ا. د. عادل ضرغام
كاتب و ناقد مصري
استاذ النقد الأدبي الحديث بالجامعة المصرية
في رواية فيلة سوداء بأحذية بيضاء للكاتبة سلوى بكر
يلحّ على قارئ رواية الكاتبة سلوى بكر (فيلة سوداء بأحذية بيضاء) أسئلة عديدة ترتبط بمداراتها الفكرية وحدودها المعرفية، وانفتاح هذه الحدود وتداخلها، وأهم هذه المدارات يتمثل في أثر السياق على الفرد، ومدى قدرته على المقاومة في ظل وجود سياقات خارجية ضاغطة، خاصة إذا كان كيانا يُمارس عليه نوع من القمع المؤسس تاريخيا، في محاولته لصنع وعي خاص قائم على الحرية والتفرد، وعلى تحديد طريق أو اتجاه للحركة دون وصاية أو استلاب من أحد.
هناك في ظل هذا الصراع تداخل بين حكاية الذات الأنثوية وحكاية الوطن، في فقدان الجزئيات واكتسابها، وكأن هناك وحدة تجمعهما، فليس هناك وجود فردي منعزل أو منفصل عن السياق العام، فكلاهما مشدود للآخر ومتأثر به، وإن كان مشهد النهاية يجعل ارتباط الرواية بالذاتي وبقسيمها الذي تنتمي إليه، ويجعل المدار النسوي أكثر حضورا، فالرواية في بنيتها بعيدا عن التأويل وثيقة الصلة بوعي أنثى في اكتسابها للمعارف ووعيها بذاتها، وتشظيها وتغييب صوتها في أحيان كثيرة، لتصل في النهاية إلى تكوين هوية قائمة على التحرر في الحركة والتوجه.
هذا التداخل بين الفردي النسوي والإطار العام للوطن يؤدي إلى تغريبة للبحث عن الإيقاع ومحاولة استعادته، ذلك الإيقاع الذي تحوّل إلى نشاز بالتعدد والتدابر والتباين على المستويين، فهناك إيقاعات متداخلة تشكل التباسا، وتشكل غيابا للطريق، بل تفتح طرقا متعارضة، مما يجعل البشر أو الوطن يتحرك جزء من أفراده –انتهازا أو اهتبالا للفرص- في طريق مشكلين إيقاعا، ويتحرك الباقون مشدودين لإيقاع وقيم قديمة تحفظ لهم حضورهم، حتى لو كان خافتا منزويا. فالرواية تحكي حدثا بسيطا، يتمثل في بداية التعرّف والوعي لشخصية نسوية، ثم اكتمال الوعي والإدراك نتيجة للنزال في جبهات عديدة، ولكن هذه الحكاية البسيطة لا تنفصل عن حكاية الوطن في ابتعاده عن إيقاعه وحركته المعهودة والثابتة، ودخوله إلى إيقاعات غريبة يفقد معها جزءا من منطلقاته لمدى زمني.
الرواية تشكل سباحة ضد تيار جارف، يحتمي بالديني والسلطوي، فكأنها تعري نصاعته، وتشير إليه ضاغطة لتقيس حجم الاختلاف، وحجم الفقد، وحجم الابتعاد عن إيقاعاتنا القديمة، إيقاع البساطة والكفاح، والمتع الهانئة التي تشكل نهاية للسعي، ولو بشكل مؤقت. وتأتي اللقطة الأولى لتشكل مدخلا مهما لتلقي العمل، فتجلي العذراء ليس إكمالا لحكاية الفتاة، وإنما هي جزء أساسي من عطاء الرواية المعرفي، فالرواية بحث عن إيقاع ضاع داخل إيقاعات ملتبسة، فتجلي العذراء، وانتباه الجميع إليه (مسيحيين ومسلمين)، وإيمانهم بقدرتها إشارة لمكوّن أساسي داخل المصريين على امتداد العصور والأزمنة، يتمثل في قيمة المقدس، وقدرة هذا المقدس، فهم يجلّون القداسة، ويضيفون إليها من حكاياتهم أثوابا وأنماطا أخرى تعزّز هذه القداسة، وفي سلوكهم لا يفرقون بين قداسة إسلامية أو قداسة مسيحية أو قداسة صوفية غنوصية، فهم يقدسون محمدا وآل البيت، ويقدسون المسيح وأمه البتول، والشعراني وابن عربي، وكل الأولياء المعروفين، ويقدسون أبطالهم التاريخيين، ويغفرون أخطاءهم العظيمة.
