آثرتُ في دراستي الخروج عن نهجي التكاملي الّذي يجعل الشّعر والعلم متتامين على ما بينهما من تضادٍ إلى نهجٍ جديدٍ يتسمُّ بالذاتيّة أكثرَ من الموضوعيّة وربّما يعود ذلك إلى افتتاني أمام عنوان يستمد شعريته من التضاد ما بين العبث (عبثاً:دون جدوى) يموت الحلم في ثنائية ضديّة رمزيّة غنية بالإيحاءات بالإضافة إلى الولادة المتجددة للغةٍ شعرية خُلقت أصلاً للتغني و الذاتية، فأقدمت الشاعرة على التعبير عن رؤىٍ تكتنز بها أسرار الروح و الحنين في عصر انتشرت فيها الأشعار المبتذلة فتقدم.. عبثاً.. كمصدرٍ نائب المفعول المطلق لتؤخر جملة القصد يموت الحلم.. مضيفة على الحلم سمة الموت الإنساني و كأنما الأحلام قابلة للموت كإنسانٍ يُحتضر و لفظة الحلم لا تحدد المعنى المرجعي للموت العبثي مما يضفي طابع الغموض وهو سمة أصيلة في الشعر وإن اختلفت نسبته في الإبداع الفني والغموض يعني الإيحاء بأبعادٍ إدراكها مرهونٌ بثقافة المتلقي و قدرته على التخيل و الإبداع وحالته النفسية أثناء القراءة فنحن أمام تركيبٍ إسنادي حيث أسندت فعل الموت العبثي للحلم في استخدامٍ رمزي يقوم على الجدليّة و منذ النّصّ الأوّل (صهيل الحنين) يدرك المتلقي إنّ الإبداع الشّعري همٌّ تتأمله الشاعرة في قولها:
في غمرة الشّوق
نظرت عبر نفذتها تطالعُ نجم سعدها
كأميرةٍ تبسطُ أكفها بسمو روحها
فإذا الحبُّ يزهرُ
فهي تستقرأ الأمل في ذورة أشواقها و تترصده بحبٍّ تتمنى قدوم ربيعه المزهر و تسقط جذوة فكرها على الأسطورة:
فكأنها أفروديت الجميلة
خرجت من قلب صدفة البحر
تسقسق الضياء
والجمال الأسطوري لافروديت رسم صورةً تخيلي إيحائية جعلت الشّعر بتقاطع مع فنٍّ آخر هو الرسم فالشعر رسمٌ بالكلمات عبرت من خلاله عن مشاعرَ وجدانية يتوثب فيها التفاؤل بشقائق النعمان ثم تنصت لصهيل الحنين فتقول:
أصغت لصهيل الحنين
في مقاربةٍ تخيلية بين المعنوي الحنين والصهيل المادي المسموع
(و أجزاء روحها فرَّ منها عباب البحار)
فربّما اغتراب المبدعة و غيابها عن موطنها قد جزّأ روحها فتركت قلبها في موطنها العراق و اغتربت قسراً:
فركبت مركب الأهوال
لتنال الرغائب
في أعالي نجم سعدها
فالاغتراب سواء في المكان أو المخيلة يمنح المبدع مساحةً من التجدد وفقاً لقول أبي تمام:”اغترب، تتجدد”.
فيستعر الحنين فينزف قلم الشاعرة المغتربة حبّاً بالعراق فتقول:
بغدادُ
يا قرّة العين
كيفَ أطفئ حنيناً
استعر استعارة النار
في ثنائية ضديّة بين إطفاء الحنين و استعار النار وصورة تخيلية تجرح الأحاسيس وسط حيرتها الوجدانية إذ تقول:
لا أدري كيف أركب مهجة كلماتي إليكِ
من غير حاجةٍ إلى شِفرة عبور؟!
فهي تمني نفسها بالحلم و تقبيل طيف بلادها دونما تأشيرة بقلبٍ مثقلٍ بالحنين :
آهٍ بغداد
وددتُ تقبيل ذاك الطيف
بشفاهِ روحي.. وهي ترتجف
بوهج الشوق… و الحنين
وصوت الشاعرة يفوق الحلم في استمراريته و تموّجه و إخصابه و خروجه عن معايير العقل فالشاعرة ذات عمقٍ يصطرعُ فيه الحنين و الحيرة و تؤثر الخيال المنسكب بين تراسل الحواس و الماديات أحاسيس شفيفة.
*انسجام الّلغة مع التجربة الشّعريّة:
الشّعريّة لم تقتصر في مجموعة”عبثاً.. يموت الحلم” على سمات التركيب اللغوي أو اللفظي في سياقه بل تجسّد في مظاهرَ منها انسجام اللغة مع التجربة و تعدد التأويلات على مستوى القصيدة فتجربة الحبّ على ما فيها من جمال و افتتان و شوق يسري نبضها في الّلغة تقول في
درب جلجلتك يا قلب:
مهلاً…. مهلاً
أيّها القلب… كفى توهجاً
كفى غرقاً
كن رماداً في الليل
كما أنتَ في الصباح
فالقلبُ أصبحَ إنساناً يخاطبُ بصوت الشاعرة و تطلب إليه أن يهدأ و يكفَّ عن اشتعال الحنين و تستحضر المبدعة أسطورة سيزيف ودرب الجلجلة المعاقب بعذابات البشر فكذا هو قلبها كلما حمل صخرته إلى أعلى الجبل سقطت إلى أسفل المنحدر من جديد…
و الديوان ثري بالنصوص التي تستحق التعمق و التمحيص….
و السؤال الّذي يطرحه نفسه:
تُرى أيستطيعُ الإبداع الشّعريّة إذا ما تغرّب عن مجتمعه وفقد الطعم المحلي أن يختلف في الهوية و التطلعات أو المستوى الحضاري وهل استطاعت الشاعرة بهذا الإبداع أن تصل لدرجة العالمية؟؟
أرجو قراءة المجموعة لمعرفة الإجابة….
الديوان تضمن ستاً وثلاثين نصاً نثرياً تنوعت موضوعاته بين الحنين و الحبّ و الوطن و تغلب عليه الذاتية في مئة و ثلاثين صفحة من القطع المتوسط قدمته الشاعرة هدية لملتقى عشتار
و المجموعة تستحق الإشادة و الاقتناء لأنها لواعج قلبٍ له من اسم صاحبته نصيب….
د. آسية بديع يوسف