المهندس: ميشيل كلاغاصي
14 / 7 / 2019
لا يمكن الحديث عن إحلال السلام والإستقرار في العالم, دون الحديث عن حل الصراع القائم في مركزه ونقطة توازنه في الشرق الأوسط… وهو صراعٌ أساسه الإحتلال الإسرائيلي لمساحات واسعة من الأراضي العربية, وعلى رأسها إحتلاله أرض فلسطين ومدنها التاريخية المقدسة, وقد تكون مدينة الناصرة مدخلا ًمناسبا ًلحديثنا اليوم.
تعتبر الناصرة إحدى أهم المدن الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948، وإحدى المدن التي نالت حصتها من الإحتلال والحقد والعداء والممارسات الإسرائيلية… وتحظى المدينة بأهميةٍ دينية وروحية كبرى خصوصا ًلدى المسيحيين, فهي أرض الرسالة والبشارة الإلهية إلى السيدة العذراء “ستحبلين وتلدين إبنا ًوتسمينه يسوع”, والذي دعي لاحقا ًبالناصري… وإعتادت المدينة على استقبال زوارها من كافة أنحاء العالم, طلبا ً لإشتنشاق عبيرها الروحي أو السياحي على حدٍ سواء.
وقد يكون القس النيجيري تيميتوبي بالوجون جوشوا, صاحب ملايين الأتباع في الغرب, والذي وصفه البعض بـ “الشيطان, الدجال, المحتال”, الذي يزعم النبوة, واحدا ًممن يملكون أسبابا ًخاصة لإختياره الناصرة مكانا ًلإطلاق ونشر “إنجيله”, الذي لا يلتقي مع العقائد المسيحية التقليدية والمعروفة, بفضل قراءاته الغريبة و “المروعة” للكتاب المقدس, ومع تدخله السياسي الواضح في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي, لصالح الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة.
ومن اللافت أن تكون زيارة جوشوا إلى الناصرة في 23/6 /2019, ساهمت بتنشيط السياحة الدينية إلى فلسطين المحتلة عموما ًوالناصرة خصوصا ً, ويمكنها أن تتطور لحد جلب وجذب أكثر من 60 مليون أمريكي من المسيحيين الإنجيليين… ومن الملاحظ أن زيارات جوشوا ل”إسرائيل”, تعتدت الهدف الديني التبشيري, إلى عقد اللقاءات مع قادة ومسؤولين حكوميين إسرائيليين من الصف الأول, والمعنيين بالشأن السياحي, وبمناقشة قدرة الكيان الإسرائيلي على استيعاب المزيد من المهاجرين اليهود الجدد من الولايات المتحدة وأوروبا.
إذ يعتقد جوشوا والكثيرون في المجتمع الإنجيلي, أن من واجبهم تشجيع اليهود على الإنتقال من بلدانهم الأصلية إلى أرض “الميعاد” بهدف تسريع الوصول إلى أزمنة نهاية العالم التي تنبأ بها الكتاب المقدس… ويؤمنون أن عليهم التواجد والوقوف إلى جانب السيد المسيح لدى عودته ليبني مملكته على الأرض, متجاهلين بهذا كلام السيد المسيح ذاته: “مملكتي ليست من هذا العالم”.
يبدو أن جوشوا يعمل على تجميع كل من يسير في ركبه ووراء بدعه وخرافاته وتفاسيره المشبوهة, لهذا اختار وبعناية فائقة أماكن جغرافية تتمتع بصلات عقائدية ليطلق منها حملته التبشيرية في مدينة الناصرة, كوقوفه وأتباعه على مدرج جبل القفزة, وعلى الجرف المطل على وادي “وادي يزرعيل” في “تل مَجِدُّو” (وهو الإسم التوراتي لموقع هرمجدون), حيث يعتقدون أن نهاية العالم ستحدث فيه عمّا قريب.
من السذاجة بمكان أن يصدق العالم أن المسيحيون الإنجيليون هم المراقبون لخطةٍ إلهية كُشفت لهم وحدهم, وبأنهم فاعلين ومؤثرين فيها وقادرين على تسريعها… في الواقع, لا يمكن فهم حقيقة صمت ومشاركة زعماء الدول الغربية المسيحية العظمى, في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على أساسٍ عقائدي لا تؤمن به غالبية كنائسهم, وقد ساهموا بشكلٍ مباشر ولعقود طويلة في تقديم الوعود (بلفور) وبسفك الدماء واستعمار الأرض وطرد وتشريد أهلها, من الواضح أنهم سعوا إلى تصميم الكيان الإسرائيلي على الشكل الذي نراه اليوم.
