في موقعنا منذ انطلاقتنا نبحث عن الأقلام المبدعة في مختلف المجالات ونعتز بوجود الطثيرين منهم أصبحو من فريق العمل الذي نعتز به التي باتت أسرة تعمل بشغف لافت , ومن دواعي فخرنا أن نحظى في موقعنا بوجود مقالة لمفكر وكاتب يشكل علامة فارقة لموقعنا … مفرداتنا تعجز عن تسطير ترحيب يليق به … أهلا به معنا باسمي مديرة الموقع والعاملين فيه
أنرت المفكر و الناقد المصري الكبير الدكتور عادل ضرغام
أستاذ التعليم العالي للادب و النقد بكلية العلوم
جامعة الفيوم/جمهورية مصر العربية
******
عادل ضرغام
نظرية أدب ما بعد الاستعمار نظرية أدبية تهتم بالخطاب المضاد، الذي ينطلق في الأساس من فكرة سقوط النظام التأسيسي للحداثة، المؤسس على قيمة الرجل الأوربي وتفوقه وتعاليه، وظهور الآخر المغاير المهمش بوصفه عنصرا فاعلا له قدرة على التأثير وتشكيل سياقه الحضاري، وله القدرة على إدارة شئون نفسه والمحافظة على خصوصيته وحضوره اللافت في الثقافة والمعرفة والسياسة والاقتصاد.
وتتشكل حدود (أدب ما بعد الاستعمار) في إطارين مهمين؛ أولهما مقاومة الهيمنة، فلحظة ما بعد الاستعمار – كما تقول ليلى غاندي– هى لحظة الاحتقار المشحون ببلاغة الاستقلال وغبطة تحرير الذات، يتمثل الإطار الآخر في نقض خطابات الهيمنة التي استند إليها الاستعمار في تسويغ وتبرير وجوده، فكتّاب ما بعد الاستعمار- يتوجهون موضوعيا وشكليا –للقضاء على الخطابات التي كانت مساعدة للاستعمار مثل أساطير القوة، وتصنيفات الأجناس والأعراق القائمة على التبعية في إطار المركز والأطراف، فكتابة ما بعد الاستعمار تأثرت بشكل عميق بتجارب التعدد الثقافي في ظل الإمبراطورية.
فالفترة الزمنية التي يمكن أن نطلق عليها فترة ما بعد الاستعمار تأتي كاشفة عن بعض الممارسات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية المرتبطة بالمقاومة، في أماكن كثيرة من العالم، وفي إطار ذلك يمكن فهم قلق بعض المحللين والدارسين تجاه المصطلح ومشروعية استمراره بانتهاء الظرف التاريخي، فهم يرون أن المصطلح طبق بوصفه منطلقا لنظرية لمقاربة الآداب في لحظات تاريخية محددة، ومناطق جغرافية متباعدة، وهويات ثقافية ومعضلات سياسية وممارسات قرائية متباينة، أي يرتبط بلحظات إبداعية مشدودة لسياقها وحدودها الزمنية.
ولكن تأمل آليات التعامل بين الدول في اللحظة الآنية التي تكشف عن أن الوجه الإنساني للعولمة في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية واللغوية، لا يعدو أن يكون وجها شكليا أو قناعا، يكشف عن وجوه دالة كاشفة عن الهيمنة والتسلط والتحكم، وأن هذا التوجه المثالي الذي يدعو ويدعم التعدد الثقافي يكشف في النهاية عن محاولات لتثبيت وتفعيل الثقافة الواحدة واللغة الواحدة، والأشكال الأدبية العالمية التي تطلّ بوصفها مستوى مثاليا يتوجه نحوه الجميع بالتقليد والدوران حوله، والذوبان في حدوده. بالإضافة إلى أن أدب ما بعد الاستعمار يبحث عن معاينة الأثر النفسي أو الروحي الذي تراكم، وأصبح يكبّل الإنسان بعد أن تمّ تنميطه في قالب محدد من خلال تمثيلات القوة، فاكتسبت هذه التمثيلات نوعا من المشروعية من جانب، واكتسبت نوعا من الاستمرارية من جانب آخر، ومن ثم فهي تحتاج إلى مدى زمني حتى تتلاشى. ويمكن أن يسوّغ الاستمرار لهذه النظرية استمرار آليات الاستعمار بشكل أو بآخر من خلال تجليات مغايرة.
