كيف تتحول التجربة البشرية إلى كتابة؟ هل يمكن أن يتضمن ذلك التحول نزعة ورقية؟ أو بعبارة أخرى هل يمكن أن يتسرب التوريق التكتيب أو التنصيص إلى المستوى التيمي للنص الأدبي؟. في هذه الورقة سنحاول أن نقدم جزءً من الإجابة على ذلك، انطلاقاً من قراءة قصيدة نثرية بعنوان صورة الوقت ، والتي يكاد يطفو على سطح النص فيها ملمح من ملامح ثقافة التوريق التي نتحدث عنها. ولكن، في سبيل تبيان ذلك، لا بد من عبور المستوى الجمالي، وغض الطرف عنه، إلى المستوى التجريدي الذي يمكن أن يبدو جافاً، خاصة للقارئ الذي تعود على القراءات الشارحة السائدة في هذه الأيام، والتي تسمى بـ القراءات النقدية .
بآلة شعرية تلتقط السورية مثال فهد قصيدتها صورة الوقت التي يظهر فيها الزمان ممتدا بين ظرفيه منذ و متى . من هنا ينقسم النص إلى دوال ذات مدلولات قارة نسبيا، وأخرى عائمة. ولكنا، من خلال هذه القراءة، لن نحاول إبراز كل الحلقات الدلالية التي تتألف منها السلسلتان، وإنما سنركز فقط على ثنائية التقرير والتقدير التي ستساعدنا في الكشف عن مظاهر التوريق كما سنبين بعد قليل.
يأخذنا تيار النص الإيحائي، في هذه القصيدة، إلى حد يتراءى لنا فيه انقسامه إلى مفردات مقررة، ندرك انتماءها إلى السلسلة الدلالية التي يحدها ظرف الزمان منذ ، ومفردات مقدرة تنتمي إلى السلسلة التي يحدها ظرف الزمان المشار إليه بـ متى . وكمثال على ذلك، نلاحظ بأن هذا النص، وهو عاطفي بامتياز، حل فيه مدلول كلمة القلم محل مدلول كلمة القلب على مستوى من المستويات الممكنة للنص. كيف حدث ذلك؟. يمكن أن يتبنى الجواب علاقة إيحائية كما يلي
ببساطة، إذا كان القلب يضخ الدماء في الجسم، فإن القلم يضخ المداد في الورق. هنا يبدأ الجسم المرجعي مساره الورقي في الحياة النصية للذات. وإذا كانت الدماء تخط نبضات، فإن المداد يخط حروفا. وإذا كانت النبضات تشكل أحاسيس، فإن الحروف تشكل مفردات. وإذا كانت الأحاسيس تؤلف عشقاً داخل الذات، فإن المفردات تؤلف له صورة شعرية داخل النص. وباختصار نحن لا نقرأ الواقع العاطفي المفترض مباشرةً في صورة الوقت ، بل نقرأ تأريخا لتحول هذا الواقع من مستواه الذاتي إلى مستواه الورقي. لا نقرأ فيه نبضات القلب ، وإنما نقرأ تأريخاً لتحولها الرمزي إلى مفردات القلم . فمن هذا المنطق يتشكل سؤال الشاعرة
متى سألفظُ عشقك الذي ابتلعني
منذ نعومةِ أقلامي؟
فبغض النظر عن مجازية العشق المبتلع، نفترض بأن فعل ابتلع فيزيائي يشير إلى مرحلة الذات ، لكن فعل سألفظ لغوي يشير إلى مرحلة النص. وإذا كان المعنى المباشر لفعل سألفظ هو إخراج ما تم ابتلاعه مرة أخرى، فإن دلالته تجمعه بكلمة أقلامي ؛ فكأن نعومة الأقلام تشير إلى طبيعة الرد على الابتلاع . وهنا يكون اللفظ مكتوباً يخطه القلم إلى أجل غير مسمى. ويمكن توضيح الفرق بين المعنى والدلالة من خلال ما يلي
تقابل معنـوي لفظ ــ ابتلع
تكامل دلالـي قلم ــ لفظ
كما أشرنا، تقع خارطة هذه القصيدة بين حدين، وهما منذ و متى . فـ منذ تعين لحظة الامتزاج بين الذات والنص بداية التوريق . الأولى تذوب في الثاني، كما يذوب العمر الزمن النسبي في الوقت الزمن المطلق . وكما يتجلى ذلك في فتح التساؤل متى على المجهول. إذا كانت منذ تقيد انتشار الحدث عبر الزمان، فإن متى ، بالعكس، تدل على الانتشار المطلق للحدث عبر الزمان. لقد وردت منذ مرة واحدة، بينما وردت متى أربع مرات في القصيدة التي بين أيدينا. ذلك لأن البداية أصبحت معروفة، بينما النهاية مجهولة. إذا سألنا متى بدأ موضوع القصيدة يتشكل ؟. يأتي الجواب سهلا من القصيدة كالتالي منذ ابتلعني عشقك . أما إذا سألنا متى سينتهي؟ . فالجواب غير معروف، ولذلك انتهت القصيدة بقول الشاعرة
