حلَّ المساءُ في حديقةِ ” السلسلة ” على الكورنيشِ يزينُها تمثالُ “الأشرعةِ البيضاءِ ” وبينما أنا غارقٌ في تأملِ تلك التحفةِ الفنيةِ العريقةِ ، لمحتها وقدْ جلست على الكرسي الخشبي ، وكأنَّها تنتظرُ حبيبَها ، فتاةٌ صغيرةٌ لم تتجاوزْ سنواتُها السادسةَ عشرةَ ، حباها اللهُ إطلالةً رقيقةً ، وفجأةً طرأت عليها بعضُ التغيراتِ ؛ بدا وجهُها مرهقاً ، وظهر في عينيها حزن وأسى . تتدلى من رقبتِها سلسلةٌ ذهبيةٌ ، تعبثُ بها فتحدثُني نفسي :
- ما أمر تلك الصغيرة يا تُرَى ؟!
نظرْت إليها مجدداً فرأيتها تبكي
- هناك أمرٌ غريبٌ
يدفعني فضولي للتحدثِ معها ، اقتربت لأجلسَ إلى جوارِها ، وقد مددت يدي بمنديلٍ تناولته مني على عجلٍ تجففُ دمعَها ، بادرْتها :
- ما الذي يبكيك يا ابنتي ؟
أومأت لي برأسِها أنه لا شيءَ
- هل أستطيعُ أن أقدمَ لك خدمةً ؟
بصوتٍ متهدجٍ رقيقٍ
- لا .. شكراً
- يبدو من لهجتِك الريفيةِ أنَّك غريبةٌ .. هل هناك ما أستطيعُ أن أفعلَه لمساعدتِك ؟
- شكراً .. مجردُ زوالِ الشمسِ وتسيدِ الليلِ في السماء يحزنُني .
- إلى هذه الدرجةِ ؟!
- قدْ يبعثُ فينا غروبُ الشمسِ وسوادُ الليلِ الطويلِ ذكرياتٍ حزينةً .
- ما زلت صغيرةً على كلِ هذا الحزنِ .
فجأةً تتعلقُ عيناها بتمثالِ ” السلسلة ” تسبحُ في صمتِ عالمِها الداخلي ، وجدْتها فرصةً لأحدثَها في شيءٍ يلهيها عن أحزانِها :
- هل ترغبين في معرفةِ أسطورةِ ذلك التمثالِ ؟
تلتفت فجأةً إليَّ وكأنَّها تراني لأولِ مرةٍ :
- وهل للتمثالِ أسطورةٌ ؟
- إن كنت ترغبين قصصتها عليك .
- يا ريت .
- التمثالُ عبارةٌ عن أسطورةٍ يونانيةٍ تحكي أن ” زيوس ” عندما رأى أن زوجتَه ” هيرا ” قد كبرت وتغضبه كثيراً ، نظر إلى الأرضِ من عليائه ليُفتتنَ بــ ” أوروبا ” بنت ملكِ لبنان ، وهي تلهو وسطَ الثيرانِ ؛ فتنكر في شكلِ ثَورٍ زاهٍ ليجذبَها إليه ، ثُمَ خطفها وعبر بها البحرَ إلى جزيرةِ ” كريت ” وهناك عاد إلى صورتِه الأصليةِ ، وأمامَ سطوتِه استسلمت له ” أوروبا ” فنال منها ثُمَ أخذها إلى الأرضِ التي حملت اسمَ ” أوروبا ” الآنَ ، هذه هي الأسطورةُ
- مسكينةٌ الفتاةُ ، أكادُ أعرفُ مشاعرَها أمامَ سَطَوَةِ ” زيوس ”
وفجأةً تزرفُ عينا الفتاةِ دمعًا ؛ أندهشُ لبكائها ، تبادرُني :
- أعرفُ فتاةً ريفيةً خرجت من التعليمِ لشدةِ الفاقةِ ، كان لها أخواتٌ وأبٌ أقعدتُه الحاجةُ حتى جاءها من يُبهرُ أهلَها ببعضِ المالِ ليتزوجَها ، وهي بالكادِ قد شبت عنْ الطوقِ ، ما زالت صغيرةً لا تعرفُ معنى الزواجِ ، وكان يكبرُ أباها سِناً ، لكن أمامَ سَطوةِ المالِ وانكسار العوزِ ارتضت أسرتُها بمقايضتِها ببعضِ المالِ ، واستسلمت لتلك السطوةِ مُضحيةً بنفسِها على مذبحِ الحياةِ ؛ لتنقذَ أهلَها ، وبينَ ليلةٍ وضُحاها ألبسها الشَبْكَةَ سلسلةً ذهبيةً تطوقُ عُنُقَها ، وأخذها في سيارتِه ، وانطلق ، ليضعَها في قفصِه الذهبي ، يأتيها كلَ فترةٍ لينالَ حلالَه ، هو فقطْ من يملكُ مفتاحَ القفصِ الذهبي ، وحينَ واتتها الفرصةُ لتطيرَ طارت لكنَّ السلسةَ تقيدُها ، فلا تجدُ مجالاً للطيرانِ تُثقلُها السلسلةُ ، لا تستطيعُ منها فِكَاكَاً
- مأساةٌ فعلاً .
وفجأةً تنهضُ وتسيرُ صوبَ سورِ كورنيشِ السلسلةِ ، فتختفي فجأةً ، يتملكُني الحزنُ لأمرِ الفتاةِ ، وإذا بي أجدُ سلسلتَها الذهبيةَ إلى جواري ولكنَّها مقطوعةً ، أتلقفُها وأسرعُ حيث سارت الفتاةُ ، فلا أثرَ لها نهائياً ، أدققُ النظرَ في الظلامِ ، فإذا بطيفِها فوقَ ماءِ البحرِ معلقاً في الهواءِ ، أقفُ مشدوهاً لهولِ ما أراه ، ترميني بابتسامةٍ حزينةٍ ، تلوحُ برفقٍ ثُمَ يبتلعُها البحرٌ بأناةٍ وتروٍ ، أحاولُ أن أناديَها ينعقدُ لساني
لم يصبْني الرعبُ كونَها شبحاً قدرَ ما أفزعني شبحُ الواقعِ . توجهْت للبحرِ ورميت السلسلةَ ليبتلعَها البحرُ .
بقلم سمير_لوبه
من المجموعة القصصية كواليس