وقد سبقت مصطلح (أدب ما بعد الاستعمار) مصطلحات أخرى مثل (دراسات أدب الكومنولث) بداية 1960 إلى 1970، وأنواع أخرى من النظريات الأدبية، تأتى بوصفها بدايات لأدب ما بعد الاستعمار تتجلى في تطبيقات جزئية وثيقة الصلة بمكان محدد. ولكن أدب ما بعد الاستعمار – في إطار هذا التصور- جاء خطابا مضادا للخطاب الأدبى الاستعماري في نطاق عام بعيدا عن التحديدات المكانية أو العرقية، ليصبح مشدودا إلى عموم الفكرة دون تركيز على بلد دون آخر، ولهذا أخذ تجليه في الدرس الأدبي أو الثقافي شكل النظرية العامة غير المشدودة إلى عرق أو جنس، وهي لذلك تستطيع أن تصوغ المتباين والمختلف داخل نسق عام، وتستطيع صياغة مصطلحات وإجراءات لها صفة الشمول. فالأدب ما بعد الاستعماري يشير إلى الكتابة المختصة بالتجربة والتصورات الاستعمارية، وكتبتْ غالبا من خلال وجهة نظر أناس ينتمون إلى البلد المستعمَر، حيث يسهم الكتّاب فى خلق اتجاهات معقدة، تجعل التصور أو الوجود المهيمن وبنياته جزءا من نظام الأشياء والحياة والوجود.
إن خطاب المستعمِر في إطار هذا السياق يشير إلى مجموعة من الممارسات الرمزية، والإشارات النصية والمعاني الضمنية والهرمية التي أكدتها أوربا أثناء عملية التوسع الحضاري والاستعماري. وأدب ما بعد الاستعمار – بوصفة خطابا مضادا في ظلّ ذلك التصور- هو الأدب الذى وجد بعد النظام الأمبراطوري، ويأتي مهموما بتأمل ومساءلة العلاقات الاستعمارية التي كانت شائعة في لحظة ما، ويفحص أيضا تجليات استمرارها في تجلّ جديد، ويقاوم وجهة النظر الاستعمارية، ويعرض في إطار مقابل التجارب الثقافية التي تم التنبه لوجودها بعد زوال الاستعمار، وفى ذلك يشير أشكروفت إلى أن المصطلح استخدم لوصف كل الثقافات التي تأثرت بعمليات الإمبريالية الأوربية بداية من اللحظة الآنية إلى الوقت الحاضر.
ومن ثم فأدب ما بعد الاستعمار مهموم بتحليل الأشكال الثقافية التى تعكس العلاقات بين المهيمن والمهمش، في التوجهات الثقافية والسياسية والعرقية والقومية. وقد دفع ذلك التوجه ليلى غاندي أن تقول ( إن نظرية ما بعد الاستعمار والنسوية على حد سواء، بدأت كل واحدة منهما بمحاولة قلب النظام الهرمى للجنس والثقافة والعرق، ورحبت كل واحدة منهما ترحيبا تدريجيا بدعوة ما بعد البنيوية في رفض الثنائية المتعارضة والقائمة على البناء الهرمي، والسلطة الاستعمارية المتشكلة في بنيته).
