يقاس تطور الأمم بإنتاجيتها المادية والفكرية والإبداعية، وبمستوى مؤسساتها التعليمية وتصنيف مؤسساتها الجامعية، وقوة مراكزها البحثية، ووفقا لجميع هذه المقاييس نجد أن الدول العربية رغم توفر الموارد المادية والطبيعية لديها تأتي في ذيل القائمة، فأين يكمن الخلل، لا شك أن للاستبداد السياسي تأثيرا مباشرا في ذلك، لكن هذا الاستبداد ليس سوى تجلٍ لثقافة مجتمعية عميقة تفرخه وتتغذى عليه، فهذه المجتمعات تعاني من سيادة التقاليد والتوجس من الوافد الجديد، وأغلب مؤسساتها الاقتصادية والأكاديمية والثقافية والفكرية موجهة من قبل شخصيات هرمة بدنيا وفكريا، تظن نفسها وصية على عقل المجتمع وفكره واقتصاده، وأن ما تم إنجازه لا يمكن الإتيان بمثله فضلا عن تطويره وتجاوزه.
إن هذا الفكر الجامد الذي يرى في الحركة تهورا وفي التغيير سفاهة، وفي السكون حكمة والجمود رشاد هو السبب المباشر في سبات العقل العربي قرونا طوالا، إنه العقل الوسن الذي يرى في كوابيسه أن التقدم فوضى وأن إكمال المسير وقوع في الهاوية وأن استمرارية البناء ترف، وأن من يدعو إلى إعمال العقل الفكري والتجديد الثقافي والبناء الاقتصادي مجموعة من المتطفلين الذين لا يفقهون الأعراف ولا يفهمون التقاليد ولا يؤمنون بقدسية السكون.
لا يمكن للمجتمعات أن تتقدم ما لم تؤمن بقدسية الحركة وأنها جوهر الوجود، فلا شيء ثابت، ولا جسم مستقر، وأن أشلاء الكون انطلقت بعد الانفجار العظيم في جميع الاتجاهات متسابقة لتشكل النجوم والمجرات، وكما يجري قانون الحركة على الكون يجري كذلك على فكر الإنسان وبدنه، فهذه سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا، كما أن تاريخ المجتمعات البشرية قائم على مبدأ التفاعل المادي والتدافع الفكري “الديالكتيك” وتدافع المصالح والغايات التي اعتبرها القرآن الكريم أساسا لتحصين المجتمعات من الفساد، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ}البقرة:251.
لقد ارتبطت نهضة الأمم بقوة حراكها الفكري وعمق طرحها المعرفي، فالأمم التي يتلاطم في وعي نخبها أمواج الأفكار تكون أكثر إبداعا وأغزر انتاجا من الأمم التي تمنع التفكير وتصادر حرية التعبير، والمجتمعات التي تتصف بالحيوية المعرفية والشباب أكثر قدرة على البناء والصعود الحضاري من المجتمعات التي تعاني من الشيخوخة المعرفية والجمود حيث يتضخم تأثير التيارات المحافظة دينيا واقتصاديا واجتماعيا، فيقف التيار المحافظ أمام كل محاولة للتجديد مرة باسم الدين وتارة باسم الأعراف الاجتماعية وأخرى باسم الأمن السياسي والاقتصادي.
لا شك أن نزعة المحافظة لها ما يبررها، فالإنسان يميل إلى الراحة والفرار من المشقة، بينما ترتبط تجربة الجديد بالكد وبذل الجهد، بالإضافة إلى إمكانية فشل التجربة وما يترتب عليها من شعور بألم الخسارة، لذلك يميل أغلب البشر إلى التقليد وتكرار ما يفعلونه أو محاكاة ما يفعله غيرهم، بالإضافة إلى عامل السن الحاسم حيث تصل ذاكرة الإنسان أوجها في أواخر سني النضج، فيشعر الإنسان بأن ذاكرته المتخمة بالخبرات كفيلة بمواجهة جميع التحديات، ويؤدي شعور الثقة المفرط بالذاكرة إلى محاولة تحصينها ورفض كل ما من شأنه التشكيك في معارفها، فتكون الذاكرة التي تمثل الماضي هي الحاكمة على الحاضر والراسمة لملامح المستقبل الذي هو ليس شيء آخر سوى تكرار ممل للماضي بجميع خساراته وفرصه الضائعة.
