محمد عزوز
قصص مجموعة ( جدراني أولى )
الصادرة في دمشق 2018
( 22 )
أولاد الحرام
أفقت على أصوات همهمة غير معتادة ، كانت تتكرر برتابة مميزة :
– همـ … مـ ……… مـه..
أزحت ستارة النافذة الوحيدة للغرفة التي كنت أنام فيها ، فركت عيني لأزيل غشاوة النوم عنهما ، واستطعت أخيراً أن أعرف أن هذه الهمهمة صادرة عن زيدان ..
لم ينتبه إلي ، بل تابع سيره بخطوات غير متزنة مولياً ظهره لاتجاه سيره ، يلتفت على حين غرة ، يمد إحدى ذراعيه على اتساعها ، فيبدو وكأنه يشير إلى شيء ما بعيد عنه ، أو لربما كان يقلد حركة التصويب لبندقية متخيلة مكان ذراعه الممدودة ..
دفعني فضولي لمتابعة المشهد ، فقد حدثتني والدتي غير مرة عن هذا الرجل الذي يكبرني بأعوام قليلة ، وقد اختل شيء ما في عقله فترك دكانه ، وصار يجوب أزقة البلدة القديمة
يصوب بندقيته المزعومة ويسير نحو الوراء ، يتوقف أحياناً كي يحادث هذا أو ذاك ، ويطلب لفافة تبغ من عابر ، وقد يطيب له الجلوس على عتبة أحد المنازل فلا يعارضه في ذلك أحد من أصحاب البيت ..
وعلى طرف الخرابة المتاخمة للبيت جلس ، كنت أراه وأسمع حواراً لا أعرف طرفه الآخر ، فدفعني فضولي المتنامي لترك فراشي والذهاب إليه ..
– كيف حالك يا زيدان ..؟
– الله يسلمك ..
– عرفتني ..؟
– كيف ..؟ أنت أبو عزوز ..!
طمأنتني ذاكرته ، فقد عرفني رغم أنه لم يرني منذ ما ينوف على الثلاثين عاماً ، ودفعتني للغوص في حوار معه ..
لم أكن أحتاج إلى ذريعة للبداية ، لأنه لم يكن بحاجة إلى تحريض كيما يتكلم ..
قدم لي إحدى السجائر التي جمعها من العابرين ، فشكرته قاطعاً عليه طريق الإلحاح :
– أنا لا أدخن ..
أشعل لفافته وبدأ يمج دخانها بلا رغبة ..
– كان عندي دكان ..
– أعرف .. لماذا تركتها ..؟
– أولاد الحرام ..!!
– ماذا فعلوا بك حتى تتركها ..؟
– فعلوا الكثير .. أنا الآن أتسلى بقطعة الأرض التي أملكها بجوار القلعة ، أنظفها من الحجارة .. والأشواك .. أرعى شجيراتها
كان يحادثني كعاقل متزن ..
– إثنا عشر ألفاً .. ضاعت مني
– كيف ..؟
– لا أعرف .. ضاعت .. سرقت .. قلت لك أولاد الحرام ..
– لماذا لا تشتكي عليهم إن كنت تعرفهم ..؟
سخر مني بنظراته ، ولم يجب ..
وجدت لنفسي مكاناً مناسباً قبالته ، جلست .. ارتاح لجلوسي وطبيعة حديثي ..
– ابن الحرام طلقها .. هي تعيش معي الآن في نفس البيت ، هي في غرفة وأنا في أخرى .. إنها طيبة ، تحبني وتعتني بي ..
– من تقصد ..؟
– سليم ألا تعرفه ..؟ طلق أختي بعد عِشرة سنين بحجة أنها لم تنجب له أولاداً .. ابن حرام .. تزوج بعدها قريبته ، لكنها لم تنجب له أيضاً .. قهرها الله يلعن ..