إدوراد سعيد والخطاب المضاد
قبل الحديث عن دور إدوارد سعيد المؤسس لنظرية أدب ما بعد الاستعمار، يجب أن نشير إلى مجهودات فرانز فانون في كتابه( معذبو الأرض)، وقد جاء هذا الكتاب معبّرا عن نشوة البلدان التى نالت استقلالها، كاشفا عن العمليات المعقدة المرتبطة بالتحول من المكفول إلى الكفيل، مشيرا إلى المعضلة الحقيقة التى قابلت البلدان التى نالت استقلالها، وأصبح مطلوبا منها أن تدير أمورها بنفسها، ومن ثم جاء الكتاب مشدودا إلى النشوة المشوبة بالعجز والخوف والإحساس بالقيد.
لقد أعطى الفكر الخاص لما بعد البنيوية دفعة قوية لدراسات ما بعد الاستعمار من خلال النقد الواضح والفاعل للحضارة الغربية. يعتبر مشروع إدوارد سعيد حجر الزاوية في تأسيس ملامح نظرية أدب ما بعد الاستعمار، وذلك من خلال كتابه ( الاستشراق )، واستناده الى ( خطاب المستعمِر )، للإشارة الى المعرفة الخاصة بأفريقيا التي شكلت من خلال الغرب لدعم الاهتمامات الاستعمارية، ومن منطلقاته الأساسية التقسيم بين الغرب والآخرين, يقول أحد الباحثين ( يأتي إدوارد سعيد في طليعة محللي الخطاب الاستعماري، بل ويعده بعضهم رائد الحقل، فقد استطاع بمفرده أن يفتح حقلا من البحث الأكاديمي، هو الخطاب الاستعماري، ذلك إن دراسته للخطاب الاستعماري، خطاب تلتحم فيه القوة السياسية المهيمنة بالمعرفة والإنتاج الثقافي. غير أن تحليل إدوارد سعيد جاء مرتكزا على سياق معرفي وبحثي سابق له، يتضمن جهود اثنين من المفكرين الغربيين والمعاصرين، هما الفرنسي ميشيل فوكو, والإيطالي أنطونيو جرامشي، ويمكن اعتبارهما ممن وضعوا أسس البحث في الخطاب الاستعماري.
في كتاب الاستشراق Orientalism، تابع إدوارد سعيد أفكار فوكو في شيئين مهمين، الأول منهما يتمثل في سؤاله عن مفهوم السلطة أو القوة وكيفية اشتغالها، ففوكو يرفض مفهوم السلطة القائمة على فكرة القمع البسيط، بل بوصفها شيئا يتسرب أسفل الكيانات الكبرى. والشيء الثاني – كما يشير bart moore و glbert – يتمثل في القاعدة أو الحجة التي ترى بأن الخطابات وسيط يُبنى بالقوة أو السلطة، ومن خلال ممارستها تشكل موضوعات المعرفة، وقد أشار ( فوكو ) في (النظام والعقاب) إلى إن الخطاب لا ينتج الواقع فقط، بل ينتج الهيمنة الموضوعية وطقوس الحقيقة.
ففي هذا الكتاب يقدم إدوارد سعيد نماذج ثابتة وآليات متعددة، لتحليل تاريخ الثقافة الأنجلوفونية، وتقاليدها النصية، فهو يريد أن يثبت علاقة ما بين الثقافة الغربية في تجلياتها الابداعية العديدة والتوجه الإمبريالي الاستعماري، لكي يثبت للقارئ أن هذه الثقافة غير بعيدة عن السياسات والاعتبارات والمواقع المرتبطة بالسلطة أو القوة. وقد استند سعيد إلى ملمح التكرار بالنسبة للنصوص، فالتكرار يفرض محددات خاصة في التفسير، فالتكرار في النصوص الأدبية – في كتاب سعيد كما يقول أشكروفت- يأتي حاسما في تحليله لنصوص الاستشراق، التي تشكل الشرق، وتشكل الغرب في مكانة فوق مكانته، الاستشراق باختصار يركز على الكيفية التي تشتغل بها القوة أو السلطة في المعرفة، فالعمليات التي عرف بها الغرب الشرق كانت عمليات بها ممارسات للقوة.