كأنك صورة الوقت
المرتسمة
على امتداد خارطة العمر
فكأن القصة لن تنتهي مدى العمر. إذا كان الشيء معروفا، فقد أصبح محددا مقيداً، أما إذا كان مجهولا، فسيبقى مفتوحا على العديد من الاحتمالات. ولذلك تكررت متى ولم تتكرر منذ . إن العشق، الوارد في المقطع السابق، يمارس عملا ذاتيا جسمانيا وهو الابتلاع كما رأينا. وبما أن هناك تداخلا إيحائياً بين الدماء والمداد، والذات والنص، فليس على هذا العشق الفاعل المجازي أن يلفظ أحدا. فهو ابتلع، ولكن الذات المبتلَعة هي التي ستلفظه. وبهذا اللفظ ننتقل، في عمق النص، من الحياة الذاتية الجسمانية إلى الحياة الشعرية النصية . ننتقل من حياة مخلوقة إلى حياة مكتوبة. وهنا نقرأ انتقال العشق، على سبيل الإيحاء، من القلب المقدر إلى القلم المقرر
فـ منذ نعومة أقلامـ ها النص ، وليس أظفارها الجسم ، وهي تحاول التوحيد بين الذات والنص التوريق من خلال التكامل الدلالي المفترض بين اللفظ والأقلام ، والذي يوازي التكامل القائم بين الابتلاع والنعومة . وتبقى كلمة منذ تعيينا لزمن البداية. إنها بداية نصية للذات العاشقة، ما دامت نقطة الانطلاق محددة بلحظة نعومة الأقلام . إنها لحظة تنبئ بانتقال النص إلى مرحلة النضج، حيث ترتفع نسبة الهيرمونات الشعرية في المداد الذي يجري في شرايين الورق.
هي اللحظة التي يصبح فيها النص قادراً على تمثل الانطباعات الشعرية، وتحويلها من مستوى القلب إلى مستوى القلم. وبالتالي، من مستوى الذات إلى مستوى النص. هيرمونات شعرية يزداد لها ضغط القلب»القلم ويضخ المزيد من المداد ليشكل العديد من النبضات المفردات. فالنبضات تبني العشق في الذات، والمفردات تعيد بناءه في النص.
متى أُلقي ذلك الحلم الرماديّ القوام
على ضفةِ حضورِك
الملبدِ بالوهم
و اعبر إلى جهةِ الــ لا أنت ؟
يا أنت
يا بركانَ خوفِ
مازال يلتهم
أجنحة جنيات حكاياتي
العشق الذي جعلنا نتساءل لماذا توجب لفظه؟. يجيبنا هذا المطقع بأنه حلم رمادي القوام . فلم يعد أخضر أو ما شابه، بل أصبح رمادياً، مما يدل على نوع من الذبول. فكأن هذا الحضور بحر بلا قرار، أو نهر بلا استقرار. إنه ملبد بالوهم، لذلك ظهر في لون رمادي ، وهو اللون المناسب للوهم، كما يكون اللون الأخضر مناسبا للحقيقة. إن الوهم غصن من شجرة الحقيقة. لكنه غصن مقطوع من جهة المخاطَب. إنه حقيقي في ذات المتكلمة، لكنه وهم بسبب انقطاعه من ذات المخاطب. لذلك لم يعد أخضر، كما لا يحتفظ الغصن المقطوع بخضرته. ومع ذلك، مازال هناك أمل في إحيائه، لكنه أمل يقارع المستحيل.
إنه ذلك الحلم الرماديّ القوام على ضفةِ حضورِك . هي ضفة يجري مداد النص بينها وبين ضفة الذات، حيث يواصل الغصن الوهمي لحقيقة الحلم العشق ذبوله. على تلك الضفة المقدرة، يتحول الوهم إلى بركان خوف . والخوف لا وجود له خارج الذات. فالمخاطب، الذي كان مجرد وهم ذاتي ، ما هو إلا خوف ذاتي أيضا. وحين تتحدث الشاعرة عن بركان خوف ، فلا يخلو ذهنها من استحضار الفراشات التي تحوم حول النار بكل براءة. إنها حرارة الخوف، مظهرها نور، لكن جوهرها نار. الفراشات المقدرة في الجنيات المقررة تحوم حول المظهر، لكنها تحترق بالجوهر، كما تستمتع الذات بمظهر الحقيقة الوهم ، وتحترق بجوهرها. ذلك لأن حضور المعشوق ما هو إلا مظهر وهمي لغيابه الحقيقي. إذن، فالبركان كناية عن الحرارة الحقيقة التي تستمتع الجنيات بدفئها ونورها المظهر ، لكنها تحترق بنارها الجوهر .
