(إلـى أمّــي..).
الشاعر أيمن معروف
أعرفُ النّجمةَ.
أعرفُ النّجمةَ كما لو أنّها أمّي.
عندما تغيب أبكي، وعندما تجيء يضحكُ القلبُ كالينابيع.
أعرفُ النجمة،
وأعرف أنّها تبتسمُ الآنَ لي وأنَّ ابتسامتَها الّتي لا تغيبُ تشبهُ ابتسامةَ أُمّي. وكلّما يحينُ المساءُ أجلسُ على عتبةِ البابِ وأحدّقُ في صفاءِ السماءِ فأشعرُ أنّ روحي تُحلّقُ في فضاءِ الغيمِ كالأساطير وأيّامي تطيرُ في الزمان كالعصافير.
أشعرُ وأنا جالسٌ هناكَ تحت ضوءِ القمر أنّي نجمةٌ. نجمةٌ صغيرةٌ هبطتْ ذاتَ يومٍ إلى الأرضِ وحطّتْ على عتبةِ البيتِ.
أعرفُ، أيّتُها النّجمةُ، أنّكِ حبيبتي، وأنّكِ مازلتِ تضحكينَ في سمائِكِ لي وتُضيئينَ منْ أجلي، وأنّكِ ذاتَ مساءٍ ستتركينَ قبَّةَ السّماءِ وتهبطينَ إلى مدارِج حلُمي على الأرضِ. ترفرفينَ على شرفةِ البيتِ وتُهدهدينَ سريرَ نومي وتعبثينَ بألعابي وأهدابي وشراشفي. أعرفُ أنّكِ سوف تحملينَ لي كميّةً منَ (الحكايا) وبعضَ الأساطيرِ عن الضّوءِ والمرايا ولَعِبِ النّجوم، وأنّنا سوف نسهرُ حتّى اتّقادِ الندى في الصّباح. أعرفُ..، قد تعتبُ أمّي، أيّتُها النّجمةُ، وتغضبُ منْ سهري المتأخّرِ، لكنّها ستكونُ جِدَّ مسرورةٍ عندما تعرفُ أنّكِ كنتِ تسهرينَ في بيتِنا، البارحة.
♧♧
أمّي، الّتي كانتْ مثلكِ نجمةً، كذلكَ. جاءتْ بعبقريّةِ الضّوءِ ونكهةِ البياضِ وولدتني هنا، نجمةً صغيرةً في المكان. أمّي، الّتي مثلكِ، أيّتُها النّجمةُ، أومأتْ للسنونوة الّتي تُعَشِّشُ في زاويةِ البيتِ أنْ تهبطَ وتُعلّمَني لثغةَ الطّيورِ. كنتُ ألثغُ كالسّنونو.. سنونوةً صغيرةً في مهادِ البياضِ. كنتُ نجمةً.. نجمةً صغيرةً ولدتني أمّي على حافَّةِ الضّوءِ، أَتعلّمُ لغةَ السّنا وأُكدِّسُ فضَّةَ الكلامِ الّذي في النّدى وأبعثُهما للبعيدِ.. البعيدِ.. مع رسائلِ المطر.
أمّي، الّتي كانتْ نجمةً. نجمةً مثلكِ تُضيءُ الممرّاتِ في عتمةِ البيتِ. تُضيءُ الفوانيسَ والمزهريّةَ في اللّيلِ في لمسةٍ منْ حنانِ يدَيْها. تُضيءُ النّدى فينبجسُ الماءُ في سردِهِ وتفيضُ الينابيعُ. أمّي، الّتي كانتْ نجمةً. علّمتني كيف يبتسمُ العشبُ وكيف تمرُّ الفراشاتُ من شرفتي. كيفَ أُصلّي لكينونةِ الماءِ وصيرورةِ الضّوءِ. علّمتني كيفَ يكونُ الفتى نجمةً وكيفَ يُنيرُ الفتى سيرةَ النّهرِ وكيف تصيرُ النّجومُ بنات الأساطيرِ في شجرة الحروف.
♧♧
أحلمُ، أيّتُها النّجمةُ، أنْ أظلَّ الصّبيَّ الشقيّ الّذي يداعبُ هُدْبَ عينيكِ ويلعبُ بالقبس. أحلمُ أنْ أظلَّ شاهداً على شَغَبِ النّجومِ والضّوءِ والعشبِ. أنْ يظلَّ قلبي مبلّلاً بالفضّةِ والزعفرانِ كمنديلِ أمّي، وأنْ أظلَّ شقيّاً يتخبّطُ بابتساماتِ النّجوم. طائراً يحلمُ بالسفرِ إلى جنونِ غاباتِكِ تائهاً في ظلالِ مراياكِ ومشرّداً في أبهاءِ صورتِكِ. أنْ أظلَّ، أيّتُها الصّغيرةُ، في حضرةِ الضّوءِ. أحلمُ أنْ أرى نورَ عينيكِ عند الحوافِ البعيدةِ يأخذني في كرومِ النّجوم.
أحلمُ أيّتُها النَجمةُ، أنْ تكوني معي في الصّباحِ. نهبطُ في الوادي البعيدِ.. البعيدِ..، ونمضي في دروبِ الحصا نُقلقُ أحراشَ البراري. نغتسل بمياهِ النّهرِ ونفتِّش عنْ أعشاشِ العصافيرِ. أحلمُ أنْ نمرَّ معاً على أسطحةِ القشِّ ومصاطبِ الطّين ونقفزَ في الحواكيرِ بين حقولِ الذُرا وبيادرِ القمحِ، ونضحك. نضحكُ ونحنُ نمسكُ الشّمسَ منْ أقراطِها، ونضعُها على حافَّةِ النّبعِ، ثمّ نُبَلِّلُها بالماءِ ونغفو قربَها منَ التعبِ، فنرى الخرافَ وهي تركضُ في نومِنا، كالذهب.
♧♧
أعرفُ النّجمةَ، كما لو أنّها وجهُ أمّي.
أنا الّذي عشتُ، -كما تقولُ الحكايةُ-، بين التماعِ النّدى وانثيالِ البياضِ على شرفتي. كنتُ أرى كومةَ الضّوءِ من كثرةِ المعنى تصيرُ نجوماً. وكنتُ أرى نجمتي وأرى الكونَ في لجَّةِ الضّوءِ يجتاحُ أغنيتي، أنا الشَّقيُّ الصّبيُّ صديقُ النّجمةِ، أحلمُ أنْ تكونَ الأرضُ هادئةً مثل وجهِ أُمّي، الّذي يشبهُ الضّوءَ- ضوءَكِ.