ا. عبود الجابري
شاعر و مترجم عراقي مقيم في العاصمة الأردنية عمان
“لو إنني الآنَ هناك في العراق ِأكنسُ الرصيفْ”
( السيّاب)
دمٌ باهتُ اللون، أغسلُهُ كلَّ ليلةٍ
كي أتركَ الرصيفَ لامعاً
ثمَّ أمضي إلى شُرفةِ أصدقائي القتلى
وأخبرُهم أنَّ الموتَ قبيحٌ
حين لايمكنكَ أن تختارَ وردةً
كيْ تعلِّقَها في سترةِ قاتلِك
*
بالطريقةِ ذاتِها أرقصُ وحدي
كما لو كنتُ ذاهباً لشراءِ علبةِ سجائر
أدورُ حولَ الشارعِ مرَّةً أو مرَّتين
بعيونٍ مفتوحةٍ
وأنسى بعضَ خطواتي في فمِ حُفرةٍ عجوز
عثرةٌ أخرى، من أجلِ يدٍ تأخذ بيدي
تجلسُني على الرصيفِ
ثمّ تشيرُ إلى شارعٍ مزدحم
بمنْ يرقصونً بعيونٍ مُغمضةٍ
ولايتعثَّرونْ
*
إنّه الرصيف ياصاحبي
حجرٌ صامتٌ من بقايا أحاديثنا
حجرٌ يتفنّنُ في تأويلِ غيابكَ
ليكفّ عن الرقصَ الموجع
تحت أقدام العابرين
رصيفٌ يغرقُ في أغانيك
ويختنقُ بملائكةٍ يتريّثونَ عند سحنَتكَ
يمضون كمنْ يبصرُ
مايعكّرُ الضوءَ في مصابيحه
الرصيف مآلُ نهارٍ مصابٍ بالضَّجَرِ
و حزنُ ليلٍ
لايجد مأوىً يفصحُ فيه عن عتمته
الرصيفُ ورقةٌ مختومة بنِعالِ ساكنيه
وهم يدوسون أعقاب سجائرهم
بضغينةٍ
ليرسموا برمادها
تخطيطاً أوليّاً لرغيفٍ أسود
*
أسرقُ حلماً ذابلاً من نوم الرصيف
و أرى الطمأنينة في فزَعٍ
يسكنُ معطفَ امرأةٍ مدبرة
في خجلِ العابسِ
من ضرسهِ الأسودِ المكسور
أراها في الاشتباكِ بين عينيّ رجلٍ واقف
وكرسيٍّ فارغ
و قد أراها أكثرَ وضوحاً
فيما يتوجّبُّ عليَّ أن أنسى
قبل أن أعاودَ نقشَ أقدامي على جلدِ الأرض
لذلكَ كنت أرغبُ أن يكونَ اليومُ أطول
فلديَّ من العُمرِ
مالمْ أتأكَّد من صلاحه لغدٍ مريب
لديَّ خوفٌ أسود من عودتي إلى البيتِ
حاملاً مالا يمكنني بيعُه ليلاً :
-حلمٌ ذابلٌ سرقتهُ من نوم الرصيف
-صُــرَّةُ ضوءٍ فائض عن حاجةِ صديقي الأعمى
وأغنيةٌ مكرّرةٌ لم أعدْ أبكي لسماعِها
كان بودّي أن يكونَ اليوم أطول
ليراني أتلعثَمُ عندما أخبره
كم كان بودّي أنْ يكونَ العمرُ أقصر
*
تخيّلتُ أنّني الوحيدُ
الذي يريدُ العبورَ الى الرصيفِ المقابلِ
ذلك ما جعلني
ألتمسُ لهم اعذاراً شتّى
أولئك الذين أطلقت عجلاتُ سيّاراتهم
عويلاً صاخباً
عندما انزلقتْ على خشونةِ الإسفلتِ
فاخترقتْ أصواتُ المنبّهات حاجزَ الصوت
حتّى أنّ ساكني البيوت، خرجوا الى الشارعِ
منهمْ من أطلٌ شاحباً من الشرفات
لكنّهم عاودوا الدخول الى بيوتهم مخذولين
يتمتمونَ بشتائمَ غير مسموعةٍ
والزبدُ يغطّي شفاههم
بينما مضيتُ في سبيلي صامتاً
ركبتايَ تتراقصانِ خوفاً
أسائلُ نفسي:
هل كان الوقتُ مناسباً لكلّ ذلك ؟
أما كانَ يمكنني أنْ أتذکّر وجهكِ
بطريقة أكثر وضوحاً
عندما أكونُ
على ضفَّة الشارع الآمنة ؟
*
قمرٌ قادمٌ من ليلِها
خلوَ اليدين
لاضوءَ في جرابه
لا نسمةً من هواءِ الأغاني
تلك التي تصبغُ جدرانَ غرفتها
أكانَ عليكَ أن تموت
ليفتقد خطواتك الرصيف؟
أكانَ عليك أنْ تفعلَ ذلك كلّ صباح
لتزعمَ امرأةٌ
أنّها كانت تعرف كل شيءٍعنْ يدِكَ ؟
وكيفَ كانتْ ترتجفٌ
كلّما أردت أن تردّ السلام
على قمرٍ قادمٍ من ليلِها الطويل
*
للرصيفِ مريدوه
لكنّهم لايذكرونَهُ في رسائلِهم
حين تمتلِئُ قصائدُهمْ
بالبيوت