وهذ المكوّن الأساسي أو إيقاع السلوك يتشكل له التباس في لحظات زمنية خاصة، ويفقد وجوده نتيجة لأسباب عديدة بفعل التوجهات والتكوينات الدينية في إثبات النصاعة للذات، ونفيها عن الآخر، ولكن هذا المكوّن يظل موجودا يحتاج إلى من يلفت النظر إلى تجذره، ووجوده عنصرا فاعلا، بالرغم من الطبقات المتوالية التي توضع لمحوه، لأن هذه الطبقات-طالما وجد من يشير إلى هشاشتها- ستظل بالرغم من امتداد الزمن وجودا جزئيا لا يفلح في زحزحة المكوّن الصلب. فهي رواية تبحث عن الأزلي الذي يظل عالقا بالروح، بالرغم من خربشات النزال الطويلة التي يحدثها المتفسخ والمتلاشي وإن استمر زمنا طويلا، وظن البعض أنه مكوّن أساسي.
الثنائيات الضدية
في رواية سلوى بكر هناك اشتغال على الثنائيات المتضادة، سواء من خلال سيمياء الفقد أو التحول لدى بعض الشخصيات الأساسية في الرواية، أو من خلال المقارنات البسيطة التي تقاربها الرواية في بحثها عن إيقاعها القديم أو نفورها من الآني، حيث تتم معاينة جزئيات التحول الكاشفة، ولا يكفّ النص الروائي من الإلماح إليها. فالثنائيات الضدية لها دور في قياس مساحة الابتعاد عن الإيقاع الخاص بالمصريين، فكل حركة أو توجه من هذه التوجهات له أثره في زحزحة المصريين عن إيقاعهم الممتد من الأزمنة القديمة.
ففي الرواية تتشكل الثنائيات الضدية بعفوية شديدة، حتى أن القارئ يشعر بغياب التوجيه، وغياب المقصدية، خاصة حين تحيل الرواية اهتمامها من الفردي والذاتي إلى الجماعي والعام مشيرة إلى نسق تشعر فيه بالانسجام، وإلى آخر جديد تشعر فيه بالغربة وسوء التكيف. وربما ساعد على تجلية هذه الآلية وظهورها الاتكاء على التواريخ بوصفها عناوين، وبوصفها أحداثا مفصلية وبدايات مهمة للتحوّل. لقد جعل ذلك الرواية مشدودة للسياسي والاجتماعي، وأحال الأبطال والشخصيات إلى مجرد أدوات لقباس درجة الاقتراب أو الابتعاد من إيقاع الانسجام، وجعل الشخصية الرئيسة (عفت)- نظرا لوظيفتها المراقبة والمؤطرة لوجهة النظر دون وجود وجهة نظر أخرى مباينة- أداة من أدوات المعاينة لمراقبة العالم داخل الحكاية بأفراده، والإشارة إلى تحولاته التي لا ترحم. وبقاء هذه الشخصية المراقبة متصدرة سلطة السرد من خلال المراقبة، يعطيها نوعا من الوجود الفائض غير المادي، فتتحوّل مشيرة إلى الجزء الصلب من تكوين المصريين الذي قد يختفي متواريا لأسباب عديدة، ولكنه يلحّ واضحا في اللحظات المفصلية، محافظا على خصوصيته من أية شوائب قد تعلق به، ارتباطا بتوجه خاص لفترة زمنية.
ووجود هذه الشوائب لا يعني استمرارها جزءا من مكونها الصلب، لأنها تراقب نفسها باستمرار، وتشير إلى غرابة هذا المكوّن، حتى لو امتدّ وجوده أو طالت هيمنته. فشخصية عفت هنا تمثل الوعي بالذات وحركة التاريخ، وأثرها في زلزلة الثبات، ووجود نوع من الابتعاد عن المكوّن الصلب للهوية. يتجلى ذلك واضحا حين نتوقف في إطار الثنائيات الضدية ومدارات التحول، في نقل الرواية لحديث البطل (حسام)- في ظل استحضاره خطابه الأول- عن الانحلال الأخلاقي الذي يجب أن يقابله ارتباط خاص بالدين تحت تأثير ارتباطه بشيخ من شيوخ النفط بوصف ذلك الارتباط عنوانا كاشفا عن المرحلة في جزئيات لافتة، من خلال تسويغ نقل العالم الغريب إلى السياق والبيئة المصرية، مثل إشارته ان تكون مادة الدين مادة رسوب ونجاح في كل مراحل التعليم، وإغلاق المحلات إجباريا وقت الصلاة.
