النص
حـَــارة الشّقـّــــــاءات
.
.
.
تمر “الكارثة”كما أدعوها في نفس اللحظة التي أفتح فيه بابي لأرش الماء وأكنس..أحب رائحة التراب المتصاعدة من الأرض ، تقربني منها ، تذكرني بالمطر ، أرفع الخرطوم عاليا لأسمع طقطقة القطرات وهي تتساقط ، ينتشر في الفضاء عطر مميز ،عطر الحياة ينعتق من رحم الموات، يتسلل إلى مسامّي فينعش قلبي وروحي ، يعيد ربطي بأصلي الطيني واستشعر فيه موطني ،أنسى لفترة أنني في حاضرة وأحلق بوجداني إلى حيث لا يوجد سوى التراب..تنغص علي متعتي تلك التي إسمها “حادّة ” ، ويا ويل من لا يضيف لقب “القايدة” لإسمها .. إسم على مسْمى..حادّة في كل شيء..في نظرتها التي تخترقك فتحس كأن مغصا أوغثيانا ألم بك فجاة ، في مشيتها وهيئتها المسترجلة وسلاطة لسانها و كلامها السريع كطلقات كلاشنيكوف..يتناثر رذاذ لعابها مع كل كلمة تتفوه بها ،وتظهرُ تكشيرتها الدائمة أسنانا مهترئة تراكم عليها القلَح فأحال بياضها صفارا ، حادة حتى في سكونها ..تشبه بركانا خامدا يهدد بالانفجار..يصلك زفيرها وشهيقها وفحيحها في موجات كأن حجرا قد ألقي في لجّة ..كل هذه القوة والطاقة لا يوحي بهما جسدها المنخوب ، تكاد عظامها من شدة الضمور أن تخترق لحافها وغطاء رأسها ونعليها..أجهل ممّ تستمدهما ، ربما من كونها سليلة أحد القُواد الاقوياء أيام “السيبة” والفوضى، رَبَتْ على فَكر دار المخزن ” فتمخزنت ” وبقيت تتسلطنُ ، ويقتات لاَوعيُها على نزعة تحكمية تغلغلت في جيناتها، لا أحد يعرف لها مستقرا ، تختفي وتظهر كالشبح..من يقول أنها تقطن في أحد الخانات القديمة ، ومن يجزم أنها تبيت في المقابر ، كلما صادفتها ، أستعيذ بالله وأتحاشى الاحتكاك بها..لا خوفا منها ولا فرَقا ..بل لأني لا أستسيغ كلامها ..كله غمز ولمز وهمز ..وغيبة واغتياب ، ولا أستمرئ أساليبها الملتوية لتدرك أسرارا لا تعنيها ، فأجتز الكلام اجتزازا..وأختصره في تحية مقتضبة ..تعرف بحدسها أنني لا أحبها ..وأنني لست كمن ينقضضْن على يدها تقبيلا واستدرارا لبركاتها من النسوة أولئك..ولن أصير يوما نعجة في قطيعها، ترمقني بنظرة باردة من عينين لم يترك الرمد لهما سوى أجفان محمرة ذات قذى مقرف.. تقلب شفتها وتمطّها في ازدراء جلي وتستدْبرني بقامتها المستقيمة رغم سِنها ..جافة كفاتورة ، طويلة منسلة كأصَلَة..تسبقها همهمات وغمغمات مبهمة ..أظنها دعوات علي ليميل حالي وتسوء أحوالي وأحتاج لخدماتها المشبوهة كي لا أبقى النوتة النشاز التى تحدث لها بلبلة بشق عصا الطاعة والتشويش على هيبتها في فضاء حارة هي كل شيء فيها..القابلة..الداية، المجلية والمزينة للعرائس..الطباخة في الأفراح ، والنائحة والنادبة ومعددة المثالب والمناقب في المياتم والأقراح، والقاضي والمحامي والفقيه والعشاب..تعرف كل شئ عن التمائم والأحجبة وأدوية التسمين والتنحيف والإنجاب والإجهاض..فلا أعجب إن صار لها كل هذه الصيت والسلطة في أوساط نسوة نخر الجهل والأمية أدمغتهن ،وتآكل الإنجاب المتكرر وغلبة الرجال أجسادهن..وهي بذكائها ودهائها ، تديرهن كيفما وحيثما شاءت كما تدير خاتمها النحاسي في أصبعها المعقوف وتبتز أسرار مخادعهن وبقايا مطابخهن ومصروف بيوتهن ..فما إن يسمعن صوتها يجلجل منذرا أو مبشرا بقدومها حتى تظهر اللآئي ينتظرنها وتختفي من يتّقيْن شرّ مقابلتها..تمنّيت لو أخذها الله إليه ويزاح ثقلها عن قلوب من ترتجفن كلما حشرت جسمها الهزيل في منازلهن أو أنفها المتعفن في شؤونهن..أرثي لحالهن ، لكني تركتهن وشأنهن وما عدت أكترث ، لم تنفع نصائحي في إبعادهن عن الشعوذة والزار والأحجبة والبخورات..وصرن أيضا يتحاشينني ولا يزُرنني .