لماذا تحولت الفراشات إلى جنيات أصلاً؟. لأن في هذا التحويل تعبيراً عن مدى بعد المنال. فكأن المخاطَب ليس مجرد بطل من أبطال الحكايات المألوفة، بل ينتمي إلى حكايات الجنيات. في كتابي السيميولوجي تناسخ النص تحدثت بتفصيل عن علاقة تميمة بتحول متن القصة من المألوف إلى الخارق. ففي إحدي قصص المغربي عبد الواحد كفيح، ورد أن عنترة حوَّل معلقته الشعرية إلى تميمة سحرية، وهام على وجهه في الصحراء بحثاً عن عبلة..الخ . وبناء على ذلك، فإن قول الشاعرة جنيات حكاياتي ، بدل أن تقول فراشات حكاياتي مثلاً، مناسب، ومتعلق، بخرق العادة الذي يقتضيه الحضور الحقيقي للمخاطب. فلا يمكن لهذا الحضور حسب سياق النص إلا أن يكون معجزة من سماء المستحيل كما تقول الشاعرة
يا أنت
يا أي معجزةٍ هطلتْ بك
من سماء المستحيل ؟
يا أنت
يا عميقاً.. كـ أودية النوايا
يا بعيداً.. كـ صدى أناشيد العودة
إنه بمنطق الجنيات حاضر، حقيقي، مألوف، مضيء. لكنه بمنطق الفراشات غائب، وهمي، خارق، محرق. بيد أنه لم يحترق في الجنيات المقررة سوى الفراشات المقدرة . وإذا كان لعمق الأودية الطبيعية حدود، فإن الأمر يتعلق هنا بأودية ذاتية نوايا . فكأن استغوار أعماق النوايا أقرب إلى التحقيق بما يكفي لتشبيه عمق المخاطب بها، وما هذا إلا توكيد على هطوله من سماء المستحيل . فبقدر ما يبدو المشبه به قريبا من الاستيعاب، يبدو المشبه بعيدا كـ صدى أناشيد العودة . من هنا نعود، مرة أخرى، إلى تاريخ القران بين الذات والنص، فها هي النبضات الحروف تجتمع لتؤلف مفردات الإحساس بالشوق
كل مفردات يومي تشتاقك
و كأنك صورة الوقت
المرتسمة
على امتداد خارطة العمر
لقد تحولت نبضات القلـ ب إلى مفردات القلـ م ، فبدل أن يصور النص اشتياقا قلبيا، صور اشتياقا قلمياً. ومن القلب المقدر إلى القلم المقرر، تنطلق الذات لتتوارى بعشقها المتأرجح بين نور الحقيقة ونار الوهم. إن اليوم جزء ينشد اكتماله في خارطة الوقت. فالنص يتألف من المفردات، والوقت يتألف من الأيام. والعمر هو الوقت الذي يجسد الاتحاد بين الذات والزمان. فحين تقول يومي ، فهي تؤكد على اليوم كوحدة من وحدات العمر .
إذا كان الشوق إحساسا بشيء ناقص، فإن الوصل إحساس بشيء مكتمل. اليوم ناقص بالنسبة إلى الوقت الكامل . فالمخاطب ليس صورة لليوم جزء من الوقت ، بل هو صورة لكل الوقت. ولذلك تبدو الصورة مرتسمة على امتداد خارطة العمر ، وليس على امتداد يوم فحسب.
قد يتحول الشوق إلى وصل، إذا تحول الـ يومـي إلى كل الوقت . وأخيرا نشير إلى أن المخاطب ليس هو الوقت، ولا صورة لهذا الوقت، بل مجرد شبيه لصورة الوقت. وكذلك ليس نشيدا ، بل مجرد صدى لذلك النشيد. ولم يكن كـ الأودية حتى كانت أودية للنوايا. فهذا الأسلوب يقود إلى الاستنتاج بأن النص عبارة عن قارب يحمل المخاطب من ضفة الذات المعلومة إلى ضفة النص المجهولة؛ ومن الحقيقة إلى المجاز. ومن الحضور إلى الغياب. ومن الممكن إلى المستحيل.
الزمان اللندنية