الرواية باعتمادها على التواريخ المؤثرة تمثل محاولة جادة لمعاينة مساحات التبدل التي أصابت المجتمع نتيجة للسياسات المنحازة، ودخول نمط البداوة الصحراوي فاعلا، وما يتجاوب معهما من آثار سلبية في الابتعاد عن الوجه الحقيقي. وتقوم الشخصية الأساسية بعملية المعاينة والمقاربة وهي داخل النسق، موزّعة إلى إطار قديم مشدودة إليه، ومتأملة لنسق تمارس وجودها داخله شدا وجذبا، وتفرق منه حنينا للسابق. فالرواية ليست معنية بإسدال الثنائيات الضدية بوصفها واقعا فعليا راصدا لمساحات التغيير والتبدل، ولكنها- فوق ذلك- تمارس نوعا من تفكيك هذا الخطاب من خلال تيار الوعي المرتبط بهواجس الذات واكتشافها الواعي لحدة المفارقة، فحين تبدّل قاموس حسام في رده على التليفون من (ألو) إلى (السلام عليكم) تقدم الرواية من خلال تيار الوعي رؤية تفكيكية لذلك الخطاب من خلال قولها (ولكن حضرته يستخدم عشرات الكلمات الأجنبية كل يوم، ويقول بانيو وأسانسير وتلفزيون).
إن الحديث هنا يتماس مع متغيرات المرحلة لتفكيك حال الارتداد عن كل منجزات المدنية المصرية التي حققت سبقا لمثيلاتها في كل البلدان العربية، في ظل وجود دعوات ترتبط بالنظر في عمل المرأة، ومشروعية بقائها في بيتها، فهنا استيقاف لحالات التحول من خلال الانتباه إلى السياسة وتوجهاتها، وأثر ذلك في التحولات التي تصيب بنية المجتمع، وتوجهات أفراده، ويظل أثرها موجودا، فهذا التوجه الارتدادي وثيق الصلة بتوجهات كان لها أثرها، مثل إعفاء السادات أصحاب العمارات التي تحتوي على مسجد من الضرائب أو العوائد، وهو توجه يحمل تحيزا واضحا لدين دون آخر.
والمتأمل للثنائيات المتضادة في هذه الرواية على اكتنازها وبساطتها البنائية يدرك أنها أخذت شكلا يمس كل تصاريف الحياة، بدأت من المأكل والملبس، ومرورا بالمتغيرات الخاصة بالقيم والأخلاق، وانتهاء بالنموذج الكاشف بوصفه شخصية حاضرة. فالرواية تلحّ على مجموعة من الأشياء التي يمكن أن تكون دالة على المقارنة بين الأيقاع وفقدان ذلك الإيقاع، والإيمان بالقيمة والجمال في مقابل الاستهلاك والقبح، لتشكل لنا مقابلة واضحة عن التباين الواضح بين نسقين وعصرين.
ربما تكون أولى الجزئيات ماثلة في النسق المعماري، فمع بداية النسق الجديد، تحوّلت القاهرة في منطق الرواية إلى محاولات تغيير الشكل المعماري، فتتولد مغايرة حادة بين النسقين، من خلال تحويل القصور والفيلات إلى عمارات شائهة قبيحة تكشف عن نزعة استهلاكية رأسمالية. وهذا التصور الخاص بالمقارنة بين نسقين يرتبط برؤية أساسية ممتدة وثيقة الصلة بكل توجه، حيث يلحّ عبدالناصر لدى كثيرين كأنه جزء أساسي من الوجود، تقول الرواية على لسان عفت (كنت أحب عبدالناصر، وأعتبر وجوده في حياتنا أمر بديهيا كشروق الشمس كل صباح). فهذا النسق في ظل هذا التصور لارتباطه بالحلم وإمكانية تحقيقه استمر حاضرا، وأثر على رؤية وتجلي النسق الجديد، وتشير الرواية إلى رؤية بعض المنضوين داخل هذا الإطار إلى أنهم (لم يصدقوا السادات، ولم يثقوا به أبدا).