وقد أشار إدوارد سعيد بشكل مباشر إلى هدفه الأساسي من كتاب الاستشراق في مقال له بعنوان ( تمثيل التابع والمحاورون الأنثربولوجيون)، حين يقول ( حينما وضعت كتابي الاستشراق كان الهدف الذي وضعته نصب عيني هو أن أقدم منهجا نقديا مضادا، بحيث لا يقتصر هذا المنهج على محاربة أهداف الاستشراق بوصفه مجالا له محاوره المتصلة بالاقتصاد السياسي، بل بحيث يمتد هذا الأمر إلى السياق الاجتماعي الثقافي الذي يسمح بوجود الخطاب الاستشراقي، ويدعم فرصه في البقاء والاستمرارية).
ويعلل إدوارد سعيد نشأة بعض العلوم وطبيعة تشكلها في إطار هذا الفهم، فحين يتوقف عند الإنثروبولوجيا يشير إلى إنها نشأت وتشكلت تاريخيا خلال الفترة التي شهدت المواجهة الإثنوجرافية بين المراقب الأوربي المهيمن والساكن الأصلي غير الأوربي ذي المنزلة الأدنى. وقد تعرض مشروع إدوارد سعيد وكتابه في إطار هذا المنحى لهجوم حاد من بعض المنظرين والباحثين، مستندين في ذلك إلى بعض الجزئيات، يتمثل في كونه لم يفرق تفريقا واضحا بين استشراق القرن التاسع عشر لدى فرنسا وبريطانيا، والمقابل لهما في القرن الأمريكي الأخير أو الاستشراق، فكل هذه الأشكال وغيرها يتعامل معها على إنها وحدة واحدة .
وثمة جزئية أخرى تتمثل في أن هناك توجهات استشراقية لم تتحول إلى ممارسة استعمارية، فالاستشراق الألماني والروسي – كما يقول حفناوي بعلي– بريئان بالمعنى الأكاديمي، ولم يتأثرا لا بالنزعة الكولونيالية، ولا بتصوير العربي على نحو قبيح، فما رأيه مثلا في مستشرق مثل ( نولدكه ) الذي دعا إلى تدريس المعلقات الشعرية في المدارس الابتدائية بدلا من النصوص الألمانية.
هناك إشارة أخرى في نقد مشروع إدوارد سعيد تتمثل- كما يشير الكثير من الدارسين- في معالجته البلاغية، وتعامله مع أشياء بديهية، تم الاشتغال عليها كثيرا من قبل علماء التاريخ، بالإضافة إلى عدم القدرة على فهم التاريخ وحركيته، وخاصة التاريخ الامبراطوري، وعدم معرفته الكافية بنقاد التوجه اليساري.
ولكن يظل إدوارد سعيد ويظل كتابه الاستشراق- بالرغم من هذه الآراء والمآخذ- كتابا مهما وأساسيا لبناء نظرية أدب ما بعد الاستعمار منطلقا في ذلك السياق من مقولة فريدريتش نيتشه، حيث يقول إن النصوص حقائق للقوة، وليست للتبادل الديموقراطي، وبعيدة عن التبادل بين متساويين، وهذه الحالة مشابهة إلى حد بعيد بالعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، والقامع والمقموع.
