للكاتب : عبد الؤوف الطويل
تبدأ رحلة سالم منتصف الثمانينات.
وكانت ليبيا الجماهيرية محطتها الأولى.
لاشتباه في الأسماء يصير جنديا في تشكيلات الشعب المسلح تحت اسم سلومه.
ولانضباطه ومهارته يختار حارسا خارجيا لمقر العقيد في باب العزيزية.
وفيما يلي وأثناء حراسته جد ما غير مجرى حياته:
ظلّ سلومة يمشي كعادته مُبطنا توقّعا مجهولا… مُظهرا عدم الاكتراث .. خرج من الخيمة طفلان وبنت يلعبون وجنديات من بعيد يتابعنهم.. اقترب طفلان منه.. يُطارد أحدهما الآخر وبيد أحد الولدين سيف في حمّالته يتمنطقه كأجمل ما يكون، ذكره بسيف أحد البايات في صور تأمّلها في كتاب التاريخ وبيد الطفل الآخر لعبة كانت طائرة مروحية.. اقتربا منه ..قالت البنتُ تخاطب أخاها:
– اسمع “هاني” خُويْ.. قولْ لها الرّاجل يُمكن يطيّر الطيّارة….
– فردّ: زَعْمَااا..؟؟ وكيفْ يطلع احْمَارْ..؟؟
– فردت في روح من الدعابة الليبية المتأصّلة: لاهْ ؟؟ زعمة حتى هو زيّك إنتَ؟.
كان سلومة يسمع الحوار, يؤكد لنفسه أنّ النهار “امْغلّق ومْشومْ” أيضا.. واضح..
اقترب منه الطّفلان وطلبا منه أن يجعل الطائرة تطير. أمْسَك بها مُرغما وبمجرّد نظرة واحدة عرف أنها لن تطير فالمشكلة ليست في جذب الخيط المتدلّي منها بل في أن أحدَ أجنحتها مُكسّر لن يصمد في الهواء. تظاهر بإصلاحها وانتظر أن يتّصلوا به عبر الطولكي.. من هؤلاء الأولاد.؟؟. أبناء معمّر؟؟ أم أبناء أحد الوزراء؟؟.. وكيف يفعل؟؟؟ وتذكّر مُهمّة الحراسة.. لماذا أنا بالذات، يا رب!!.. وجعل يمشي والطفلان يتّبعانه ماسكا بالطائرة.. قال الولد للبنت بصوت مرتفع أسمع القائد معمّر والدَهم الذي وقف يتأمل المشهد من حيث لا يتوقع سلومه ذلك:
– ألم أقل لكِ إنه احْماارْ .
كان كلامُه بصوت مرتفع.. أسمع حتى الجنديّات الزنجيات والجنود الحراس الواقفين الذين ظلوا يراقبون في حيرة وذهول.. كيف يتصرّفون مع أبناء القائد.. لم يجرؤ أحد على المبادرة وكلٌّ ترك المهمّة إلى غيره.. ذلك أنّ أيّ تصرف لا يُعجب القائد قد يؤدي إلى التعرّض إلى الحكم الذي يطلقه أحدُ هؤلاء الأطفال الصغار. والذي يتطور من النهيق كالحمار إلى المشي على أربع وصولا إلى الإعدام رميا بالرصاص. وقد حدث ذلك فعلا في السّابق أكثر من مرّة.. فانتظروا لسلومه الذي لم يكن يعلم الأمر مصيرا كذلك..
جعل الولد “هاني” يُكرّر : يا احْمار يا حماارْ.. وبصوت مرتفع.. ونادت البنت أخاها الآخر صاحبَ السّيف:
– سيف ، يا سيف الإسلام، تعال شوفِلنا صِرفه مع ها الحمارْ…
جاء سيف مسرعا..متسائلا: فأجابه هاني :
– هاهو طلع “احْمارْ” ما عرف كيفْ يطير الطيارة.. راهو حمار، ثمّ توجّه إلى سلومه: “يا حمار يا حمار..”
– قال سيف متوجها إلى سلومه أيضا : هيا سَلّم رقبتك ..سأقطع رأسك..
وجرّد سيفه، ودهش سلومه لما رأى أنّ السيف ليس لعبة!!! ليس سيفا بلاستيكيا ولا خشبيا.. وأنه سيف معدني رقيق لامع تكاد شفرته تقطع الحديد.. وأنه فعلا قادر على قطع الرقبة.. صاح الطفل سيف من جديد: هيا لابدّ لرأسك أن يُقطع.. لاحاجة لليبيا بحمار زيّك..
– أجاب سلومه : يا سيدي، الطائرة جناحها مكسّر..
– لا يهمني طيرها وإلا راسك يطير.. ورفع سيفه.. الذي يكفي أن يسقطه ليقطع تلقائيا ما يقع عليه..