وفي الإطار ذاته تأتي المقارنة بين أجناس البشر لدى كل قسيم من القسيمين، ففي القسيم الأول يلحّ تعدد الأجناس والأعراق كاشفا عن الوحدة في إطار التعدد من مصريين على اختلاف فئاتهم، ويونانيين، وأتراك وبقايا الأرمن، للإشارة إلى انسجام تام دون نزاع عرقي أو ديني، وفي النسق الثاني هناك محاولة للوصول إلى حالة ناصعة منحازة للعرق والدين، ولا سبيل لمناقشتها، لأنها تنظر للآخرين باستعلاء مقدس، يستمد قداسته من الفهم المتسرّع للنصوص. فمسيرة التغيير والتحول في نسق الرواية طالت كل شيء، مثل القطاع العام الذي تحوّل إلى خاص له شراهته ومنطقه في الربح دون النظر لأية اعتبارات أخرى، كما يتجلى في سلوك حسام وتحوله من سياق إلى سياق.
ففي 1977- وهذا عنوان جزء من الرواية-يطل بوضوح هيمنة النسق الجديد، من خلال الإشارة إلى انفتاح السبعينيات، والارتباط بالمنطقة الحرة، فالانفتاح على المستورد جاوبه محاولات شرسة لقمع الجسد الأنثوي داخل الأردية السوداء التي أسس لوجودها النمط النفطي في مقاربة الحياة والوجود. ولا تتوقف الرواية عند حدود الإشارة إلى الفاعلية، وإنما تعمد إلى تفكيكه، من خلال رؤية شديدة الخصوصية مزدانة بالبساطة من خلال ارتدادها إلى نسقها القديم المختزن، فهذا النسق بوجود الإبياري ورفيقه الخليجيين يكشف – من وجهة نظرها في بيت الإبياري -عن الثراء الفاحش في غياب الذوق الجمالي. ومن خلال المقارنة بين النساء اللواتي التقت بهن في هذا البيت، تتأسس العودة من خلال تيار الوعي إلى لحظات سابقة تكشف بالرغم من بساطتها عن الجمال والتناسق والانتماء (تساءلت بدهشة بيني وبين نفسي: هل نحن في مصر فعلا؟ قفزت إلى رأسي صور زميلاتي بملابسهن المتواضعة، ونساء الأتوبيس وهن واقفات يلهثن بعد الجري وراءه، والصراع لإيجاد موقع قدم لهن، حتى يذهبن إلى أعمالهن في الأوقات المحددة، لا لا أنا في مكان آخر),
وإذا كانت الثنائيات المتضادة في الرواية شكلت سمة أساسية تمتد إلى عمق التكوين في مجمل البنيات المشكلة للمجتمع وطبقاته، وبالتوجه السياسي وانحيازاته، ولكن يمكن للمتلقي أن يعاين ذلك التقاطب الثنائي بشكل أكثر ثراء من خلال تأمل شخصية حسام، بوصفه نموذجا له هالة لدى الشخصية الأساسية في الرواية. ففي صوته أو صورته الأولى هناك اهتمام بالثورة ونماذجها الفكرية، وهناك تأسيس إطار معرفي خاص، يتجلى من خلال البعد عن النمط الديني المشبع بخرافات، فهو يخاطب عفت قبل أن تصبح زوجته (عقبال ما تقودي مظاهرة… وتفردي صدرك للدنيا في أمور حقيقية.. يعني مسائل أكبر من العذراء والموالد).
لكي ندرك عمق التقاطب أو التحول الكاشف عن انتهازية، علينا أن نقف عند جزئيات التكوين الفاعلة في شخصية حسام بداية من منظمة الشباب الاشتراكي، ومرورا بالتكوين الثقافي الذي يعود في معظمه إلى أقطاب اليسار من المفكرين والكتّاب أمثال جوركي وتشيكوف وأميل زولا وبول إيلوار وجاك بريفيرا، وناظم حكمت وبابلو نيرودا. فشخصية حسام تكشف عن التحوّل من النقيض إلى النقيض، فهو نموذج –بعيدا عن كونه ملهما لشخصية عفت في تعرفها وبناء وعيها وإدراكها الأولي- للانتهازي الذي تشكلت قسماته وارتكاساته بفقدان الحلم، فنراه يتحول من نسق إلى آخر، ومن انتماء إلى نقيضه طلبا للمصلحة الشخصية. فهذه الشخصية التي تشكل نموذجا غير حقيقي، مارست دورا يكاد يكون أقرب إلى دور المعلم الذي يسهم في فتح نوافذ جديدة للقسيم الأنثوي الذي أخذ مدى دلاليا أكبر من حدود ماديته المعروفة للتجلي في إطار أكبر.