أفادت الناقدة الأمريكية ذات الأصول الهندية جايتريا سبيفاك من إسهامات إدوارد سعيد، ويعتبر إسهامها في مجال نظرية ما بعد الاستعمار من الأعمال المبدعة، وذلك من خلال تحليلها الدقيق للأشكال الثقافية المرواغة. واهتمام سبيفاك الأساسي موزع إلى مجالين (أدب ما بعد الاستعمار)، و( النقد النسوي )، وهما مجالان متصلان اتصالا قويا؛ لأنها ركزت على دراسة ( التابع ) المقموع، وخلّصت مفاهيم إدوارد سعيد من المسّ السياسي البلاغي، وجعلت دراساتها مشدودة إلى كل تابع في تجلياته العديدة من اجتماعي أو ثقافي أو جنسي، ففي ( ثلاثة نصوص للمرأة ونقض الإمبريالية ) تركز سبيفاك على الشخصيات الهامشية، والحبكة الجانبية، التي تتجلى بوصفها موضوعات هامشية لاستخراج الطبيعة العنصرية غير الواعية للأطر المفاهيمية التي تعمل في نصوص المرأة في القرن التاسع عشر.
وبالرغم من إن مصطلح ” التابع ” استخدم من قبل منظرين آخرين،( تحت مسمى الآخر ) قبل سبيفاك في كتابات منظرين عديدين مثل ( هيجل – سارتر – وإدوارد سعيد )، إلا أن هذا المصطلح تم تخصيبه واشتغاله بشكل فاعل من خلال إسهاماتها، والاشتغال على تنويعات ودلالات هذا المصطلح، بالإضافة إلى اهتمامها المتنوع الخلاق، فهي متعاونة مع الحركة النسوية بالجزائر، ومهتمة بمتابعة الأعمال الأدبية التي تحمل صدى أدب ما بعد الاستعمار، مثل كتابات آسيا جبار، وسلمان رشدي، وحنيف قريشي.
أفادت سبيفاك من تحديدات جرامشي لهذا المصطلح، فقد استخدمه لكي يشير إلى مجموعة من الفلاحين غير المنظمين في جنوب إيطاليا، وليس لديهم وعي اجتماعي أو ثقافي، وهم لهذا السبب ملائمون لتقبل الأفكار والثقافة والقيادة من الدولة. وتخلصت سبيفاك من الثقل السياسي لمفهوم الآخر عند هيجل و سارتر، ووسعت إلى حد بعيد مجال اشتغال مصطلح التابع لدى جرامشي، فقد جعلته مصطلحا مرنا يستطيع أن يستوعب الهويات الإجتماعية مثل المرأة والمستعمر، وهي فئات لا تدخل في إطار المصطلحات التخصصية الصارمة للتحليل الطبقي.
ودراسة سبيفاك (هل يستطيع أن يتكلم التابع)، دراسة مهمة لأنها تفصح عن اهتماماتها العلمية بوصفها ناقدة تهتم بالتنقيب عن أصوات الجماعات أو الفئات المنبوذة الصامتة، التي لم يكن لها في فترات سابقة حق التعبير عن نفسها، فهي – كما يقول ستيفن مورتن – تركز على العامل أو المرأة في الخطاب السياسي، الذي يقدم عادة من خلال الوكيل السياسي أو من خلال أي شخص منتخب، ذلك الذي يتحدث نيابة عن هذه الدوائر، مثل هذه الخطابات تحاول أن تقدم هذه المجموعات المنبوذة، وكأنها تتحدث عن مجموعة سياسية موحدة.
تشكل في إطار أدب ما بعد الاستعمار مفهوم الآخر، وأصبح جزئية مركزية فقد أشار إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) (إلى أن الشرق واحد من أهم وأعمق صور الآخر المتكررة بالنسبة للأوربي).وهذا جعل نظرية ما بعد الاستعمار مرتبطة، ولا يمكن فصلها عن النقاش المهم بين السياسيين والمثقفين في العالم الثالث في الفترة من 1960 إلى 1970، ومن خلال تحديدات مصطلحي (القومية) و(الماركسية) بوصفهما نموذجين للانعتاق السياسي.