أصبحنا وأصبح الملك لله ، رددت الدعاء وأنا أسمع جلبة وضوضاء في الحي ..ارتج قلبي خوفا على أبنائي طلبت منهم أن يلعبوا قليلا حتى أنهي تنظيف البيت ..تحدّرت من على الدرج أكثر مما نزلته لأجد نفسي خارجا في ثوان..و..انفجرت من الضحك رغما عني ..فالمنظر فعلا فريد..امرأتان تتعاركان كالديكة ..يتدحرجن، تمتطي إحداهن ظهر الأخرى وتنزل فيها ضربا ونتفا وعضا ، تتغشّاها ومن ضخامتها لم يعد يظهر من السّفلية إلا سيقان كعيدان الدرة اليابسة..لم تجرؤ النسوة على فض المعركة..مَن منهن على حياد ومَن مِن خوف أو تشفِّ..الصغار يتعلقون بتلابيبهن واليافعون أستبدت بهم الحماسة وأخذوا يتقافزون ويدورون حولهما ويصدرون أصوات التشجيع مؤججين الصراع ومذكين أوار المعركة ..اندفعت إليهما ، أحاول إزاحة امرأة العربي الجزار عنها بصعوبة ،تلتفت وتمسك بمن ظنتها متطفلة أو مناصرة، سهلٌ عليها لقوتها وجَسامتها أن تضيف أي منهن إلى وليمتها العراكية بلوي ذراع فحسب ، ترتخي يدها عن ثوبي وتتراجع حين التقت مقلتها مع وجهي الغاضب الصارم..لأتفاجأ بحادّة “عين الدودة” ..متكورة كثمرة تين جافة تئن وتتنحنح وتتْفَل في راحَتها ما سقط من أسنانها ، وقد تعفّرت بالتراب وجمع قفطانها كل ما لم أكنسه ذلك اليوم..أجلستها ،غطيت صلعتها بخرقة يفوح منها القطران ورائحة حناء قديمة ..سترت عورتها وساعدتها على الوقوف..لم تنبس ببنت شفة، لفت إزارها حول جسدها وخيبتها وهزيمتها ، وتولّت مسرعة في وجل ناسية فردة مداسها.
انفض الجمعُ ..اختفتِ العجوز ولم تعد لحيّنا .
علقت امرأة العربي فردة “سانْدرِيغُولاَ ” على بابها وصارت..بعدها ..الدّاية والماشطة والطباخة والعشابة و..و..و..و….
…..
//القراءة //
النص عالم خاص
او لنقل مجتمع يتحرك
وفق رؤية وموقف ..
حياة مقترحة للفكرة .
هذه الحياة متخيلة وافتراضية..مفرداتها من واقع ولكنها ليست الواقع.
لندخل هذا العالم او هذا المجتمع او نعيش هذه الحياة …ندخلها بسلطان الخيال اي بلغتها نفسها..
فنقرأ اي ننتج ولادة للمعنى ..ولسنا بحاجة الى نموذج نقيس عليه.. والبنى المعرفية التي تشكل النص تنتمي الى وجود لغوي نحن نتشارك معه ..واللغة كيان يتكلم ويفصح لنا لانه من سنخنا ووجداننا وعاداتنا ومساوئنا او من محاسننا ..
نستطيع التفاهم معه ..او نصعد اليه لانه من احلامنا.
وقد لا نطبق نظرية فنلوي أعناق النص ليستجيب لها..فيكون المعنى لدينا سابق بالوجود في ذهننا قبل ان نكتشف او يفصح عن ذاته.
#الشقاءات
تبنيه بنى معرفية تنتمي الى بيئة خاصة ..بتفاصيل كثيرة ..
وما التفاصيل الا للايهام بالواقعية ..
تلك البنى تستوي في مشاهد:
الاول :
الاستهلال الذي يحمل رؤية النص وهو من عتبات النص ..الساردة هي الكاتب الضمني بياء المتكلم ..تدخل الى عالم النص في اللحظة التي تدخل شخصية “الكارثة”
حادة القايدة..
كيف تجلت الرؤية ؟
تفتح الباب للضوء لتكنس المكان ..وترش الماء.. ثلاث بنى ..تحمل الرؤية
وتشكل المكان الروائي او القصصي حيث يجري صراع درامي ..
المكان تراه الشمس نظيفا يجري فيه الماء..كجنة
الماء يبعث موات الارض الى الحياة تغذيه الشمس
..عطر الارض والطين اصل الخلق ..تلك فكرة وجودية وانتماء الى البراءة “رومنسية “..