استعادة الوعي
تبدو العناوين الكاشفة عن أحداث سياسية منطلقا مهما لمقاربة الرواية، ولمقاربة بناء الوعي الخاص بالبطلة التي تغادر حدودها المادية لتلتحم بنسق أكبر. فوضع 1968 في بداية الرواية يشير إلى دلالات فارقة ترتبط بالأفق السياسي المرتبط بالنكسة، بوصفها حدثا أفقد البشر اليقين، وثوابتهم وإيقاعهم، ليس على المستوى السياسي فقط، ولكن على المستوى الاجتماعي، خاصة في إجراءاتهم الدفاعية التي يتوسّل بها البشر للاستقواء على واقعهم. فحادثة تجلي العذراء- بوصفها الحدث الأساسي الذي تولدت من خلاله معظم الحكايا الجزئية الممتدة التي أصبحت عمودا أساسيا للرواية- تمثل آلية دفاعية للخروج من نفق الهزيمة، ومن الأسئلة التي تلح على الدوام للتبرير والتفسير.
فمعجزة الظهور أو التجلي لا تظهر خالية من المسّ الاجتماعي أو السياسي، فالبشر بعد الهزيمة يهتزّ يقينهم في فكرة البطل، ومن ثم يتعلقون بأية بادرة خارقة للنسق المعهود، تصبح من وجهة نظرهم ناجعة في تحقيق أمانيهم، وتخليصهم من أزماتهم المطبقة. فهم بعد تحمل وقع الصدمة يتوجهون نحو معاينة حالهم وتأملها، وإن وجدوا أن المغايرة بين المتخيل النموذجي والواقع كبيرة اخترعوا أساليبهم الخاصة في هدهدة الروح الكسيرة من خلال البحث عن سبيل لاتزانها. فتجلي العذراء في منطق الرواية أنعش ما هو كامن وعميق في الجينات المصرية منذ آلاف السنين، حيث الولع بالموالد والكرنفالات وكل الطقوس الاحتفالية الجمعية.
فتعلق المصريين بالظهور والتجلي مسلمين ومسيحيين لا يحمل إلا بحثا عن يقين لا يتسرب إليه شك، حيث يحلّ بديلا عن اليقين المهتز المرتبط ببطولة كشفت عن عوارها الهزيمة، تقول الرواية (في الأعماق ولدى الجميع ظل الخلاص قرين المعجزة… كان ثمة آلاف من الناس وقتها يرغبون بحدوث خلاص ما). فمشهد التجلي في بداية الرواية ووضعه تحت عنوان زمني 1968 يبدو ذا دلالة مهمة خاصة إذا تمت مقارنته بمشهد الحلم الذي رأته الشخصية الرئيسة عفت في فصل بعنوان 1973، وفيه تقول الساردة (إذ رأيت نفسي مع طنط لويزة في مولد العذراء، بينما حسام يقف بعيدا، ويلوح بالسوط الذي كان يحمله الهجانة وهو راكب على حصان يوم المظاهرات).
يكشف الحلم عن المغايرة من خلال تحول حسام الحامي في 1968 من الهجانة إلى معتد 1973، ليتأسس منحى جديد في تشكيل الرموز بين الثبات والتحول من جانب، ومن جانب آخر يجعلنا نعيد قراءة الشخصية الرئيسة وفق منطق جديد يتسامى بها عن حدودوها. فالشخصية الرئيسة عفت تم تأطير جوانبها بشكل خاص بعيدا عن أي ارتباط أيديولوجي، لتحيل إلى الفرد العادي الذي يفتح عينيه على الوعي والإدراك، ومشهد التحامها مع جماهير الثورة في بداية الرواية كاشف عن هذا المنحى من جانب، ومن جانب آخر كاشف عن مشروعية التوجه الذي سوف يتم اختياره بالتدريج بعد ذلك اكتسابا للوعي، فدخول المظاهرة والتحرك إليها يمثل نوعا من الاستجابة التلقائية.