ويمكننا القول, أن الصهاينة الأوائل هم مسيحيوا الغرب المتطرفون .. اللذين فردوا العباءة والظل البريطاني لينعم به جميع الصهاينة لقرن كامل, ثم تحولوا نحو الرعاية والتبني الكامل تحت العباءة الأمريكية…
فمنذ أواخر القرن السادس عشر, وتحديدا ًفي الأوساط البروتستانتية في انكلترا, أُطلق مصطلح “الصهيونية” وفقا ًلنظرة الغرب لليهود, وبأنهم ليسوا جزءا ًمن النسيج الحضاري الغربي, ونظروا إليهم على أنهم شعب الله المختار ووطنهم فلسطين, وعرفت هذه النزعة بإسم “الصهيونية المسيحية”, أو “صهيونية غير اليهود”.
ومع تبلور الهجمة والأطماع الإمبريالية الغربية في الشرق, ومع تبلور الفكر العلماني المعادي لليهود في الغرب, بدأ مفهوم الصهيونية بالتخلص من أبعاده الدينية وانتقل إلى عالم السياسة والمنفعة المادية ومصالح الدول… فعلى سبيل المثال نجد أن نابليون بونابارت المعادي لليهود, يدعوهم للإستيطان في “بلد أجدادهم”, ليكون بذلك صاحب أول مشروع صهيوني حقيقي على أرض فلسطين.
وأصبح مفهوم الصهيونية مفهوما ًأساسيا ًفي الخطاب السياسي الغربي منذ العام 1841 مع نجاح أوربا في بلورة مشروعها الإستعماري ضد العالم العربي, وبعد القضاء على مشروع محمد علي في مصر… وفي منتصف القرن التاسع عشر, بدأت تتبلور المفاهيم الصهيونية وتكتمل معها ملامح المشروع الصهيوني على يد المفكـرين المسيحيين الغربيين الصهاينة من غير اليهود, الذين اعتقدوا أن المجيء الثاني للسيد المسيح, يمكن تسريعه مع عودة اليهود “شعب الله المختار” إلى أرض “الميعاد”…
وعليه انطلق تشارلز تاز راسل (الأمريكي من أصول إيرلندية ومؤسس شهود يهوه) في نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر, ليجوب العالم, ويحث اليهود على تأسيس وطنٍ قوميٍ لهم في فلسطين, إلى أن طرح ثيودور هرتزل -من بعده بعشرين عاما ً– كتابه المعروف عن الدولة اليهودية… وتعاقب من بعده من أدركوا جيدا ً قيمة القبضة المسيحية الصهيونية على العواصم الغربية, وركّزوا اهتمامهم على فلسطين أرض التوراة الموعودة, وسعوا لكسب حلفاء أقوياء في أوروبا والولايات المتحدة.
ولطالما كان دعم الإمبراطورية البريطانية هاما ًومؤثرا ًفي حث اليهود على الهجرة إلى فلسطين, وكان للمسيحيين الصهاينة الدور الأكبر في دفع المملكة على استصدار وعد بلفور .. وشجع سلوكهم ونفوذهم, اليهود على قبول الإنتقال من العباءة البريطانية إلى الأمريكية, في ستينيات القرن الماضي .. ودأب الرؤساء الأمريكيون على إحاطة أنفسهم بخليطٍ من الصهاينة اليهود والمسيحيين.
وبدورها وصلت هذه الإحاطة إلى عهد الرئيس دونالد ترامب, فأحاط نفسه ببطانة مماثلة, ضمت أسماء كثيرة ومعروفة ك ديفيد فريدمان, جيسون غرينبلات, مايك بنس, جون بولتون, ومايك بومبيو الذي أيّد فكرة “أن يكون الله قد أرسل ترامب لإنقاذ إسرائيل من التهديدات”, في وقتٍ قال فيه مايك بنس:”شغفي لإسرائيل ينبع من إيماني المسيحي”.
