مجموعة قليلة في مجتمعنا السوري.
س: إننا نقرأ كثيراً عن مدى التفهم والمسامحة والمقدرة على الاستيعاب لدى سماحة المفتي، وأنت من المقربين إليه، كيف يمكن أن تصفه لنا؟
ج: الوصف هو وصف للمواطن السوري، لأن سماحة المفتي العام لسورية الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون، سألوه مرة عن عدد الذين يتكلمون ويحملون أفكاره في سورية فأجاب: إن عددهم بعدد سكان سورية، وأضاف: "لقد تعلمت من الذين هم أكبر مني، وأقسم إنني سأنقل هذه الأفكار إلى من هم أصغر مني، فيكون العدد بعدد سكان سورية".
لا شك في أن شهادتي به شخصياً "مجروحة" وخطبه تلاقي قبولاً إيجابياً عالمياً، وهذه الخطب تنحو منحيين اثنين، الأول هو إظهار الصورة الحقيقية للإسلام بسموه وعظمته مقابل ما نسمع عن الصورة الضبابية – إن لم أقل – المؤسفة التي ألبستها إياه أفعال من يدعون الانتماء إلى هذا الدين الحنيف وهو براء منهم، إنهم مسلمون بالاسم "قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا".
أما المنحى الثاني فهو المساهمة في إظهار سورية النقية رئيساً وشعباً، الشامخة بتواضع، والمؤمنة بتسليمٍ، الذاهبة إلى المستقبل من خلال ماضيها العظيم، المُساهِمة في بناء الحضارة الإنسانية من خلال لَبِنَة عراقتها.
س: هل هناك تصور حقيقي وفعلي لكلمة علمانية من قبلكم، أي هل ترونها مجرد فصل للدين عن الدولة أم أن لها ذيولاً ذات أبعاد تنبع من الإلحاد؟
ج: إن العلمانية كمفهوم سياسي تقوم على عدم الخلط بين المجتمع السياسي والمجتمع الديني فالدولة العلمانية دولة حيادية إزاء القيم الدينية ومستقلة عن جميع رجال الدين، أما علمنة مجتمع معين فتعني تنظيم العلاقات مع الدولة دون أي اعتبار للانتماء الديني.
ينادي سماحة المفتي العام لسورية بالعلمانية المؤمنة، ويرى أن المجتمع العلماني ليس مجتمعاً مناهضاً للدين ولمفاهيمه وقيمه، بل هو مناهض لخلط الدين في السياسة وفي حياكة شبكة العلاقات الاجتماعية والقيم التي تؤسسها، ولا يرى ضرورة الهيمنة الدينية على الدولة، بقدر ما يريد أنسَنَة السياسة كما فعل النبي محمد (ص) في وثيقة المدينة المنورة.
س: نحن كمواطنين نريد أن نحمي الدين من أي مجال آخر وخصوصاً السياسة ونرى أن التجربة السورية رائدة، لمَ برأيك لا يتم تعميمها ونحن نرى هذا الاقتتال الطائفي السياسي في دول الجوار؟
ج: لا شك في أنه بعد أحداث 11 أيلول 2001، عادت إلى الظهور في العالم كله فكرة قديمة كانت جهات كثيرة تحاول إبرازها، ألا وهي ربط الإسلام بالإرهاب، ومحاولة إبراز اضطهاد الإسلام للأقليات التي تعيش في المجتمعات التي يسيطر عليها الإسلام.
ولا شك في أن السياسة كما استخدمت النظريات التطورية السابقة لتحقيق مصالحها في الصراعات السابقة، فإنها اليوم تحاول استخدام الدين بمختلف تياراته لتحقيق مصالحها الصراعية في الكرة الأرضية، وهو ما نراه اليوم في الكثير من الدول العربية والأجنبية، وللأسف كانت سورية أيضاً ضحية كبيرة، إلا أنه يجب توضيح أن الصراع اليوم ليس بين الأديان بقدر ما هو بين الأقوياء والمستضعفين في الأرض، بين الأغنياء والفقراء، وبمقدار ما يتأخر حل المشاكل الكبرى الناجمة عن اختلال التوازن بين الشعوب الفقيرة والشعوب الغنية وإيجاد حل مقبول، سنظل نشهد استمرار أشكال العنف والإرهاب التي تصدر عن بيئة الفقراء آخذة شكل صراعات دينية ثبت أن من السهل إشعالها.
س: كلمة أخيرة تقولها للمواطن السوري والعربي في آن واحد.
ج: لست أنا من سيقول، إنها أرض سورية الجريحة التي تتكلم بحضارتها، التي تتجاوز آلاف السنين، بأطياف آدميتها وروحها السامية، بقرآنها وإنجيلها وتوراتها، وكل أطياف وخصائص شعبها.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"
"كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ"
صدق الله العظيم
والسلام عليكم ورحمة من لدنه وبركاته
اللهم اشهد إني بلغت.