ضمن واقع هذه التحولات العالمية والصراعات والحروب العسكرية والديبلوماسية وطبيعة الاهتزاز في النظام العالمي السائد القائم على الهيمنة الاحادية وعدم استقراره حتى نتحول الى توازن جديد في المصالح والرؤية في التحكم بالعالم بالسنوات الخمسين القادمة يبرز هذا الاتفاق الديبلوماسي الهادئ الذي صنعته الماكينة السياسية والدبلوماسية الصينية القريبة من البلدين الجارين المشتبكين بخلافات عديدة مصطنعة ومن مصالحهما والحريصة على استقرار مصادر النفط وعلى استقرار الدول المشاركة بمبادرة طريق الحرير الجديد مبادرة الحزام والطريق الذي ضمن فترة رئاسية ثالثة لمدة خمس سنوات للزعيم الصيني شي جي بينغ والذي يعتبر قائد تاريخي استثنائي بالصين يتميز بعمق المعرفة والفكرةالاقتصادي والسياسي والاستراتيجي والقدرة على توجيه قدرات الصين العظيمة بشكل متوازن واستراتيجي يضمن الابتعاد عن الصدام المباشر مع الولايات المتحدة وماكينة العقوبات الشرسة لها ويضمن السوق الغربية والامريكية للبضائع الصينية ويضمن ايضا استقرار توريد مصادر الطاقة والمعادن والمواد الاولية الضرورية لانتاجها وصناعاتها
الديبلوماسية الصينية الهادئة والحكيمة تدرك المأزق الامريكي اقتصاديا مع الدولار والديون والتراجع المستمر في الهيمنة الامريكية والمازق في الحرب الروسية الاوكرانية المواجه للغرب فتدعم بقوة واستراتيجية نجاح روسيا بدون ان تفقد حيادها الدولي وتعطي العمق الاستراتيجي للاقتصاد في روسيا وهي بهذه الخطوة الهادىة والاستراتيجية تخترق اساسيات السياسة الامريكية في المحافظة على انقسام المنطقة وصراعاتها من اجل الحفاظ على امن اسرائيل فاستراتيجية الحفاظ على الصراع السني الشيعي وعلى تخويف كل طرف من الطرف الاخر هي اساس في السياسات الامريكية اما الصين فترى في استقرار دول المنطقة ولا سيما المنتجة الرئيسية للطافة والنفط والمورد الرئيس لها للنفط حوالي 12مليون برميل يوميا اساسا للتنمية المستدامة والاستقرار السياسي ورفاهية شعوب المنطقة بالانتاج والتطور السريع بدل الحروب والصراعات
وبصراحة فان الصين هي الدولة العظمى الوحيدة القادرة على تحقيق هذا الاتفاق وضمان حسن تنفيذه لان لديها المصالح والقوة والدبلوماسية الكافية لدعم بنوده وضمان امن الدولتين بشكل عملي وبالتالي تغيير خارطة الصراعات في المنطقة فبعد ان استنفر النظام المتطرف الاستثنائي في اسرائيل وارادته في فتح منفذ له او انجاز بتوريط الولايات المتحدة بحرب مباشرة مع ايران واحراق دول المنطقة وجرها تلى حرب مدمرة استطاعات الديبلوماسية الهادئة ان تبين مخاطر هذا الاستهداف فتجعل العقل السياسي الايراني يطمئن الجارة السعودية بانه لا يسعى لامتلاك القنابل النووية وانه يسعى لتوازنات استراتيجية سلمية تحفظ امن المنطقة ومصالح كل البلدان ولا سيما السعودية ولا نسى هنا ان الامير محمد بن سلمان الذي وضع رؤية السعودية 2030 واختبر الحرب وتحدياتها في اليمن يريد مخرجا سياسيا مشرفا لهذه الحرب وهنا تحركت الديبلوماسية الروسية والسورية والعراقية لفتح باب الحوار مع طهران وكانت المظلة الحكيمة الدولية العظمى الصين التي استفزت من خلال عقد القمة العربية الصينية في الرياض العام الماضي الولايات المتحدة التي تخاف من تغلغل الصين في المنطقة سياسيا واقتصاديا وتنمويا فقامت بعقاب العراق على حضوره بضرب الدينار العراقي ومعاقبة رئيس تونس قيس بن سعيد على حضوره بالغاء القرض المقدم من البنك الدولي بمقدار مليارين ونصف مليار دولار واشعال المعارضة في وجهه وقامت بمعاقبة مصر بضربها اقتصاديا وتحفيز التضخم فيها بالمحافظة على رفع مستمر في فوائد الفيدرالي الامريكي وبالتالي الضغط على الجنيه المصري من خلال التضخم المتزايد