إن قيام ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس, وبالإعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل, لم يكن سوى عملية استباقية لأي تسوياتٍ تفاوضية قادمة, وبهدف إرضاء قاعدته المسيحية الصهيونية التي صوتت له عام 2016, وهو على بعد أيام قليلة من الحاجة إليهم مجددا ً لعبوره إنتخابات 2020.
وفي هذا السياق, تجدر الإشارة إلى تكليفه ل “جون هاجي” و”روبرت جيفريس” وهما من القساوسة المتعصبين والداعمين لإسرائيل, لأن يقوما بتدشين مبنى السفارة الأمريكية الجديدة في القدس!, وسبق للقس هاجي أن قال على منبر الأيباك: “لقد استيقظ العملاق النائم للصهيونية المسيحية, هناك خمسون مليون مسيحي يقفون ويشيدون بدولة إسرائيل”.
ومن الملاحظ أن الإنجيليين الأمريكيين لا ينفكون عن الإهتمام بتطوير علاقاتهم مع متطرفي اليهود الإسرائيليين, وأصبحت “إسرائيل” بالنسبة لهم قضية ً أساسية, في وقتٍ تؤمن فيه غالبيتهم بأن كل ما يحصل في “إسرائيل” يعود إلى نبؤات الوحي في الكتاب المقدس… وعليه فإن سعيهم لتشجيع اليهود من جميع أنحاء العالم للتوجه نحو أرض فلسطين يتوافق مع معتقداتهم المسيحية – الصهيونية, ومن خلال خطةٍ إلهية للشرق الأوسط… ويؤيدون كل ما يفعله المستوطنون اليهود المتطرفون بهدف إبتلاع الضفة الغربية, وينسجم أيضا ًمع فهمهم بأن الضفة الغربية هي “قلب التوراة”, ويجب على اليهود إمتلاكها قبل عودة المسيح.
وعليه يُقّدم الإنجيليون الصهاينة لسلطات الكيان الغاصب, كافة أشكال الدعم السياسي والعسكري والمالي, بما لا يمكن تصوره … كما أن حديث العالم عن “صفقة القرن” وما تتطلبه من أموال لإغراء الفلسطينيين والعرب لقبولها, لن يكون أمرا ًصعبا ً أو مستحيلا ً, مع وجود “جيش” من المتبرعين الإنجيليين الصهاينة الأوروبيين والأمريكيين حول العالم… ومع ذلك, يبقى هاجسهم لجمع الأموال يفوق إدراكهم للنبؤات التوراتية ولحاجتهم الماسة لتبرير سياساتهم حول العالم عموما ًوفي الشرق الأوسط خصوصا ً, ويشكل لهم حافزا ً ودافعا ً لتأجيج سعيهم للسيطرة على الثروات وموارد النفط في المنطقة, ولو تطلب ذلك استخدام القوة العسكرية وخوض الحروب المدمرة.
ويبقى إضطهادهم وتاّمرهم على الفلسطينين والعرب, يشكل مصدرا ًلحصول سلطات الكيان الغاصب على المكافئات والدعم اللامحدود, بما فيه مشاريعهم وحروبهم الإرهابية على سوريا والشعوب العربية المقاومة, وبمحاربة الدولة الإيرانية وروسيا والصين, وعليه لا يحتاج الرئيس ترامب تقديم الحجج والذرائع لكل ما يفعله مهما كان سيئا ًتجاه الدول والشعوب الأخرى, ويكتفي بعداء من تعتبره “إسرائيل” عدوا ً, وسبق لبنامين نتنياهو القول في العام 2017 :”ليس لدينا أصدقاء أعظم من المؤيدين المسيحيين لإسرائيل”.
أخيرا ً… من الواضح أن السلام لا يبدو قريبا ً, في ظل الأطماع والنفوذ والقوة والهيمنة الغربية, وتطرف الحكومات الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية, ويبدو أن إقناع أو إجبار الإسرائيليين على السلام, لا بد له أن يمرّ من بوابة إقناع أو إجبار من هم صهاينة أكثر من الصهاينة… وتبقى مقاومة الإحتلال الإسرائيلي, وكسر الإرادة والهيمنة الغربية والأمريكية على وجه التحديد, هي مفتاح الإنتصار وإستعادة الحقوق, وفرض السلام.
المهندس: ميشيل كلاغاصي
14 / 7 / 2019