ا سمير لوبه
كاتب مصري / الإسكندرية
بينَما يَجلسُ ” أبو المجد ” مستغرقًا مع زملائه في الجردِ السنوي . إذا بالمُدِيرِ فِي بِزَّتِه الأنِيقَةِ يَتوَسَطُ رَجُلَين قَد حَجَبَت أعيُنِهمَا نَظَّارَاتٌ سوداءُ ، تَقِفُ إِلَىَ جِوَارِه حَسنَاءُ فِي زِيٍ أنِيقٍ يَكَادُ يَنفَتِقُ لِشِدَةِ التِصَاقِه بِجَسدِهَا الصَّارِخِ بِالأُنُوثَةِ ، الجَمِيعُ يَتوَقفُ عَنْ العَمَلِ ؛ ليَشُقَّ صَوتُه السُّكُونَ
– يَا رِجالة .. نَحنُ الآنَ فِي مَرحَلَةِ عُنُقُ الزُّجَاجَةِ .. شِدُّوا حِيلكُم .
يُشِيرُ للحَسنَاءِ مُبتَسِمًا :
– التَقِطِي لِي الصورَ وأنا أشاركُهم العَمَلَ ؛ لِنَنشُرَهَا .
ينهمكُ العَامِلُون فِي الجَردِ ، والحَسنَاءُ تَلتقِطُ الصّورَ لسَعَادَتِه وهَو يُشَارِكُهم بِيَدِه عَمَلِيةَ الجَردِ ، فمَا أنْ انتَهَى التَصويرُ حَتَى انصَرَفَ سَعَادَتُه عَلَى عَجلٍ قائلاً :
– الله ينَوَر يَا رِجَالة .
يَنطَلِقُ إِلَى سَيَارَتِه يَسبِقُه إِلِيهَا الرَجُلان يَفتَحَان الأبوَابَ لَه وللحَسنَاءِ وَيَمضِي مَوكِبُه ، يعودُ العاملون إلى سيرَتِهم الأولَىَ ، ومَا أن انتَهَوا مِنْ جَردِ المَخَازِنِ ، إذا بالوقتِ قد تأخر في ذلك اليومِ المطيرِ ، يسرعُ ” أبو المجد ” ربما يلحقُ بالقطارِ الأخيرِ . يَدخُلُ مَحَطَةَ القِطَارِ ، والتِي خَلَت مِنْ رُوَادِهَا ، إلَّا مِنْ جَسَدٍ مُلقَىَ عَلَى أرضِيةِ الرَّصِيفِ لمُسِنٍ مُشَرَدٍ في مَلابِسٍ رَثةٍ بَالِيةٍ ، تَكشِفُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ جَسَدِه المُلَطَخِ بالوَحلِ ؛ يَتلَقَىَ صَفَعَاتِ الصَقِيعِ بِلَا شَفقَةٍ أو هَوَادَةٍ ، يمضي ” أبو المجد ” غيرَ مكترثٍ ، يتَمَدَّدُ ظِلُّه أمَامَه ، فَلَا أثَرَ لحَيَاةٍ فِي المَحَطَةِ إلَّا مِنْ وقعِ خُطُوَاتِه المُتثَاقِلةِ ، ضَوءُ مِصبَاحٍ وَحيدٍ يفتَرِشُ أرضِيةَ الرَّصِيفِ ، يتبعُ بعَينيه ظلَّه المُتمَدّدَ أمَامَه ، حَتَى وَصَل لنهايةِ الرَّصِيفِ ؛ ليجلِسَ عَلى مِقعدٍ حَجري باردٍ ، يُلملمُ جَسدَه فِي مِعطفِه ؛ يطلبُ بعضَ الدفءِ ، تتصَارعُ فِي رَأسِه الأرقامُ ، ومَا تبقَىَ مِنْ أيامِ الشَّهرِ ؛ حَتى يَأتِيه رَاتبُه الشَّهرِي ؛ ليواجَه بِه مسئولياتَه الحياتيةَ ، يقطعُ حبلَ أفكارِه شبحُ شخصٍ ما قادمٌ نحوَه ، لا يتبينُ ملامحَه حتى اقترب منه :
– ممكن تولعلي ؟
– أسف لا أدخن .
ينتابُه القلقُ من الرجلِ الذي يظهرُ جلياً في وجهِه أثرَ جرحٍ قطعي قديمٍ ، وعينُه تكادُ أن تكونَ مغلقةً ، تتلعثمُ الكلماتُ وهي تخرجُ من فمِه متثاقلةً ، فيتنحى ” أبو المجد ” جانباً :
– الساعة كام يا أستاذ ؟
يخرج هاتفَه القديمَ ذا الأزرارِ ، فإذا به يفُاجِأ بالرجلِ يشهرُ في وجهِه مطواةً :
– طلع إللي في جيبك من غير كلام .
وفي فزعٍ تتلعثمُ كلماتُه ، ويرتفعُ عِندَه الإدرينالين . يخرجُ ما في جيبِه طوعًا ، محاولاً السيطرةَ على الرعدةِ التي أصابت جسدَه المتهاوي .
– هذا كل ما معي .
– بس ؟!
يختطفُهم اللصُ ، ويقفزُ إلى القضبانٍ مهرولاً ، حتي ابتلعه الظلامُ المعتمُ ، تعوي صافرةُ القطارِ تعلنُ قدومَه ، يجلسُ أبو المجد على كرسي لجوارِ النافذةِ ؛ لعلَّه يستطيعُ التقاطَ أنفاسِه من هولِ ما لاقاه ، فإذا بحجرٍ طائشٍ تقذفه يدٌ عابثةٌ ؛ يرتطمُ برأسِه :
– أه .. آااه .. دم .. دم
يتلفتُ ، لا أحدَ غيره في العربةِ ، يتألمُ ، يجففُ الجرحَ ، النزيفُ لا يتوقفُ ، يصلُّ إلى محطتِه ، يسرعُ الخطو غيرَ مكترثٍ ببركِ المياه الراكدةِ جراءَ المطرِ ، يدخلُ الحارةَ الضيقةَ ، تخترقُ فتحاتِ أنفِه عطنُ أكوامِ القمامةِ المكدسةِ أمامَ البيوتِ المتهالكةِ في تلك المنطقةِ العشوائيةِ ، تعوي الكلابُ الضالةُ ، تنبشُ في القمامةِ ؛ بحثاً عن طعامٍ ، يصيبُه الاضطرابُ ؛ فتزل قدمه ؛ يطيحُ أرضاً في بركةِ ماءٍ عطنٍ . يصعدُ سُلمَ بيتِه المظلمِ ، وما زال الجرحُ ينزفُ ، وما أن يفتحَ بابَ شقتِه الصغيرةِ ، حتى يتنفسَ الصُعداءَ ، يتحسسُ جرحَه فإذا بابنه يسأله :
– ما بك يا أبي ، وما هذه الدماءُ ؟
– كنت أخرجُ من عنقِ الزُّجَاجَةِ ..
بقلم #سمير_لوبه