الصين اخترقت برؤيتها وديبلوماسيتها هذه الصراعات المكرسة امريكيا واختارت الملف الاصعب التوافق عليه بين ايران والسعودية كحامل تنموي واقليمي واستراتيجي واستثمرت مصالحها وعلاقاتها لضمان نجاح هذا الاتفاق ورعية تنفيذه الذي يظنه الكثيرون اليوم انه هش وقابل للتراجع والانهيار
ان ما انجز اليوم من اتفاق هو مدماك اساسي في النظام العالمي الجديد ورسالة الى جميع الدول بان النظام العالمي يتغير وبديناميكية عالية وتتغير الاسس اللازمة لاستقراره على قاعدة تعدد الأقطاب وتغير السياسات السائدة وثوابتها وعدم الانطلاق من الرؤية والمصالح الغربية والامريكية المكرسة للهيمنة و بالاخص
ان هذا الاتفاق اليوم هو حصيلة تفاوض طويل بدأ بالعراق وبرعاية حكومته وبدفع من القيادة السورية وارادتها للتقارب مع السعودية ودورها في الحل العربي للازمة السورية وتقديم حلول ومقترحات تساهم في حلحلة الخلافات في المنطقة ولا سيما تشابكات الحوثيين ورؤية المملكة لمصالحها في اليمن الذي ساهم في بلورة هدنة مستدامة لهذه الحرب ووضع رؤية لفك الاشتباك السعودي الايراني في لبنان وكذلك وضع أسس لطبيعة العلاقة مع دمشق ورؤية القيادة السورية للحل السياسي بما يتناسب مع القرارات الاممية المتفق عليها للحل السياسي مع الحفاظ على استقرار البلد وعدم ترك ثغرات لصراعات قادمة وضعف تواجد الدولة او هشاشتها لتكريس حالة انقسام يؤدي الى تفتيت المنطقة الى دويلات ترغب بها اسرائيل والولايات المتحدة لقيادة المنطقة والهيمنة عليها لتفتيت العراق والسعودية وتركيا ومصر الى دويلات
لقد انتهى عصر الهيمنة الاحادية الامريكية والخلفية البريطانية للسياسات الغربية وصارت التعددية والتوازنات والمصالح الاقليمية اساس من خلال التوازن والتفاهم بدل التفتيت واعادة هندسة المنطقة باتجاه الدول الصغيرة الضعيفة التي يسهل التحكم بها
هذا الاتفاق هو مقدمة لحلول مشرفة في اليمن وسورية ولبنان وسيضمن للسعودية استقرارها ومصالحها ونفوذها العربي ووسيضمن المصالح وحسن الجوار مع ايران وتفادي الحروب وتحقيق مصالح ايران وكل الدول العربية لا سيما العراق وسورية ولبنان ومصر وكل دول الخليج في الاستقرار والتنمية
ان هذا الاتفاق هو انتصار للمحور الصيني الروسي الايراني وربما الهندي باتجاه التعددية والتنمية
واطفاء صراعات المنطقة وتعافي دولها فانتظروا الثمار قريبة في القمة العربية القادمة وحل مشكلة الشغور الرئاسي والسياسي اللبناني وفك الحصار عن سورية وعودتها الى الحضن العربي الدولي كدولة فاعلة في المنطقة واستقرار اليمن واعماره وتنميته واعتراف الجميع لولي العهد محمد سلمان باحقيته لمستقبل قيادة السعودية نحو الاعمار والتنمية الشاملة التي تليق بمكانتها وثرواتها ومصالحها
هاني الخوري
باحث سياسي واستراتيجي