الرد بالكتابة وتمثل الشكل
أي بلد في مرحلة ما بعد الاستعمار( أى حقق الاستقلال التام )، يظل – أيضا- متجذرا ومرتبكا في إطار الاستعمارية الجديدة، أى في إطار بقائه في ظل المستعمِر اقتصاديا وثقافيا. فأثر المستعمر يمكن أن يظل موجودا، بعد أن ينال المستعمَر استقلاله. فقد تشكل أدب ما بعد الاستعمار تحت تأثيرات فكرية محددة، ويرتبط بشكل نموذجى ومعرفي بأعمال ( ميشيل فوكو) و( لويس ألتوسير )، حيث يهتم مشروعهما الفكري بالممارسة النصية وعلاقتها بالقوة، فألتوسير الرائد الفرنسي للماركسية البنيوية مدح الأساتذة لمقاومتهم الأيديولوجيا التي تأصلت في المؤسسات التعليمية، ويتشابه مع ذلك معادلة المعرفة والسلطة لدى فوكو التي أنتجت راديكيالية الفريق المعارض والمهمش.
فقد حاولت الامبراطورية البريطانية والدول الأوربية أن تضع حاجزا بين فريقين، كما أشار (فرانز فانون) في كتابه ( الجلد الأسود والأقنعة البيضاء)، فقد أوضح أن الاستعمار بمفاهيمه الواضحة بعلو شأن وقيمة الجنس الأبيض على البشر والأعراق غير البيضاء، خلق شعورا بالتقسيم والعزل في الهوية الذاتية للمستعمَرين غير البيض، فالتاريخ والثقافة واللغة والعادات الخاصة بالمستعمِر أصبحت في فترة الاستعمار عالمية ومتفوقة بالنسبة للثقافة الأصلية للمستعمَر .
وتجاوب مع هذا التوجه في تشييد (الأعلى) و (الأدنى)-أو بشكل قد يكون أكثر صحة – شارك في عملية التشييد هذه وجود سياق أدبي يسهم في تجذير هذه الثنائية، (فديفو) في روبنسون كروز يعزّز الفرضيات المعرفية التي تبنتها ودعمتها الامبراطورية الإنجليزية، فهي تختص بصناعة التقليد الغربي، التي أثرت على نحو ما في الإبداع في الأدب الأفريقي. ففي (روبنسون كروز) يقفز ديفو داخل عالم المجاهل الخاصة بأفريقيا والأفريقيين، حيث تصور طبيعة القارة بوصفها مأهولة بأكلي لحوم البشر والوثنيين، ولغتهم المحلية ليست إلا نوعا من الرطانة.
تمثل رواية روبنسون كروز لدانيال ديفو (1719) م – كما يقول أحد الباحثين – (مثالا نموذجيا للتجربة الاستعمارية، وممارسة التفسير والتأويل قد تقدم الإجابة بشكل واضح، فكروز الناجي الوحيد من الغرق، ومن المجاعة ومن الجهل ببناء نفسه، ومن خلال استثمار الأرض بعمله، مطورا ذلك من خلال التقاليد البروتسانتية وحاميا إياها، ببناء الحوائط العالمية).
فالسرود أو القصص أصبحت الوسيلة أو الأداة التي تستخدمها الامبراطورية العظمى لتأكيد هيمنتها، واستمرار تلك الهيمنة، ومن ثم جاءت بعض الروايات كاشفة عن هذا التوجه مثل (روبنسون كروز) لديفو، أو (قلب الليل) لكونراد، فقد سوّغت مثل هذه الأعمال الأدبية مشروعية الاستعمار، وجعلتها ضرورية في ظل سياقها الحضاري، فإذا كانت هذه الشعوب بدون حضارة أو ثقافة أو لغة، فهي – بالضرورة – غير قادرة على تملك الأرض، وغير قادرة على تمثيل نفسها.
