توقفت الحافلةُ على الكورنيشِ ؛ غادرتُها ، ودلفتُ إلى شارعٍ ضيقٍ ؛ يوصلُني للطريقِ الرئيسةِ ، لا أتبينُ كفَ يدِي ، سيولُ السماءِ لا تتوقفُ ، أحاولُ إيجادَ ملجأ ؛ يقيني شدةَ الرياحِ والمطرِ ، أبصرتُها في ثوبٍ أسود قد صبغَ الشيبُ رأسَها ، تقفُ عندَ مدخلِ بيتٍ قديمٍ ؛ تشاهدُ المطرَ ، فهرولتُ إليها ؛ أحييها وأقفُ لجوارِها في مدخلِ البيتِ ؛ ريثما تهدأ الرياحُ وتتوقفُ الأمطارُ ، فبادرتني بنظرةِ رضا شجعتني أن أسألُها :
– هل لديكم غرفة على سطحِ البيتِ ترى البحرَ تكونُ للإيجارِ ؟
أشارت لي أن أجلسَ على أريكةٍ عتيقةٍ في مدخلِ البيتِ بالكاد أراها ؛ فقد انقطع تيارُ الكهرباءِ ربما جراءَ المطرِ .
– تفضلْ بالجلوسِ يا أستاذ .. لا تؤاخذْني لانقطاعِ الكهرباءِ ، غداً نصلحُه فلم يأتنا أحدٌ لإصلاحِه بسببِ تلك الأجواءِ .
– لا تشغلي بالك عموماً أشكرك .. يا ساتر يا رب النوةُ شديدةٌ الليلة .
– تستطيعُ أن تشرفَنا غداً في ذاتِ الموعدِ ؛ أكونُ قد أعددت لك عقدَ إيجارِ غرفةِ السطحِ ، وأنا متأكدةٌ أنها ستعجبك ، سأنتظرك في مثل ذلك الوقتِ غداً .
– أشكرك .. ها هو المطر قد توقف ؛ سأنصرف وغداً نلتقي .
– مع السلامةِ يا أستاذ .. شرفتنا .
وفي الوقت المُتفَق عليه مساءَ اليومِ التالي .
وصلتُ حسبَ الموعدِ ، فوجدتها جالسةً في الظلامِ على الأريكةِ ، تكادُ عيناها تضئُ في الظلامِ ، جامدةَ القسماتِ ، بادرتني قائلةً :
– لا تؤاخذْني .. لم يأتْنا أحدٌ لإصلاحِ العُطل الكهربيِ حتى الآن ، اتبعْني ؛ كي أوصلَك السطحِ ، الغرفةُ جاهزةٌ لاستقبالِك .
– أرجو ذلك .
صعدت خلفَها ، وأنا أتحسسُ دَرَجَ السُّلَمِ حتى وصلت السطحَ ، لكن ما هذا الصمتُ المطبقُ ؟ أليس في البيتِ سكانٌ ؟ الصمتُ يطبقُ على كلِ شيءٍ ، والمدهشُ أنني لا أسمعُ سوى وقع أقدامي فقط ، فينتابني الخوفُ ، و كأني أسيرُ في المقابرِ وحدي ليلاً . فإذا بفتاةٍ في جلبابٍ أبيضٍ فضفاضٍ ، ينسدلُ شَعرُها على وجهِها ؛ لا أكادُ أميزُ ملامحَها ، تلهو بجوارِ سورِ السطحِ المنهارِ ببالونةٍ تُمسِكُ بها ، فناديتُها محذراً :
– حذارِ أن تسقطي .. السورُ منهارٌ هنا ، كيف تتركيها تلهو في الظلامِ في تلك الأجواءِ الباردةِ ، والسورُ محطمٌ قد تسقطُ منه ؟
– إنها حفيدتي تعيشُ معي بعدَ موتِ أمِها وزوجي في حادثِ وهما يعبران طريقَ الكورنيشِ ، لا تقلقْ فهي واعيةٌ كفاية للسورِ المحطمِ .
توجهت للفتاةِ بقلبٍ حانٍ كي ألاطفَها ، فانطلقت صوبَ السورِ مبتعدةً عني ، ونظرت لي نظرةً جعلت جسدي يرتعدُ ، نظرة لا يمكنُ أن تكونَ لطفلةٍ أبداً ، فقد اقشعر لها جسدي ، فاستدرت لأجدَ وجهَ المرأةِ يكادُ يلتصقُ بوجهِي .
– اتفضلْ يا أستاذ ، ها هي الغرفةُ ، أرجو أن تعجبك ، وآسفةٌ لانقطاعِ التيارِ غداً نصلحُه ، ليلتك سعيدة .