فالتركيز على الصفات العامة في تشكيل الشخصية الرئيسة مقصود، ليحرك طبيعتها من شخصية حقيقية إلى دلالات عديدة سابحة، منها ما يشير إلى النموذج العادي البسيط، حيث لا يحمل أية سمات خارقة تندّ عن الطبيعي، منها أيضا ما يلتحم بالسياسي المتأثر بالتوجهات والأيديولوجيات المرتبطة بكل حاكم، فتكتسب هذه الشخصية بعضا من كل توجه، وتفقد بالضرورة شيئا من تكوينها القديم المرتبط بالانسجام. وربما ستظل هذه الدلالات للشخصية الرئيسة عفت المرتبطة بكيان أكبر دائمة الحضور من خلال إشارات تجعل هذا الربط له ما يبرره من الناحية الفنية.
في كثير من الأحيان تتسامى هذه الشخصية لتصبح مؤطرا أو مراقبا للوعي العام، في اقترابه أو ابتعاده عن حال الانسجام، فقد تحوّلت إلى متأمل من مكان عال يتيح لها مراقبة المنطلقات والانحرافات التي تصيبها، وتعمل على طمسها أو تغييبها، تقول الرواية على لسانها كاشفة عن كيانها المراقب الخاص للوعي وتفتته (إن البنات في المدرسة لم يعدن يعرفن أن فرنسا احتلت الجزائر، وأن تشومبي قتل لولومبا في أوغندا)، ففي تلك المقولة هناك تعرية للنسق البرجماتي الذي تأسست حدوده مع النسق الجديد، مخالفا في ذلك حدود وملامح النسق الأول الذي كان منفتحا على العالمين العربي والإنساني العالمي.
لكن وصولها إلى هذا التسامي لم يتحقق في لقطة واحدة، وإنما تحقق على دفقات، حتى يمكن القول إنه تحقق على مراحل عديدة تبدأ بالانسحاق تحت سطوة الآخر الذي شكل بابا للمعرفة، ونافذة لكي تطلّ بعينيه على العالم، لا ترى إلا ما يراه، ثمّ تحوّل الأمر بعد ذلك إلى الشك في قيمة الآخر، نتيجة تلوّنه تبعا للمصلحة الذاتية. فهي ذات تتلقى المعرفة من نسق أعلى يتمثل في حسام نظرا لطبيعة المرحلة وتفتح الوعي، ولكن هناك ثمة مساحة من الإيمان بالمبادئ اليسارية التي كانت شائعة في تلك الفترة، إيمان يكفل لها التمسك بهذه الحال، والبحث عن إيقاعها المفقود في لحظات تالية.
ولكن في كل هذه المراحل لم يغب وعي الشخصية، حتى في ظل شعورها بكونها مسلوبة الإرادة، فقد ظلّ التأمل حاضرا، والوعي بالاستلاب موجودا، ومن ثم تبدأ محاولات التغلب عليه، من خلال بناء وعي مفارق يقوم على الثبات ضد التحول. وفي إطار ذلك تتجاور حركة التواريخ مع حركة الشخصيات داخل الحكاية، إما استجابة للفاعلية وسيرا مع تحولاتها، أو مقاومة لوجودها للحفاظ على الكيان الذاتي داخل إيقاعه الجمعي. وفي إطار ذلك تتأسس بنية للتقابل بين الثبات والتحوّل، حيث يمثل حسام- في تناقض مع وجهه الأول الذي كان يؤمن بالثورة والحرية وقيمة المرأة- بنية التحول نحو المد الاستهلاكي، يرافقه ردّة في رؤيته للمرأة ودورها في المجتمع، يقول في حواره مع عفت (زمان قالوا الواحدة مصيرها مهما كان بيت العدل، سموه بيت العدل، تأملي المعنى والنبي وفكري بالعقل).