وجاء الرد من خلال أدباء ما بعد الاستعمار مثل تشينو تشابي في رواية ( الأشياء تتفكك)، ورواية ( الخصم ) لكوتزي، فقد حملت رواية تشابي إصرارا على تشكيل القيم الحضارية والثقافية الإفريقية، وإن كان اختار أن يكتبها بالإنجليزية، لأن هدفه مرتبط بأن يكون مقروءا من خلال الغرب بشكل كبير ظلّ أكثر أهمية من أن يقوم بالقراءة أتباعه ومناصروه، فقد كان مهموما بنقد وتصحيح صورة أفريقيا التي رسمت من خلال العديد من كتاب فترة الاستعمار.
أدب ما بعد الاستعمار يرتبط في الأساس بنقد الخطابات المؤسسة المرتبطة بالقوة أو السلطة ومحاولة زحزحتها، ومن ثم فهذا الأدب مشدود الى نقد الهيمنة التي تعطى لنفسها المشروعية في تمثيل الآخر؛ لأنه من وجهة نظر التوجه المهيمن لا يملك القدرة على تمثيل ذاته، والتعبير عنها؛ لأنه يمثل وجودا غير مكتمل.
وفي الأدب العربي يمكن أن نرى أثرا للرد بالكتابة في أنواع أدبية عديدة، وربما يكون ديوان الشاعر محمد سليمان (تحت سماء أخرى) ديوانا كاشفا عن هذا التوجه، ففيه محاولة لانتزاع القيمة المساوية والموازية للعربي في مقابل الآخر المغاير، وللثقافة العربية في مقابل الثقافة الأمريكية التي يمكن أن تكون سببا للانبهار، ولكن من خلال آليات محددة ترتبط بتفعيل الثنائيات المتوازية يؤسس المساواة بين الشعراء العرب والجانب، مثل المتنبي وويتمان. وفي رواية أهداف سويف (خارطة الحب) هناك توجه نحو نفي ارتباط القيم بعرق أو جنس، ففي ظلّ منطق الرواية لا ترتبط القيم بالانجليز، بل موجودة ومتأصلة في المصريين في الآن ذاته، بشكل يجاوز وجودها لدى الآخر، وكأنها تهشم وتزحزح الأفكار المؤسسة والمشكلة لطبيعة النمط، وللتمثيل الجاهز.
ولكن أهمية هذه النظرية لا ترتبط بالرد المباشر كما رأينا في الأعمال الأدبية الكاشفة عن هذا التوجه، سواء لدى كوتزي أو تشينو تشابي أو لدى محمد سليمان أو أهداف سويف، ولكن أهميتها تكمن في الرد على المدى البعيد في تمثل الأنواع الأدبية التي نقلها الكتّاب مستلبين ومتأثرين ببنية جاهزة، هذه البنية التي تخضع وتحتمي بثقافة الآخر، وتتشابه مع تكوينه وطبقاته الاجتماعية، ومعارفه وبنيته الثقافية. فبعد فترات أو عقود طويلة يدرك هؤلاء الكتّاب غرابة الشكل، ومن ثم يتحولون بعد استيعابه وتمثله والتمكن منه إلى الخروج عن محدداته من خلال البحث عن أبنية عربية الطابع والملامح، أبنية تكشف عن التنوّع الخلاق المرتبط بالثقافة التي ينتمون إليها، فيتشكل لإبداعهم نوع من الخصوصية القائمة على الحوار المستمرّ مع الشكل المجلوب.
وقد يمكن أن نرى أثر هذه النظرية في تمثّل الكتّاب العرب للآخر ولمنجزه الأدبي بأنواعه الأدبية العديدة، ويمكن أن نأخذ الشكل الروائي نموذجا لهذا التمثل، ففي فترات التعرّف الأولى على هذا الجنس الأدبي نجد أن الشكل الأدبي الأجنبي لافت ومهيمن في حضوره، مما يجعل تمثل النوع في تلك الفترة يعاني استلابا كبيرا في سيره على نمط الشكل الأوربي وحدوده وتحديداته المستوردة. فبداية نجيب محفوظ – وكتّاب آخرين بالضرورة- في رواياته الأولى حتى الثلاثية، تكشف عن هذا السير الخاص بالاعتماد على الشكل الجاهز.