دخلت الغرفةَ أقلبُ بصري ، فلا أميزُها جيداً لشدةِ الظلامِ ، فتوجهتُ نحوَ النافذةِ الزجاجيةِ ، ألقيتُ على البحرِ نظرةً ، فإذا بي وكأنني رائدُ فضاءٍ يسبحُ في ظلامِه السرمدي ، لكن فكري مشغولٌ بغموضِ تلك المرأةِ وحفيدتِها ، لا يطاوعني النومُ في تلك الليلةِ المطيرةِ ، شدني صوت دبيب على السطحِ ،على ما يبدو أنها الفتاة تلهو ، قررت الخروج لها ، لإقناعها بعدم اللهو في ذلك الظلامِ الدامسِ وتلك الأجواءِ الباردةِ ، وعندما فتحت بابَ الغرفةِ فجأةً لمْ أجدها ..
- أين اختفت يا ترى ؟!
جال في خاطري أن أنزلَ للجلوسِ على مقهى قريبٍ ، لكن الظلامَ على السلم شديد ، والصمت رهيب ، أشعرُ بأنفاسِ أحدٍ ما ، أكاد أحسُ حرارةَ أنفاسِه على خَدي ، يصيبني الخوفُ فأسرعُ للغرفةِ ، وقد أغلقتُ البابَ أحاولُ أن أتلهى بشيءٍ ينسيني الخوفَ من ذلك الغموضِ ، وقضيت ليلتي منشغلَ الفكرِ ، حتى نشرَ الفجرُ خيوطَه ، فدخلت في نومٍ عميقٍ لم أستيقظْ إلا والظلامُ يلفُ المكانَ ، فقد نمت النهارَ كلَه ، عبثاً أحاولُ لا أجدُ بصيصَ نورٍ فلم يعدْ التيارُ الكهربائي بعدْ ، والصمتُ يطبقُ على المكانِ ، تسللتُ ببطءٍ وعلى دَرجَ السَّلمِ أشعرُ بحرارةِ أنفاسٍ خلفي ؛ يقشعرُ بدني ، أسرعُ قدرَ استطاعتي ، حتى وصلت بابَ الشارعِ الضيقِ الذي يغطيه الظلامُ ، لمحت دكاناً صغيراً ، ينبعثُ منه ضوءٌ خافتٌ كنجمٍ يلمعُ في فضاءٍ من الظلامِ والصمتِ ، ولكن كيف لم ألحظْ وجودَ هذا الدكانِ عندَ قدومي بالأمسِ ؟!! .
– مساءُ الخيرِ
– مساءُ النورِ
– هل أجد عندك زجاجةَ ماءٍ ؟
– حضرتك جديدٌ هنا ؟
– نعمْ استأجرتُ غرفةَ على سطحِ البيتِ الكائنِ أخرَ الشارعِ قُربَ البحرِ .
– أي بيت ؟
– هذا في أخر الشارعِ يساراً
– إنه بيتٌ مهجورٌ منذ سنواتٍ
– كيف ؟!! أنا استأجرتُ غرفة على سطحِ البيتِ من امرأةٍ تعيشُ معها حفيدتُها هناك
– اللهُ يرحمُهما .. منذ سنواتٍ بعيدةٍ كانت حفيدةُ حارسِ العقارِ تعيشُ مع جدتِها ، وفي ليلةٍ شتويةٍ باردةٍ ، انهار على أثرِها جزءٌ من سورِ السطحِ ، كانت قد استندت إليه المرأةُ وحفيدتُها فسقط بهما ؛ ولقيا مصرعَهما ، وظلت أشباحُهما في البيتِ لا تغادراه ؛ فهجر السكانُ البيتَ ، ومنذ ذلك الحينِ ، والبيتُ مهجورٌ ؛ تسكنُه الأشباحُ .
– يا للمصيبة .. وكيف سأحضر حقيبَتي من غرفةِ السطحِ بعدَ كلِ ما سمعت منك الآن .
– لا تقلقْ هذا وقتُ إغلاقِ دكانِي ، سآخذ مصباحاً ، و أصعدُ معك لإحضارِ حقيبتِك
– أشكرك جداً ولكنني جدٌ خائفٌ
– لا تخفْ معنا مصباحٌ يضئ لنا وربنا يستر
دخلت خلفَ الرجلِ ، تتخبطُ ساقاي رعباً ، الرجلُ مُحِقٌ ؛ أبوابُ الشققِ مغلقةً ، يعلوها الغبارُ ، وخيوطُ العنكبوتِ تملأ المكانَ المشهدُ فعلاً مريع .. مريع جداً .
الآن أدركتُ سرَ الصمتِ الرهيبِ ، وصلنا سوياً للسطحِ ، فوضعتُ يدَي على كتفِ الرجلِ ، أستندُ إليه كي تطمئنَ نفسي ، وعندَ دخولِ الغرفةِ يسقطُ ضوءُ المصباحِ على ” بروازٍ ” به صورةٌ للرجلِ نفسِه ، وقد تدلى عليها شريطٌ أسودٌ !! أنظرُ إلى الرجلِ فلا أجدُه ، اختفى فجأةً من بينَ يدِي ، واختفى معه الضوءُ …
الأديب المصري سمير لوبه