الرواية من خلال عنايتها بالتاريخ وبالحكاية الفردية تؤسس انفتاحا وتداخلا بين العام والخاص، فهي – أي التواريخ المثبتة- مؤطر للحركة الفردية، ومؤثر في تشكيل التوجهات سلبا أو إيجابا في سلوك البشر، وفي وجود نزوعات التحوّل والثبات. فقد صار حسام- بوصفه علامة على التبدل والتحول- ومن يشابهونه من المهندسين ومقاولي البناء سادة المرحلة وملوكها. وفي ظل هذا الوجود الثنائي الكاشف عن التباين بين الثبات والحركة يمكن قراءة مشهدين وردا في نص الرواية -نظرا لجدل العام والخاص- قراءة مغايرة تبتعد عن تجلي الحدث إلى آفاق أكثر رحابة، خاصة في ظل وجود مشابهة بين عفت وما تحيل إليه من معان تقربها من الارتباط بهالة من الرموز مشدودة إلى الروح المتأصلة التي تزيل ما علق بها من ظواهر ليست حقيقة.
ففي حدود هذا الفهم يظل المشهد الخاص بليلة الزفاف، وغياب قطرات الدم قابلا للتأويل، منها ما يتصل بالسياسي، ومنها ما يتصل بالنسوية وقضاياها واعتبار ذلك جزئية أساسية للنصاعة والعفاف. ولكن الأقرب للقبول في النظر إلى هذه الجزئية يرتبط بالوعي، وبطرح الأسئلة الكبرى من جانب، ومن جانب آخر، تلحّ هذه الحادثة بوصفها إطارا أساسيا لبداية الشعور بانقضاء التصور الكاشف عن الهالة في رؤية البطلة لحسام، فتصبح هذه الصورة في بؤرة المساءلة، وتصبح المبادئ التي يتشدق بها محورا للمراجعة، ومن ثم تبدأ هذه الهالة في التلاشي تدريجيا، وتبدأ الرؤية متحررة من سلطانها، (رمقني حسام بنظرة لن أنساها… نظرة جعلتني أخاف ويغمرني شعور بأن هذا الرجل الذي أسير معه الآن هو كائن غريب تماما عني، إنسان لا أعرفه).
وإذا كان المتلقي في ظل ذلك الفهم يجب أن يحرّك شخصية عفت، ويخلصها من إطارها المادي، فإن تحريك الشخص على الطرف المقابل له ما يبرره، لكي يشير إلى النسق برمته، واعتباره حضورا طارئا بكل ما أوجد من تحولات وتحويرات متجاوبة معه، فذلك النسق في منطق الرواية لا يملك القدرة على تغيير الروح، او تثبيتها خارج الإيقاع الممتدّ عبر الزمن. وحين نعاين فكرة عدم الإنجاب تتأكد لنا التأويلات المفترضة أو المقترحة في كون الشخصية الرئيسة (عفت) لا تمثل وجودها المادي، بل تأخذ مدى يبدأ في النمو، ترتبط بالأثر الأساسي الممتد حيث يمكن أن تغيب بعض توجهاته تحت انحيازات مؤقتة لفترة من الفترات، تقمع فيها الروح، وينحسر الإيقاع، ولكنها تبقى منزوية لا تنتهي، لتطل في اللحظات المفصلية بحثا عن تجليها القديم، وبعيدا عن سجن الأيديولوجيات المتباينة من لحظة إلى أخرى.
فعدم الإنجاب وارتباط ذلك بحركة موازية للسفر إلى بورسعيد، والبحث عن نسق انفتاحي خاص، يشير إلى جزئية الخروج، وهشاشة تأثيره الذي لا يطمس مشروعية التكوين المتنامي والمؤسس تاريخيا وحضاريا، ولكنه يؤكده على نحو خاص، فنحن لا نشعر بالإيقاع وهيمنته إلا من خلال هذا الخروج الجزئي الناتئ، لتتأسس العودة إليه مرة أخرى. يكشف عن ذلك مشهد النهاية الخاص بحتمية الانفصال، وحتمية ضرورة إزالة هذه التكوينات الهشّة التي تعكّر صفو الرةح الدائمة في بساطتها، وفي بحثها الدائم عن إيقاعها في تمدده التاريخي، فلا هوية حقيقية إلا بالتصالح مع ذلك التاريخ، ومع روحه التي تظلّ هائمة متحدة مع الشخصية الرئيسة، ومنبهة إلى كل لحظة من لحظات الالتباس، تفقد فيها الروح انسجامها.