وبسرعة التفت سلومة إلى سلاحه.. وأمسك به.. اهتزّ العقيد وكان واقفا مع أمين حركة اللجان الثورية وجعلا يتابعان المشهد من نافذة في البناية من حيث لا يراهما أحد، كانا قريبين جدا ليسمعا ويشاهدا كل ما يجري. كان العقيد يتابع مبتسما مفاخرا.. فلمّا أمسك سلومه عقب سلاحه توجّس خوفا أن يُطلق هذا الحارس المجهول على أبنائه النار.. فأخرج مسدسه وصوبه على سلومه. وانتظر الحرّاس والحارسات أن تنطلق رصاصة العقيد الأولى فيغربله رصاصهم في حرص على أن لا يتخلف أي منهم عن إطلاق النّار على زميلهم إثباتا لولائهم للقائد… غير أن العقيد القائد الثائر تراجع وأسبل يده.. فسلاح سلومه كان موجها إلى الخلف وهو يتفحّص عقب السلاح، ولو أنه أطلق النار فلن يصيب غير نفسه، هل ينوي هذا الحارس إطلاق النار على نفسه للخروج من الموقف؟ وهل يفعلها سلومه وينتحر؟ لم يستغرب العقيد ذلك فقد فعلها حراس قبله ليتخلّصوا من مواقف مهينة.. حبس معمّر أنفاسه مُتشوّقا لمعرفة ما يدور في خلد هذا الحارس الأبله، وهو يراه يسقط سِلاحه أرضا بعد أن انتزع من جانبه ورقةً بلاستيكية لاصقة من نوع تلك الملصقات التي تحمل رقمًا أو علامة تجارية، لاصقة طالما تحسّسها سلومه بأنامله ضاغطا بإبهامه، وبسرعة جبر بها الجناح المكسور فتماسك.. من أوحى إليه بهذه الفكرة؟؟ لا يدري.. المهم، أنه جذب الخيط بقوة حصان وأطلق الطائرة فطارت، طارت عاليا عاليا.. كما لم تطر أبدا وسط دهشة الحاضرين مما جعل الأطفال الثلاثة يتابعونها بأعينهم ثم بأرجلهم مذهولين مُقهقهين ناسين سلومه الذي تنفّس الصّعَداء، ولكنه كاد يسقط في الحال حين صفّق القائد من النافذة التي كان يُطل منها: برافو برافو يا بطل.. وكالعادة صفّق الجميع بُعيد القائد وضجُّوا فمِن الخيانة أن لا يصفّقوا كما صفّق. ونزل معمّر من الطاّبق الأول فرحا وخرج قبله الحرّاس الشخصيّون يُسابقونه.. ونادى سلومه، فصاح به أحد الحراس:
– “سلومعْ! خلي سلاحك بالأرض وجاوب سيدنا القائد”.
ارتبك سلومه حين تفطن أن سلاحه مايزال على الأرض. مَشى يخطو بلا أرجل حتى اقترب وحَيَّا معمّر قبل أن يصل إليه وصاح: حاضر سيّدي القائد. وتجمّد تمثالا واقفا اقترب منه معمّر وسأله:
– يعطيك الصّحة!! صحِّيتْ صحيت!! آش اسمك ولدي؟
– سلومه الفشلوم. سيدي.. اهتز بن زريعة . وانفتح فاه.. واغتسَل عرقا….
– سأل القائد: منين أنت ياسلومة. أولاد الفشلوم رجال..
– من ترهونه، سيدي القائد..
بن زريعة كاد يُغمى عليه.. لم يُصدّق ما سمع.. نفس اسم ابن خَالته.. لا ؟؟ أشْ هاالمصيبة .. يتكلّم أم يسكت؟. يقول لهم أنّ هذا مُزيف.. تجرّأ بن زريعة وقال:
– عاودْ أشْ اسمك؟
– فالتفت إليه معمّر: ألم يقل لك أنه سلومه من الفشالمة؟؟ ثمّ أضاف سَاخرا: “ولِّيتْ إنت أطرشْ ثانا يا بن زريعة..” وضَحك مقهقها، ولابدَّ أن يشاركه الجميع الضّحك فضحكوا مُقهقهين فمن الوفاء للقائد أن يضحكوا لضحكه. فسَكت بن زريعه حائرا.. وكان عليه أن يضحك أيضا.. وترك الحدَث يمضي..
قال القائد متوجها إلى سلومه واضعا يده على كتفه مربتا: إنتَ اليوم حُزت ثيقتي يا سلومه. وبش تصير واحد من جنودي المميزين… وممكن نكلّفكك بمهمات خاصة..
– حاضر سيدي..
– انصرف..
من ذلك اليوم ودَّعَ “سلومه” موقعه ذاك في الحراسة.. لينتقل إلى ما ينتظره من مُهمّات خاصة..