ولولا وجود قلة من الناس تقدس الحركة وتمقت الجمود، فتكسر أغلال العادة وتتجاوز المألوف إبداعا واختراعا لما نهضت المجتمعات ولا تقدمت الأمم، ولظلت البشرية عالقة إلى يومنا هذا في اللحظة الزمنية التي ظهر فيها الإنسان الأول الذي لم يكن يجرأ على الاقتراب من النار خشية الاحتراق، بيد أن الفضول المعرفي لتلك القلة الاستثنائية قد حول النار من كائن مخيف إلى أداة استفاد منها الإنسان في جميع مناحي الحياة.
لا شك أن مجتمعاتنا العربية تعاني من مظاهر الشيخوخة المعرفية، فخطابها السائد يستدعي الماضي في كل حين، وهناك اعتداد متضخم بالتاريخ والذاكرة، كما أن هناك اتهام مسبق لكل فكرة جديدة وتوجس من كل منهج جديد، وهناك حدية في المواقف ضد المختلف، وهناك غياب للمبادرة المعرفية وسيادة لحالة ردود الأفعال، ولا يوجد حديث من الأفكار إنما هو محض تكرار، ولا تسمع من القصص والأشعار سوى صدى ومحاولة تشبه بالآخرين، وأكبر مساوئنا هي البطء في التقدير ففاتنا الكثير، وتقدم الآخرون علينا فكرا وأدبا واقتصادا وعسكرة ونحن ساكنون.
إن الوعي بالمشكلة هو الخطوة الأولى في طريق الحل، وهذا الوعي ينبغي ألا يكون نخبويا بل يلزم تعميمه على الفاعلين الأساسين في المجتمع، وأقصد بهم رجال السياسة والاقتصاد والأكاديميين والتربويين والأدباء والفنانين والإعلاميين، وحين يتوفر الوعي بالمشكلة تأتي الحلول تباعا، وتتداعى الأفكار لانتشال الأمة من سكرة السكون التي تبتلعها، وأول هذه الحلول وأهمها إنما يتمثل في البحث عن القلة الطليعية الملهمة، وأن يحتضنها ويحميها من غلاة الفكر المحافظ ويغذيها بالتشجيع وينفخ فيها روح الجدارة والقدرة على الابتكار والاكتشاف وخط مسارات جديدة للإبداع والثقافة والفكر والمعرفة وبالتالي نهوض المجتمع معرفيا وعلميا واقتصاديا، كما ينبغي مراجعة المناهج التربوية والتعليمية وتجريدها من أدوات التفكير المحافظ “من ومتى” واستبدالها بأدوات التفكير النقدي “كيف ولماذا”، وعلى المشرعين إزاحة القوانين التي تحد استقلال التفكير وتكبت حرية التعبير، وعلى الأكاديميين والتربويين فتح مسارات جديدة للحوار وطرح الجديد من الأفكار، وعلى المؤسسات الاقتصادية أن تحمي أصحاب المبادرات الصغيرة من احتكار المؤسسات الكبيرة، وعلى الإعلام أن يحتفي بالأدباء والفنانين والمبادرين ويبرزهم للمجتمع كقدوات بدلا من الشخصيات المُسِفّة التي تتناسل يوميا في التيك توك وأشباهه.
هناك بلا شك حلول أخرى كثيرة نتركها لوقتها أو ربما يقدمها من هو أجدر منا من المختصين في المجالات الفكرية والاقتصادية المختلفة، لكن المهم أن نتفق جميعا على أن حالة السكون مرتبطة بالموات ومفارقة
بقلم ا. زكريا المحرمي
مفكر و كاتب عماني