واجهته بالصمت خشية تماديه في الشتائم ، فأنا لم أنس أنني أتعامل مع مجنون أو نصف مجنون .. كل واحد في بلدتنا يطلق عليه حكماً مغايراً للآخر ..
كانت لفافته قد انطفأت فأعاد إشعالها ، وبدا هادئاً من جديد ..
– ولكنك لم تقل لي لماذا تسير إلى الوراء ..؟ رأيتك من شباك البيت وأنت تسير بهذا الشكل ..
– وراء ..! يبدو أنك لا تعرف قدامك من ورائك .. أنا في الإتجاه الصحيح .. في دروبي القادمة أولاد حرام كثيرون .. أحاول أن أتجنب الصدام بهم .. يجب أن أتسلح بشكل أفضل .. بندقيتي قديمة لا يمكن أن تطالهم كلهم .. ثم أنني أخاف أن تنفذ الذخيرة مني .. أنا لا أملك منها الكثير ..
– أنت تطلق النار عليهم إذاً ..؟
– نعم .. ألا تراني كيف أعود إلى الأمام بعد كل خطوة أو خطوتين .. أوجه بندقيتي ، أسدد جيداً وأطلق ..
ولم يدعني أعلق بشيء .. مد ذراعه على استقامتها .. أغلق إحدى عينيه ، سدد بحركة طبيعية :
– طاق .. طاق ..
ذهبت ببصري إلى حيث كان من المفترض أن تكون طلقته قد وصلت ، لم يكن هناك من أحد على امتداد البصر ..
– لكنني لا أرى أحداً ..
– هربوا قبل أن تصيبهم طلقاتي .. الأوغاد قادرون على التواري بسرعة .. لكنني كامن لهم هنا ..
وتابع :
– اسمع .. أحياناً يأتون إلى منزلي ، يقرعون بابي في الليل ، أنا لا أفتح لهم لأنني لا أراهم تماماً في العتمة ، الظلام يطويهم بسرعة .. أنا أنتظرهم في النهارات المشمسة ، وأجوب الأزقة منذ الصباح الباكر كي أحظى بهم .. إنهم كثر ، أصيب بعضهم ، وأظن أنني ارتحت منهم ، ولكنهم يتكاثرون بسرعة .. تمتلئ بهم الأزقة والحارات ، لا تكاد تختفي أذنابهم حتى تظهر رؤوسهم من جديد ..
كنت أستمع إليه ، أفكر في كلامه .. أغفل عن جنونه الذي ظلموه به ..
أحسست لوهلة أنهم غفلوا عن حكايته فنعتوه بالجنون ..
وأفقت على صوته وهو يصرخ ، ثم يوجه بندقيته – ذراعه باتجاه محدد :
– انظر .. لقد وصلوا .. انظر إلى كبيرهم هذا ..
وأطلق ..
ولم أسمع سوى ( طاق ) الصادرة عنه ، ولم أر أو أسمع شيئاً آخر رغم اصراره على الإصابة القاتلة .
في زيارتي التالية .. كان زيدان لا يزال يجوب الأزقة في البلدة القديمة ، يهمهم ، يطلق ..
ويصر على السير إلى الوراء ، ويعلن عندما ألقاه في صباحاتي مستعجلاً تحيته والتودد إليه :
– آخ لو تعلم .. خي ( أبو عزوز ) .. لم تعد طلقاتي تؤثر بهم .. يبدو أنهم يعطونني ذخيرة خلبية .. صرت أشك بهم .. وصلت أيادي أولاد الحرام إلى أولئك الذين يمدونني بالذخيرة .. صار بإمكانهم الوصول إلى كل الأمكنة .. أنا لا أنام الليل من ضجيجهم .. هم يقرعون كل الأبواب .. يفعلون الكبائر .. يسرقون ويعذبون ويقهرون ويتمادون في غيهم ..
يصمت فجأة ، ثم يسألني :
– معك سيجارة خي (أبو عزوز ) ..؟
محمد عزوز
2009