وقد بدأ الكتاب والروائيون في تمثلهم للنوع يفكرون تفكيرا له مشروعية في قيمة الشكل الأدبي المستورد من الغرب، وراحوا يقيسون مساحة استلابهم في إطار استخدامهم لهذا الشكل، ومن ثم بدأت الإضافات والتحويرات على الأشكال الفنية المأخوذة من الغرب، فأصبح في أدبنا العربي بعض المحاولات لتعريب الشكل الروائي، ولهذا السبب وجدنا روايات عديدة في منجز محفوظ تحاول التخلص من هذا الاستلاب تجاه الشكل، مثل (رحلة ابن فطومة)، أو رواية (ألف ليلة وليلة)، و(الحرافيش)، حيث يعتمد في هذه الروايات وغيرها على بنية تراثية تبعده عن الانخراط داخل حدود الشكل الأدبي المستورد، ويمكن أن نجد التوجه نفسه لدى المسعدي في رواية (حدّث أبوهريرة قال)، ولدى الغيطاني في روايته (الزيني بركات) حيث يعتمد على النسق الموروث للسرادقات في بنية روايته.
ويمكن أن يكون ذلك الأثر واضحا في معاينة التحولات التي لحقت بجنس الرواية التاريخية ابتعادا أو اقترابا من النمط الأوربي والنماذج الأولى لهذا الفن في أدبنا العربي، فالرواية التاريخية في أدبنا العربي بداية من رواية ( السائرون نياما ) لسعد مكاوي، حتى روايتي واسيني الأعرج ( الأمير مسالك أبواب الحديد ) و( البيت الأندلسي )، و(رحلة الغرناطي) لربيع جابر، وصبحي موسى في( الموريسكي الأخير)، لها تجل جديد يتمثل في تحريف هذا الشكل بالتدريج ليصل إلى التلاشي بتأثير الاشتغال على فكرة الهوية، فيغدو التاريخ – والحال تلك – الى خيط ضمن خيوط عديدة، يفلح مع خيوط بنائية للحظة الآنية أن يغيّر في طبيعة النوع وأشكاله. فهؤلاء الكتّاب -وغيرهم كثيرون- قاموا باستيعاب الشكل، والسير على خطواته في المراحل الأولى، ولكنهم بعد ذلك حاولوا الابتعاد عن هذا الشكل، وتأسيس شكل خاص بهم نابع من ثقافتهم، ومن الحوار مع الآخر على بساط واحد، وكأن في هذا الابتعاد خلاصا من سلطة الهيمنة الثقافية التي ظلت تؤرقهم عقودا طويلة، وابتعادا عن هجنة ظلت واضحة الملامح.
ويمكن تطبيق التوجه ذاته على مساحات تمثّل قصيدة النثر، فليس هناك من يشكّ أن عقودا طويلة مرّت مع مجلة (شعر) اللبنانية وشعرائها، وهم يشكّلون قصائدهم انطلاقا من سطوة النمط الفرنسي والسير على أساليبه، وعلى تحديدات سوزان برنار في كتابها جهير الصوت، ولكن استلاب شعراء مجلة شعر تجاه الشكل الأوربي لم يستمرّ لفترة طويلة، وإنما أصبح هؤلاء الشعراء- وشعراء آخرون من أجيال لاحقة- معنيين بمراجعة هذا الشكل، ومدى مشروعية استبداله، أو تثويره بملامح وأنماط بنائية لا ترتبط بقصيدة النثر الغربية عامة أو الفرنسية خاصة. ولهذا تطلّ قصيدة النثر العربية في اللحظات التالية مزدانة بنمط غنائي خاص لا تفلته الأذن، ومشدودة إلى أشكال بنائية، لا تقيم وزنا في تطور أشكالها وبنياتها للتحديدات الغربية.
تم النشر : في القدس العربي 15يناير 2023