كانت ولا تزال في وسط بيتنا زاوية مميّزة تضمّ مكتبة خاصّة لوالدي، تدهشني بكلّ ما تحتويه من الكتب الثّقافيّة والأدبيّة، وغيرها من كتب علم النّفس التي كان والدي شغوفا بها، كان يشرف بنفسه على ترتيبها فيقسّم الكتب إلى مجموعات، يضع الموسوعات والكتب القيّمة في الرّفوف العليا، وفي الرّفوف التي تليها يرتّب ما بقي من الكتب تبعا لحجمها ومحتواها، كانت أمّي تتدخّل أحيانا، فتعيد التّرتيب بلمستها الفنّيّة الجميلة، وتضيف بعض اللوحات الصّغيرة والتّماثيل المنحوتة، ممّا يضفي على المكتبة سحرا خاصا وبُعدا ثقافيّا آخر، فيتحوّل ذلك الرّكن من البيت إلى نقطة جماليّة مبهرة مميزة.
كنت أنظر الى الكتب الكبيرة في أعلى المكتبة فأجدها عالية من الصّعب عليّ الوصول إليها، ولحسن الحظّ لم يهمل أبي حصتنا في المكتبة كأطفال أنا وأخوتي الصّغار، فقد كان في أسفل المكتبة خزانة صغيرة وأدراج ضخمة واسعة، مليئة بقصص الأطفال الخياليّة والعلميّة والكتيّبات التّاريخيّة الصّغيرة، التي تروي الحكايات التّاريخيّة والشّعبيّة وقصص الأدباء والعباقرة من المخترعين والمكتشفين بشكل محبّب لطيف.
لا زلت أذكر شعوري الغامر بالسّعادة حين كنت أفتح تلك الأدراج لأختار قصّة أو كتابا صغيرا ملوّنا، يحكي لي عن عالِم أو مخترع أو أديب، أو قصّة بسيطة تتكلّم بلسانِ الطيّر أو الحيوان أو غيرها من الكائنات.
حوّلتني تلك المكتبة لقارئة شرهة، كنت أنظر إلى تلك الزّاوية من المكتبة على أنّها ملكي الخاص، فقد كان إخوتي يفضلون اللعب على القراءة، لذا كنت أشعر بالتّفرد، وأنّ تلك الزّاوية تخصّني وحدي، فهي تنقلني دون حواجز إلى عوالم أخرى أقابل فيها شخصيّات مميّزة، ذات فكر تاريخيّ، إنتاج وأدب.
كان والدي يعمل معلما في إحدى المدارس الإعداديّة، كنت أفرح بعودته، فهو دائما ما يحمل الجديد من الكتب، كان يتوجّه مباشرة إلى المكتبة، فأشرع في مراقبته وانتظار حصّتي من القصص، ويا لفرحتي فهو لم يخذلني أبدا، كان يفرغ حقيبته الصّغيرة، تلك التي كان يضع فيها دفاتر العلامات الطّلابيّة وكتب المنهاج الدّراسيّ، فيخرج منها ما ابتاعه خصّيصا لنا، يعرضه مبتسما بهيبة وحنان، باسطا محبّته الكبيرة في قلوبنا الصّغيرة.
كنت أطير فرحة برسومها الجميلة، وأنبهر بأبطالها ونضالاتهم بعد وصولهم إلى الهدف، كان ذلك الرّكن هو روح البيت بالنّسبة لي، تتسلل منه الحيويّة إلى قلبي البريء، في أركانه تعلّمت وبدأت بتحصيل علامات دراسيّة عالية، كانت معلمّتي تصفني بالطفلة المثقّفة، فأطير بكلماتها عاليا بأجنحة من فرح وحبور.
غرست تلك المكتبة في نفسي حبّ المعرفة، وساعدتني على بناء فكر مستقلّ، كما دفعت بي لاحترام الآخر وثقافته المختلفة، فرُحت أتشوّق لاكتشاف المزيد من هذا العالم الواسع الشّاسع.
هذا ما تربّيت عليه وتلقيته في ظلّ بيت محافظ هادئ جميل، صنع مفاهيمه الإنسانيّة الخاصّة به، أفكاره، نشاطه وعنفوانه.
لتلك المكتبة الصّغيرة ولوالدي الحبيب كلّ الفضل لما أنا عليه اليوم.
رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته.
(صورتي في المدرسة، العمر 5 سنوات)
الأديبة الفلسطينية صباح بشير/ حيفا