المهندس: ميشيل كلاغاصي
21 / 7 / 2019
لا شك أن إنتصار الدولة السورية وحلفائها في الحرب الدولية التي أرادتها الولايات المتحدة أن تكون حربا ًإرهابية ساخنة تحرق جسد الدولة السورية وأرضها وشعبها, وحربا ًباردة مع بعض الدول الإقليمية والعالمية, التي لا زالت إحتمالات تصعيدها العسكري والتجاري, تدفع بإتجاه تسخينها وتحويلها حروبا ًواسعة وربما شاملة مع كامل التخبط وغياب الإستراتيجية الواضحة للولايات المتحدة, وإبعادها لحلفائها وشركائها الأوروبيين والخليجيين عن حضور جلسات قرارها, واكتفائهم بالتبعية الكاملة, على الرغم من نزعات الخوف والخشية والرغبة لدى بعضهم بالبحث عن مصالحهم بعيدا ًعن الهيمنة الأمريكية.
ومع نجاح الدولة السورية بالقضاء على عديد التنظيمات والمجاميع الإرهابية, وتحرير واستعادة غالبية المدن والمناطق التي تسلل إليها الإرهاب, وعزل ما تبقى منها ومحاصرته في إدلب ومحيطها وفي شرقي البلاد, على الرغم من الدعم الرئيسي والمباشر من القوات التركية والأمريكية, بما يؤكد محاصرتها للمشروعين التقسيمي والإنفصالي, وحَصرِ خياراتهما بالذوبان والتلاشي, إما عبر العملية السياسية أو بفضل قرارها العسكري بتحرير كل شبر, ورفضها وشعبها كافة المشاريع الخارجية التركية والأمريكية ومشاريع الفتات التي يبحث عنها الفرنسيون والبريطانيون وأنظمة الخليج.
وتجدر الإشارة إلى أن الصمود والإنتصار السوري في مركز الصراع الإقليمي–الدولي, بدأت تنعكس نتائجه وتداعياته على غير ساحات ومواجهات, وبدأت تساهم في رسم ملامح جديدة لنظام التحالفات الإقليمية والدولية , إنطلاقا ًمن مصالح الدول الكبرى, وحساباتها المعقدة لتفادي الحروب الشاملة من جهة, ولتفادي الهزيمة والإستسلام من جهةٍ أخرى, ولضمان أمنها القومي ومستقبل شعوبها, ولم تعد التحالفات السابقة تتمتع بقدسية عدم المساس بها, وبات من الممكن ظهور تحالفاتٍ جديدة, لم تكن متوقعة وفق الحسابات التقليدية.
ومع وصول الدفعة الأولى لمنظومة الدفاع الصاروخي الروسية S-400 إلى تركيا في 12 حزيران بحسب وزارة الدفاع التركية, ومع استكمال جدول التسليم تباعا ًحتى نهاية صيف هذا العام, ستكون تركيا قد حصلت على أكثر من 120 صاروخ روسي مضاد للطائرات, بالإضافة إلى التقارير التركية التي تؤكد إرسالها فريقها لتشغيل منظومة الـ S-400 المؤلف من 20 عسكريا ًتركيا ًإلى روسيا للتدريب على استخدامها خلال الشهرين القادمين, بما يعني فعليا ًإعلان التحالف العسكري الروسي–التركي بطريقةٍ أو أخرى, يضاف إلى تحالفهما الإقتصادي والإستثماري في عديد المجالات, ناهيك عن التحالف السياسي –بعيد المدى- الذي جعل من تركيا دولة ًضامنة للحل السياسي وفي وقف الحرب على سوريا.
ويبقى السؤال, كيف سترد الولايات المتحدة؟ وهل ستفكر بتغيير النظام في تركيا ؟ أم سيكون الرئيس أردوغان هو الهدف ؟ أم سيتجه إنتقامها نحو الليرة التركية والعقوبات الإقتصادية ؟, أم ستكتفي بالعقوبات العسكرية والتي بدأتها بمحاولة إخراج تركيا من منظومة طائرات الـ F-35, أم بتطبيق قانون جاستا ؟.
فما يحدث ليس عابرا ً, ويؤكد وجود أزمة شاملة بدأت تتكشف فصولها وتداعياتها على بنية التحالفات العسكرية الدولية… ولا يمكن لتركيا أن تحافظ في الوقت ذاته, على عضويتها الأطلسية, والدخول في إتفاق تعاون عسكري مع الإتحاد الروسي… وقد يعود بنا هذا إلى أزمنة الحرب العالمية الأولى, حيث أدى تغيّر التحالفات العسكرية إلى حدوث نتائج حاسمة في التاريخ… مع ملاحظة أن تحالفات وأحلاف اليوم تختلف عن تحالفات الأمس, وأكثر تعقيدا ًمنها.
إن مجرد محاولة تركيا الخروج – ولو جزئيا ً- من حلف الناتو, مهما كانت غاياتها وأهدافها الحالية, سيؤدي إلى تحولات تاريخية في بنية التحالفات العسكرية, التي قد تساهم في إضعاف الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط, وتُهيىء الأرضية لتفكك الحلف برمته… فالحلف وكما هو معروف يشكل قوة ًعسكرية كبيرة تضم عضوية 29 دولة, تعمل تحت القيادة الأمريكية, ويعتبر أداة الحروب الحديثة والخطيرة, بفضل قدرته على تهديد الأمن والسلم الدوليين… وسيكون من تداعيات خروج عضوٍ واحد على الأقل, الأثر الكبيرعلى إضعاف الحلف وباقي الدول الأعضاء… فهل يمكن إعتبار أن ما يجري هو جزء من المخطط الأمريكي, والذي تجلى في وعود ترامب الإنتخابية بفرط عقد الناتو؟, أم بتغيير قواعد اللعبة الدولية..!