رؤية تمتاز بفاعلية السارد ..واستمرارية بصيغة المضارع..تفتح/تكنس/ترش/..يقربها من الارض…فهي عطاء من ذات الفاعل..لغد ..
هذا الاستهلال سنراه يتغلغل في نسغ حركة المعنى..
الفقرة الثانية هي بنى معرفية تشكل شخصية غريبة هي كارثة وحادة وقايدة ..اوصافها تتحرك بطاقة وقوة جسدها وثيابها ..وافعالها.. وهي من نسل كان يحكم قديم.. هي بتضاد مع المكان المنفتح على الضوء والبراءة والسلام .. تسكن المقابر اي عكس الماء الذي يبعث الحياة من موتها ..
وهي متسلطنة مستبدة ..
ما علاقتها بالرؤية اي بالساردة فاعليتان لا يلتقيان ..الاولى الساردة ترشد الى المعرفة والثانية تمارس الجهل وتثبته بقبول من الجهلة ..الثانية خارج قطيع الطاعة .. حادة تستعمل ادوات سحرها لابعاد الرؤية ..عنها ليخلو لها المكان ..
هي تتجسس على اسرار النساء لتتحكم بهن..وتستغل المشاكل المتاتية من عادات وتقاليد ومعتقدات كالانجاب والشعبذة والدجل والزار وغير ذلك..
نلاحظ ان المجتمع نسوي وغياب للذكر ..لماذا ؟
سؤال يفضي الى ان الاسرة او المجتمع تربيه المرأة بما هو متوارث من جهل ..وتطيع وتقبل يد السلطة لنيل البركة ..
اذن نرى خليط ثقافي خرافي وفقهي وعادات وتقاليد ..واجتماعي.
الساردة لا تخاف القايدة ولا تأمن لها ..ترشد ولكن النسوة لا يقبلن ارشادها ..ويتحاشينها بل ينبذنها لجهلهم ولخوفهم من بطش حادة ..التاريخ والاجتماع والجهل ..
الفقرة الثالثة
المعركة بين قايدة وامرأة العربي الجزار ..التي قهرتها
واذلتها ومرغت انفها بالتراب ..والساردة التي كانت تشاهد وتضحك اي تظهر فرحها وكذلك جمهور الناس خليط من النسوة والاولاد اي جيل يشاهد الصراع بين قوتين تاريخيتين ..بقية السيبة والفوضى والتاريخ العربي
..تنتصر امراة العربي وتصبح هي السلطة الجدية بوظاىف القديمة .. ماشطة وكاتبة احجبة للانجاب وقاضية وفقيهة ومحامية ..ومادحة ونادبة ..ووو.
اذن حملت القايدة وسخ المكان الذي لم تكنسه الساردة ولكن حذاءها علق على باب امرأة العربي ..رمز السلطة التي تسوطهم وتدعسهم ..السوط الجاهل ..
لماذا لم تنتصر الرؤية التي تمثل الايمان بالضوء وتنتمي للارض واساس الخلق اي لكينونة يريدها الله ..والحق والخير والجمال..
لماذا الجهل والطاعة والقوة تستبدل سلطة بسلطة تقهرها ..لانها ترى الى قيم اجدادها رضى نفسي اي ان الخوف زاوج الامان ..فتماهيا.. العمق في النص حضاري ..لم يقدم المسيطر الجديد للمكان الذي يتمنى اهله حضارة السماء والارض البريئة النظيفة الفاعلة بذاتها بقدراتها ..
ان ثقافة الطاعة هي اتباع نموذج ..
ما الذي يحاصر المجتمع هذا هو ارث تاريخي وجهل وعدم الانفتاح على العصر وخلط الخرافي بالمعرفي..والقوة ..
كيف نفك هذا الحصار؟
قدم النص الرؤية ..كنبوة فاعلة في المكان متحركة ..ولكن الظلمات كانت كثيفة ..
هل الاسهاب في التفاصيل هو عبء على النص؟
الاسهاب كان تكثيفا ليؤدي وظيفة بلاغية هي التنفير من سلطة هذه هيئتها الخارجة من بين القبور وتسكنها اي نحن يحكمنا اموات ..لا سمع لهم ولا يبصرون …
شعب الطاعة يفرح للمنتصر اي للطاعة ..
كيف نفكك ذلك ؟
اين الحرية التي تكنس هذا الهوان ؟
ان غياب الرجل عن المكان
هو حضور ثقافته المتوارثة ..بنت السلطان وبنت العربي الجزار..
السلطان رجل ثقافي والجزار حضور ثقافي..
الشقاءات قد تكون او لا تكون …
من جذر // شقى //
وشقّى شقاءً اي سبب التعاسة والاذى والعذاب ..وشقاء وشقاءة ..والجمع اي ان الزمن سيكرر الشقاء على يد ثقافة متوارثة او مستبدلة بقوة ..والشعب ميت يتبع موتى .
دمت ا.مهدية اماني مهدية أماني الرغاي
سليمان جمعة