فعلى الرغم من عضوية تركيا الأطلسية, إلاّ أنه لوحظ خلال العامين الماضيين, اهتمام الرئيس التركي بتطويرعلاقات بلاده مع اثنين من ألد أعداء أميركا وهما إيران وروسيا… وأن إنهاء تسليم تركيا لمنظومة الـ S-400 قبل عام تقريبا ًمن الموعد المحدد, يشي بشكلٍ أو باّخر بإمكانية إنسحابها لاحقا ًمن منظومة الدفاع الجوي المتكامل للولايات المتحدة والناتو و”إسرائيل”, وسيُسهم في زعزعة الإستقرار في بنية التحالفات العسكرية على حساب واشنطن… وسيفرض أثره على خطط الحرب الأمريكية ضد إيران بإعتبارها دولة ًحليفة لتركيا أيضا ً… وسيطرح عديد الأسئلة حيال العلاقات والتحالفات والتفاهمات التركية – الإسرائيلية, والتي بموجبها تم التوقيع بينهما عام 1993 على مذكرة تفاهم أدت إلى تشكيل “لجان مشتركة” مهمتها التعاون في جمع المعلومات الإستخبارية عن سوريا وإيران والعراق, وتبادل التقييمات والقدرات العسكرية لهذه الدول… كما أسفرت في العام 2004 عن إيجاد تفاهمٍ للتعاون العسكري مع الناتو, والذي اعتبرته “إسرائيل” تعزيزا ًلقدراتها الرادعة في وجه إيران وسوريا.
إن “التحالف الثلاثي”– العسكري, الذي ربط الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتركيا, استند بشكلٍ كبير على العلاقات العسكرية الثنائية القوية بين تل أبيب وأنقرة, وتم تسخيره لخدمة أطماعهما ولخدمة مصالح ومخططات الولايات المتحدة في وجه إيران وسوريا بالحد الأدنى … لكن مع التغير الجديد في العلاقات التركية مع روسيا وإيران, وما يمكن وصفه بالتحالف العسكري لها مع موسكو, سيدفع الولايات المتحدة و”إسرائيل” للتفكير مليا ًقبل إتخاذ أي قرار بشأن شن الحرب والعدوان والهجمات الجوية على إيران…. وما كان متوقعا ًمن دورٍ تركي فيها أصبح موضع شك.
ومع وصول ماّل الحرب الدولية إنطلاقا ًمن الحرب على سوريا إلى ما وصلت إليه اليوم, يمكننا التأكيد على أن تغير التحالفات العسكرية لم يعد يقتصر على تركيا وحدها, ويمكن رصد الخلافات الحاصلة بين النظام القطري ونظام اّل سعود, وحالة الفوضى التي تعم دول ومجلس التعاون الخليجي, وإنقسامه ما بينهما, مع انحياز قطر لإيران وتركيا, ضد السعودية والإمارات.
كما يمكننا رصد التحول العميق في التحالفات الجيوسياسية في جنوب آسيا عمّا كان عليه في العام 2017, بين الهند وباكستان, وتحولهما إلى أعضاء كاملي العضوية في منظمة شنغهاي للتعاون… بما يمكن وصفه بالتحول التاريخي, الذي يشكل ضربة قوية ومباشرة لواشنطن صاحبة الإتفاقيات الدفاعية والتجارية مع كل منهما على حدة, في وقتٍ لا تزال فيه الهند تقبع تحت الإبط والرعاية الأمريكية الكاملة, فيما ابتعدت باكستان بشكل نسبي عن القبضة الأمريكية, خصوصا ًبعد إبرامها عديد الإتفاقات العسكرية والإستخباراتية, والصفقات التجارية والإستثمارية مع الصين.
إن توسيع إطار دول منظمة شنغهاي للتعاون, بدأ يسهم بإضعاف الطموحات الأميركية وبتقليل مستوى هيمنتها على دول جنوب اّسيا, خصوصا ًبما يتعلق بقدرة تأثيرها وتحكمها بخطوط أنابيب الطاقة وممرات النقل والحدود والأمن المتبادل والحقوق البحرية, إذ لا يمكن لواشنطن تجاهل حقيقة كون الباكستان هي المدخل الفعلي إلى أفغانستان وآسيا الوسطى, وعليه يبدو أن تراجع النفوذ الأمريكي هناك يصب في صالح الصين وإيران وتركيا.
مهما كانت الحسابات التركية, فيتوجب عليها أن تراعي مصالحها والتي تربط إرتباطا ًوثيقا ًبالمشروع الأوراسي الذي تقوده الصين وروسيا, خصوصا ًأن تركيا تعتبر حاليا ًشريكا ًأساسيا ًفي حوارات منظمة شنغهاي للتعاون…
فهل تستطيع تركيا وبالإعتماد على الصين وروسيا وإيران وغير دول, أن تتفادى الغضب الأمريكي والطوفان الكبير, للخروج من حلف شمال الأطلسي, مستغلة ًأزماته الداخلية, وتصاعد حركة الخروج من الناتو في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية, وتنامي حركات الضغط الشعبي على الحكومات لمغادرة الحلف, والتي تصب بمجملها في محاولة تفكيكه, وإلغاء أجهزته العسكرية والسياسية التي تستنزف قدرات الدول دون أن تقدم لها شيئا ً, والتي تبدو مخصصة ًلخدمة السيد الأمريكي وحده.
المهندس: ميشيل كلاغاصي
21 / 7 /2019